كتاب عربي 21

فقه الجلاشة!

1300x600
صار هذا المصطلح شائعا: "الجلاشة"، وكثيرا ما نقرأ وصفا لتصرفات بعينها بأنها "الجلاشة"، أو "عملنا عليه الجلاشة"، وقد انتقل المصطلح من "الحارة"، إلى ميدان السياسة بوقوع الانقلاب العسكري، ومؤخرا كتبت سيدة وقفت تحاصر الدكتور محمد البرادعي قبل إلقاء كلمته في مؤتمر عن حقوق الإنسان بلندن: "عملنا عليه الجلاشة"!

و"الجلاشة" ليست اصطلاحا يجهله فقط غير المصريين، فظني أنهم في الجنوب المصري لا يعرفون "الجلاشة"، وظني أنها مأخوذة من "الجلاش"، الذي يصنع من العجين، ويوضع بداخله محاصرا اللحم المفروم وما إلى ذلك، وفي الصعيد، وعلى أيامنا لم نكن نعرف "الجلاش"، ربما عرفوه الآن!

"الجلاشة"، هي إذن مفرد "الجلاش" ومؤنثه، والقول "عملنا عليه الجلاشة"، تعني حصار الضحية، وأحيانا الاعتداء عليه بعد حصاره، كما يحدث مع الإعلاميين الذين يرافقون قائد الانقلاب العسكري في رحلاته الخارجية، وإلى دول الفرنجة تحديدا، فلا أحد يمكنه أن يفعل هذا في دولة عربية أو إفريقية!

وغني عن البيان، أنني لم أحتف مع القوم بالاعتداءات التي جرت لهؤلاء الإعلاميين في الخارج، وربما لا أرى فيه ما يمثل الانتصار وما يدفع للسعادة أو يدعو للاحتفاء، وقد تحول من قاموا بـ "الجلاشة" لهؤلاء الإعلاميين إلى رموز، بعضهم وصل به الحال إلى حد أن منهم من نظر لنفسه على أنه بما فعل فقد ارتقى ليكون زعيما، وربما زعيم الأمة، فيرسل لي "بوست" خاصا به أو "فيديو"، ويقول لي بلغة آمرة، ودون إحم أو دستور: "شير"!

ولم يحدث أن كتبت تأييدا لمثل هذه التصرفات، كما لم يحدث أن دعوت للقيام بـ "الجلاشة" على أحد من أنصار السيسي، ولم يسبق لي أن احتفيت بأي وصف مبتذل لقائد الانقلاب العسكري، وفي الوصف الأول ظللت لفترة طويلة أطلب من المعلقين على صفحتي على "الفيس بوك" أن يحترموا رغبتي في عدم ذكر الوصف الدارج والشائع فيما بعد، الذي صار من شيوعه وذيوعه يعني السيسي دون شرح مفصل، وكثيرا ما قمت بحظر من يفعلون ذلك، رغم أنهم من شيعتي؛ فليس لأحد أن يفرض علي مفرداته، فأرض الله واسعة، وأمامه صفحته!

وإذا كنت لا أحبذ التنابذ بالألقاب، فمن باب أولى ألا أقبل بـ "الجلاشة"، وكل إنسان له في مدح النبي غرام، ولم يكن الدكتور محمد البرادعي هو أول من عملوا عليه "جلاشة"، فقد كانت البداية مع الإعلامي حمدي قنديل في الجزائر، ومع الأديب علاء الأسواني في باريس، وإذا كان هذا النوع من "الجلاشة" مبتذلا ومتشنجنا، فأحسب أن "الجلاشة" الأعظم أثرا هي تلك التي قام بها علماء أزهريون في إحدى الدول الإفريقية، عندما استقبلت بلادهم وفدا من الأزهر الشريف، وهي مواجهة يُطلق عليه الاصطلاح المبتذل "جلاشة" تجاوزا، فقد كانت مواجهة راقية، إذ تكلم أكثر من شخص فقال كل منهم أنه يعز عليه وهو خريج الأزهر أن يشارك الأزهر الشريف في تأييد الانقلاب العسكري، الذي قتل الناس، وانصرفوا من اللقاء فسجلوا هدفا عظيما في مرمى الانقلاب!

عندئذ كان الانقسام المجتمعي على أشده، فلم نسمع أصواتا من داخل نخبة الانقلاب تندد بما جرى على أساس أنه خروج على "أخلاق القرية"، بحسب الاصطلاح الشائع للرئيس السادات، وكان يرى أن من مهامه كرئيس للدولة وكرب للعائلة المصرية أن يحافظ على "أخلاق القرية"، ويرى في المعارضة له خروجا على هذه الأخلاق!

الآن، وقد استشعرت النخبة المصرية، أنه غرر بها، عندما خرجت لتمثل غطاء مدنيا للحكم العسكري، وبدلا من أن يعترفوا بذنوبهم ذهبوا ليطلبوا مراجعات من الإخوان، مع أن الجميع قد أخطأ باستدعاء العسكر ليزنوا بالثورة، وبتهميد الأجواء للانقسام المجتمعي الذي بموجبه تمكن العسكر من إيقاع هزيمة بها، واستولوا بذلك على الحكم، وهو الأمر الذي لم يكن لهم منذ تسريح مجلس قيادة الثورة، بعد حركة ضباط الجيش في سنة 1952، فليس صحيحا أننا كنا نحكم حكما عسكريا خالصا طيلة الـ "60" عاما الماضية، كما يحلو للبعض أن يردد!

لقد خرج من نددوا بـ "الجلاشة" التي قام بها نفر من الناس للدكتور البرادعي، واعتبروا أن هذا يتنافى مع الأخلاق، انظر من يتكلم!

أعلم ابتداء أن عودة الثوار أمة واحدة، هو واجب الوقت، لمواجهة سلطة عجزنا عن مواجهتها فرادى، وأن هذه السلطة لم يعد أداؤها فقط يكرس الاستبداد، ويعمل على محو آثار الثورة، فهي بممارساتها إنما تمثل تهديدا للأمن القومي المصري، يخشى معه من أن تسقط البلاد تماما، لاسيما أن عبد الفتاح السيسي يسعى جاهدا لأن يقود البلاد إلى مجاعة مدمرة، كما يعمل على تحويل مصر إلى سوريا والعراق، وإذا كانت القوى الثورية لم تمكنه بضبطها للنفس من ذلك، فإنه قد بدأ مهمته بالتجزئة، ومن سيناء إلى البصارطة، مستهلما فيهما التجربة الإسرائيلية في تهجير الشعب الفلسطيني من أراضيه!

ومع هذا، فلست أستطيع أن أدين من قاموا بـ "الجلاشة" للدكتور البرادعي، ذلك بأن ما بيننا ليس خلافا في وجهات النظر، ولكن حول جريمة ارتكبت، عندما استدعى البرادعي وغيره في جبهة الإنقاذ قائد الجيش، ليطيح بخيار الشعب المصري، وبتجربة وليدة، كان يمكن أن تصحح بالممارسة أخطاءها، وقد ذهب متآمرا ضد الثورة لدى البيت الأبيض ولدى الاتحاد الأوروبي، الذي اعترف بأنه قضى ستة شهور يعمل على إقناعه بالانقلاب، لأن شهوة حكم تملكته، وإذا كانت الوساطة الأمريكية والألمانية  لم تنجح في اختياره رئيسا للوزراء، فليهدم المعبد على من فيه، لعل بهدمه يتمكن بالخراب من أن يقضي من السلطة وطرا، لكن فاته أن المستدعى للانقضاض على المسار الديمقراطي، هو جائع للسلطة مثله، لم يكن ليخطفها ويسلمها للبرادعي وللقوى المدنية!

والأهم، أن هذا الانقلاب، قتل ودمر، وأباد وشوه، وارتكاب المجازر، حيث صار الدم المصري رخيصا بموجب تفويض من القوى المدنية، وإذا كان البرادعي قد ترك الجمل بما حمل بعد مجزرة رابعة، وقدم استقالته احتجاجا عليها، فإنه لم يكن شجاعا لدرجة التنديد بها، وفضح الجريمة لدى "أحبابه" الأوروبيين، فقد كانت شجاعته فقط وهو يتآمر على الرئيس المنتخب، لكنه الآن يغيب عن الوعي لسنوات وعندما يسترد وعيه يكتب "تويتة" يتقدم بها خطوة ويتأخر أخرى، فليس شجاعا أبدا، كما لم يكن أمينا على فكرة الدولة المدنية، على عكس الصورة التي رسمناها له في أذهاننا!

لقد اكتشف البرادعي في الوقت الضائع، أنه سيكون كمن باع تاريخه بحاضر غيره، فقد تم التلاعب به، بعد أن وعد بمنصب رئيس الوزراء، ثم إنه والحال كذلك، سيتم ارتكاب المجازر في وجوده، مما يفقده الشكل الإنساني لدى الغرب، فالشعب المصري لا يعنيه في قليل أو كثير، وإذا كنا منذ بداية نزوله لمصر، قد اعتقدنا أنه سيستخدم حضوره الدولي في الانتصار لمصر، فقد أثبتت الأيام أنه استخدمه للتنفيس عن عقده النفسية، وغرامه بالسلطة، وعلى قاعدة: أنا ومن بعدي الطوفان، فليس معنيا بدولة أو بثورة. وأنا مستعد لأن أغفر له ما تقدم من ذنبه إن هو قاد الجماهير من أجل إسقاط الحكم العسكري، مع إدراكي أنه ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.

وإذا كان البعض انتابه "الإحساس الكاذب" بـ "الرقي" تماما كما انتاب البرادعي الإحساس بأنه فعلا "غاندي" الذي لم يكن يهمه سوى الانتصار للهند وللقيم الإنسانية؛ فقد انطلق البعض يهاجمون من قاموا بـ "الجلاشة" واعتبروها عملا ليس راقيا، مع أن من سمات الإنسان الراقي أن يعتذر عن جرائمه، لاسيما إذا كانت مثل زبد البحر، وقد جرى استغلالهم غطاء مدنيا للانقلاب العسكري، صحيح أنهم والبرادعي كانوا مدفوعين بحسن النية، لكن عليهم أن يعلموا أن الطريق إلى جهنم الحمراء مفروش بالنوايا الحسنة!

"في أوروبا والدول المتقدمة"، يتم أحيانا قذف السياسي بالبيض الفاسد والطماطم، وهو تصرف أسوأ من "الجلاشة" التي نصبت للدكتور البرادعي واستهدفت "تجريسه" ووصفه بالقاتل، وإن كنت أعترف بأن ما جرى هو "حيلة العاجز"، الذي لم يجد وسيلة لكشف الإجرام الذي قام به السيسي. وبعيدا عن الدماء التي سالت والمعتقلات التي فتحت أبوابها للمعتقلين، فإن فكرة الانقلاب على حكم منتخب، تسقط الثقة والاعتبار، وإذا كان مثلي لا يؤيد ثقافة "الجلاشة"، فإنني أجد نفسي مضرا لتوضيح ما يلي:-

أولا: إذا كان البعض يرى بحسن نية أن مثل هذه التصرفات إنما تؤخر وحدة الثوار لمواجهة الحكم الفاشي في مصر، فالدكتور البرادعي لم يعد معنيا بالثورة والثوار، ولم يعد يربطه بمصر سوى جواز السفر الذي أرسلته له وزارة الخارجية على بساط الريح، فعمل "جلاشة" له لن يكون سببا في انشقاق الثوار، فكل طلبات البرادعي أن يكون رئيسا إلا أنه لم يمكن من هذا، فقد وجد سعادته في بلده الثاني: "النمسا" وللدقة بلده الأول، فلم يكن يستطيع أن يمكث أسبوعا في القاهرة رغم هتاف الثوار: "ما فيش رجوع يا برادعي"، والبرادعي في هذه مثله مثل إبراهيم منير وإخوان لندن الذين رتبوا أحوالهم في الخارج ولم تعد مصر تمثل لهم شيئا.

ثانيا: على الذين تحركت فيهم جينات الرقي والمدنية، عندما شاهدوا "جلاشة البرادعي" أن يتوقفوا عن هذا الادعاء، فـ"الجلاشة" فعلها الانقلابيون مبكرا ضد النساء والشيوخ، وفي حماية أجهزة الأمن، وكل جريمة النساء أنهن منتقبات، وكل ما دفع لـ "الجلاشة" للشيوخ كبار السن، أنهم ملتحون، حدث هذا عشرات المرات، ولم نجد نقدا له من أصحاب القلوب الرحيمة الذين ابتزهم لدرجة الاستنفار "جلاشة البرادعي"، فقط مجرد "الجلاشة" ولو كنا في عالم يحترم القانون لكان زمانه الآن في السجن، باستدعائه للعسكر، الذين ألغوا الحكم المدني في مصر، وأقاموا حكما عضوضا، فلم يرقبوا في المصريين إلّا ولا ذمة!

لست مع "ثقافة الجلاشة"، لكن ليس للقوى المدنية أن تظهر في صورة "خضرة الشريفة"!

فشريفة فاضل ليست هي خضرة الشريفة، إنه مجرد تشابه أسماء!