قضايا وآراء

التجديد والتبديد في (خطابهم الديني)

1300x600
في سوق الزمارين وازدحام الطبالين على موضوع (الخطاب الديني) سيكون مهما أن نقرأ قراءات رصينة وعميقة حول موضوع من أهم موضوعات الخطاب الإسلامي بوجه عام وهو السلطة والحكم، ففي سنة 1925 وبعد سقوط الخلافة الإسلامية بعامين صدر للشيخ على عبد الرازق عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر كتابا بعنوان (الإسلام وأصول الحكم) أُعتبر الكتاب وقتها نموذجا لموقف فكرى وسياسي يتبنى العلمانية الغربية كرؤية لنظام الحكم والحياة، كان صدور الكتاب عاصفة مثيره في أجواء الجدل الفكري الدائر حول موضوع الدين والدولة والسياسة وقتها، سيعتذر الشيخ عن الكتاب لاحقا ويتراجع عن تلك الفكرة التي راودته في شبابه، وسيبقى لنا من هذه العاصفة شهادتان على درجة كبيرة من الأهمية -ما أشد حاجتنا لهما هذه الأيام ليتعلم السفهاء كيف يكون الرجال- الشهادة الأولى من سياسي عتيد ورمز من رموز الأمة على مدار تاريخها المعاصر كله وهو سعد باشا زغلول(1857-1927م) والشهادة الثانية من مفكر كبيرو قامة عالية في دنيا الفكر القانون وهو عبد الرازق باشا السنهوري (1895-1971).

كان سعد باشا زغلول وقت صدور الكتاب هو زعيم الأمة المصرية بل وأبرز زعماء العالم العربي وقائد ثورة 1919م، تربى في الأزهر وتتلمذ على جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدة، تحدث الرجل عن كتاب الشيخ على عبد الرازق فقال: (قرأت كتاب الإسلام وأصول الحكم بإمعان وعجبت كيف يكتب عالم ديني هذا الكلام في مثل هذا الموضوع، الرجل جاهل بقواعد دينية بل بالبسيط من نظرياته وإلا فكيف يدعى أن الإسلام ليس دينا مدنيا ولا هو بنظام يصلح للحكم؟ فأي ناحية من نواحي الحياة لم ينص عليها الإسلام؟ أولم يقرأ أن الأمة حكمت بقواعد الإسلام عهودا طويلة كانت أنضر العصور؟كيف لا يكون الإسلام مدنيا و دين حكم؟ والذي يؤلمني حقا أن كثيرا من الشبان الذين لم تقو مداركهم في العلم والذين تحملهم ثقافتهم الغربية على الإعجاب بكل جديد سيتحيزون لمثل هذه الأفكار خطأ كانت أم صوابا دون تمحيص ولا درس وكم وددت أن يفرق المدافعون عن الشيخ بين حرية الرأي وبين قواعد الإسلام الراسخة التي تصدى كتابه لهدمها..) نص كلام زعيم الأمة ومؤسس حزب الوفد قلعة الليبرالية في مصر كما ورد في كتاب (سعد زغلول: ذكريات تاريخية) لمحمد إبراهيم الجزيري: الإسلام دين مدني ونظام حكم، أثمرت دولته عصورا من التمدن هي أنضر العصور والقول بأن الإسلام رسالة روحية فقط هو هدم لقواعد الإسلام، هذا الكلام قيل من ما يقرب من مائة عام وعلى لسان زعيم سياسي ووطني لم تر الأمة له مثيلا.

أما السنهوري باشا صاحب أضخم عقلية قانونية في تاريخنا المعاصر والذي كان وقت صدور الكتاب في باريس يعد لرسالة الدكتوراه عن (فقه الخلافة وتطورها) فقال في نقده للكتاب والفكرة الأساسية التي يدعو إليها: أن -الشيخ- كان يقصد بالدين والدولة في كتابه النموذج الأوروبي المعاصر فالدولة هي مجموع ثلاث سلطات: التشريعية والقضائية والتنفيذية والدين هو القواعد التي تتعلق بعقيدة الفرد وعباداته، وفكرة الدولة والدين لم يكن هناك من تمييز بينهما بهذا الوضوح في عهد الرسول ولا قبلة لأن النظم السياسية كانت تقوم في الأغلب على اعتبارات دينية دون أن يغير ذلك من طبيعتها المدنية !! وهذا ما يفسر لنا الطابع الديني الذي اصطبغت به النظم السياسية في الإسلام أما أن نظم الدولة في عهد النبي كانت غير محكمة- وهى حجة الشيخ على عبد الرازق وكل من يرى رأيه إلى الآن- فذلك بسبب الحالة الفطرية التي كانت تسيطر على المجتمع في جزيرة العرب وأن النبي وضع لحكومته أصلح النظم الممكنة في زمنه لأنها تتناسب مع حالة المجتمع وقتها وهى النظم التي لا تقل في نظمها عن الدولة الرومانية في بدايتها وهذه النظم كانت تحمل في طياتها عوامل التطور والنمو مع الزمن وقد تطورت فعلا دون أن تخرج بذلك عن كونها مؤسسة على قواعد الإسلام، مؤكدا أن السلطات التي باشرها النبي إنما كانت أنظمة مدنية حقيقية.

بعد ذلك بثلاث سنوات(1929م) نشر العلامة الكبير بحثا أخر في نفس الموضوع بعنوان(الدين والدولة في الإسلام) أكد فيه أن الدولة جزء من رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وأن الإسلام الذي يجمع بين الدين والدولة يميز بينهما في ذات الوقت (وهذا كلام هائل الروعة سيحتاج إليه التيار السياسي الإسلامي بعد ثمانين سنة من ذكره) فالدين ثابت والدولة متطورة لأن فيها اجتهادا بشريا قائما على المصلحة والتدبير وهى -يقصد الدولة- خاضعة لحكم عقولنا وتتطور مع الزمان والمكان فهي إذن تابعة للتطور الاجتماعي غير المتناهي كما قال الشهرستاني: (مالي أرى علماءكم يذهبون وجهّالكم لا يتعلمون).

في وسط الصخب الهائل الذي يدور الآن عن (تجديد الخطاب الديني) وهى الجملة التي تكاد من فرط استخدامها تفقد معانيها ومدلولاتها، لم يمر أحدهم مجرد مرور على ما قاله سعد باشا مثلا وهو القول الذي لا تزال حمولته الفكرية والفقهية  حتى الآن من الوزن الثقيل الذي يستحق أن يُقرأ قراءة مرجعية متجددة .وكذلك كتابات ودراسات الدكتور السنهوري التي لا تزال تشكل إطارا مرجعيا عظيما في فقه الدولة والحكم، سيكون علينا أن نتساءل في لوم وعتاب عن السبب الذي لم يوضع فيه الإنتاج الفكري والبحثي  بل والسياسي لكل هذا الجيل من الرواد الكبار على أرضية  التيار السياسي الإسلامي بكل تجلياته، لا لوم على أصدقائنا المنادين ليلا ونهارا بقصة الخطاب الديني في تجاهلهم المريب لأن المتابع الجيد لتلك الحالة سيدرك بلا أي مشقة أن القصة ليست تجديد أبدا بل إهدار وتبديد, وهو ما جعل الأزهر وعلماؤه الأجلاء ينتبهون ويقفوا موقفهم هذا,ما جعل (كلاب الحراسة الجدد ) ينهالون عليهم نباحا بكل البذاءات والسفاهات التي نسمعها الآن.