قضايا وآراء

جمال حمدان.. وجردة حساب أليمة للوطن

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
يوم 17 نيسان/ أبريل 1993، قرأ المصريون خبرا نشر على استحياء وبطريقة باهتة في الصفحة الأولى من جرائد الصباح، خبر في ركن منزو يقول: انفجار أنبوبة بوتاجاز في دكتور جغرافيا، ولم تنشر مع الخبر صورة فوتوغرافية واحدة.

لن يقتنع أحد أن المحرر الذي نشر الخبر لا يعرف من هو دكتور الجغرافيا الذي مات محترقا؟!! 

وإن يكن ذلك، فهل رؤساء التحرير كلهم أجمعين لا يعرفون من هو دكتور الجغرافيا الذي مات محترقا، وفي ظروف مريبة فتأخذهم كلهم نوبة استهبال واحدة، ليتم تجهيل الخبر على هذا النحو المفعم بالغباء؟

كتاب "شخصية مصر" بكل مراحل إصداره، كان قد أصبح ملء السمع والبصر، فإلى جانب أن عنوان الكتاب شديد الجاذبية والدلالة، فهل علينا أن نتصور أن أحدا منهم لا يعرف مؤلف هذا العمل الأسطوري؟ 
سأجدني مشدودا إلى حديث المؤامرة من جديد، وسأجدني أذهب إلى أن الموضوع بأكمله كان ضمن خطة مكتملة الاكتمال، بدأ من الحادث ذاته الذي لم يتم فيه تحقيق أبدا، وانتهاء بنشر الخبر بهذا التجهيل اللئيم.

تقول الحكاية التي وراءها ألف حكاية، أن جمال حمدان (29 كتابا و79 بحثا ومقالة)، كان قد لمع وتلألأ في الحياة العامة بعد ثلاثة كتب: (جغرافيا المدن) و(المظاهر الجغرافية لمجموعة مدينة الخرطوم) و(المدينة المثلثة). 

ونال جائزة الدولة التشجيعية 1959م، وكانت الجامعة في ذلك الوقت في بدايات الانهيار الناصري الذي عم وطم وغطى بر مصر ونيلها، بما فيها الجامعات طبعا، كان الأمني والسياسي قد تغلغل وتوغل (على حد وصف الراحل عبد العظيم انيس) في أركان وجدران وعقول وأخلاق الجامعة والأساتذة.                

بعد أن اشتهر ولمع أسمه، تم تخطيه في الترقية لوظيفة أستاذ (1963م)، فقرر الاستقالة، والاستقالة لم تكن -في رأيي- لهذا الموقف، بل كانت ليقينه أن هذه الأيام ليست أيامه، وما أصعب وأقسى أن تعيش وجها لوجه مع ما تكره! 

وما كان لمثله أن يكون أستاذا جامعيا يقف أمام طلابه وهو يرى مصر تتجه بخطى متسارعة نحو (الانحلال العظيم)، فأثر الاستقالة من الحياة العادية بأسرها، وليس من الحياة الجامعية والأكاديمية فقط. 

ولعل حياته في العزلة تفاصيلها كلها وأوصافها، تشير بشكل مؤكدة إلى هذا القرار في عمق أعماق نفسه، وإلا ما عاش هذه المعيشة، ولا سكن هذا المسكن، الراحل الكبير الأستاذ هيكل، حين رأى مكان إقامته أخذه الذهول والدهشة، ولم يستطع تصور أن من أنتج (شخصية مصر) يسكن في هذا المكان.

كانت أمامه العديد من الفرص العظيمة للعمل المعزز المكرم في الجامعات العربية، وكان زملاؤه وتلاميذه الذين يعرفون قدره قد وطدوا لأنفسهم أماكن وطيدة، لكنه بالفعل كان قد قرر الاستقالة من الحياة العادية المألوفة. 

مثل جمال حمدان، قيمته تتجاوز كل توصيفات البشر العادية، أستاذ جامعي أو مفكر أو فيلسوف أو استراتيجي، المكين قبل المكان كما يقولون، وستعرف الدنيا والناس قيمة هذا الاسم بما تركه من أثر بعد عقود وعقود، ليس لأن المعاصرة حجاب فقط، ولكن لأنه لم يأت بعد من يستطيع أن يضع ما أنتجه هذا العقل الكبير الموضوع الذي يليق بهم منهجيا واستراتيجيا.

كان طبيعيا، أن يعتبر الصهيونية والتمزق العربي وضعف العالم الإسلامي وفقدان العدل الاجتماعي والطغيان السياسي ألد أعداء مصر، وأكبر تهديد لأمنها القومي والتاريخي والوجودي، وكانت قضية فلسطين هي قضيته الأولى، وشغله الشاغل. 

وصرح بأن الكارثة التي تعرضت لها فلسطين على يد الصهيونية هي سابقة ليس لها مثيل قط في تاريخ العالم الحديث، والعالم الإسلامي، والعالم الثالث. 

وكان يرى أن الخطر لا يستهدف الأرض المقدسة في فلسطين فقط، وأن التهديد لا يقتصر على العالم العربي وحده، إنما يمتد إلى العالم الإسلامي كله. 

وكان دائم التذكير، بأن (الصهيونية اليوم هي أكبر خطر يواجه العالم العربي، وأن تحرير فلسطين سيؤدي إلى وحدة العالم الإسلامي السياسية، وأن وحدة العالم الإسلامي ستؤدى إلى  فلسطين).

في كتابه "أنثربولوجيا اليهود"، أثبت بأدوات البحث العلمي المجردة أن اليهود المعاصرين الذين يدعون أنهم ينتمون إلى فلسطين ليسوا هم أحفاد اليهود الذين خرجوا من فلسطين، وإنما ينتمون إلى إحدى القبائل التتارية التي عاشت بين (بحر قزوين) و(البحر الأسود)، واعتنقت اليهودية في القرن الثامن الميلادي. 

وهو ما أكده أيضا العلامة الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله،  في موسوعته الشهيرة (اليهود/ اليهودية/ الصهيونية).

في كتابه (استراتيجية الاستعمار والتحرير) الذي صدر بعد "الهزيمة العارية" في 1967، تنبأ بانهيار الشيوعية، وتفكك تلك المنظومة التي تكونت حولها وتفتتها، وهو ما حدث بالفعل بعد عشرين عاما تقريبا عام 1975- 1984 تفرغ تماما لعمله العظيم (شخصية مصر/ دراسة فى عبقرية المكان). 

وتناول فيه خصائص الشخصية المصرية، وعلاقة تلك الخصائص بجغرافية مصر (موضع وموقع) وأيضا بنيلها العظيم.

تأمل قوله: "بقيام إسرائيل عام 1948 فقدت مصر ربع دورها التاريخي، وبهزيمة 1967م فقدت نصف وزنها، وبكامب ديفيد فقدت وزنها جميعا، فلم تعد مستقلة ذات سيادة، وإنما هي محمية أمريكية تحت الوصاية الإسرائيلية، أو العكس، محمية إسرائيلية تحت الوصاية الأمريكية.

وفي كامب ديفيد ماتت فلسطين، وتم دفنها في مدريد وواشنطن"، في إشارة إلى مؤتمر مدريد للسلام الذي عقد عام 1991م..
 
وبشكل مبكر جدا، أبدى خوفه من تراجع الزراعة في مصر، التي ببساطة شديدة تعني كل شيء للمصريين، تعني الحياة والنماء للبلاد، ومن غير الزراعة ستتحول مصر (إلى مقبرة بحجم الدولة)، لأن مصر بيئة جغرافية مرهفة وهشة لا تحتمل العبث، ولا تصلح بطبيعتها للرأسمالية المسعورة الشرهة. 

وقال إن مقتل مصر -والعياذ بالله- في تحولها إلى الرأسمالية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

وأضاف أن مصر تتحول لأول مرة من (تعبير جغرافي إلى تعبير تاريخي)، بعد أن ضاقت أمامها الخيارات، ليس بين السيئ والأسوأ، وإنما بين الأسوأ والأكثر سوءا، واصفا بقاءها واستمرارها بأنه نوع من القصور الذاتي.

ويرى أن الأمور لو صارت على ما هي عليه، فإن المستقبل أسود لأول مرة في التاريخ يتغير مكان مصر في العالم، ومكانتها إلى الأسفل فتجد نفسها لأول مرة في وضع لم يسبق لها أن كانت عليه أبدا. 
 
ومن الثوابت التي أشار إليها العلامة الكبير، حقيقة (الوحدة الجغرافية والعضوية والحضارية) لهذا الوطن، ساخرا مما يقال حول بمشاريع إسرائيل والصهيونية والغرب لتفتيت مصر، ويعدّ هذا نوعا من السفه والجنون، قائلا إن مصر أقدم وأعرق دولة في الجغرافيا السياسية للعالم، غير قابلة للقسمة على اثنين، وإنها نبت طبيعي بحت. 

كلمات عظيمة كتبت بعقل عظيم ووجدان عظيم وصدق عظيم. 

رحم الله جمال حمدان، وبارك فيما تركه من علم لوطنه وشعبه.
التعليقات (0)