مدونات

عبادة الجسد وبنية السُّلطة "سوسيولوجيا الفرد المقدس"

نادر نجم
نادر نجم
إن منطق العبادة يقتضي في مقدمة أولية جدا وجود مسلَّمة التفوق، العلوْ، إدراك فعليٌ وليس ضمنيا بأن الآخر يمتلك وجودا متفوقا على وجودي في المرتبة والقوة. حتى إن أول اختبار لهذه المسألة في التاريخ، هو ما قام به إبراهيم النبي تجاه "المعبود" آنذاك. بخبرة شعورية إيمانية لا تعدوا خبرة طفل يجتهد في اكتشاف العالم. 

والسؤال يتجه مستنفرا، محترقة أدواته بين من، وكيف، ولم؟ لذاك الشرير الذي أقنع الإنسان بأن يعبد صنعته، ويقدس لها، ويجعل لها كنها مفارقا،  ثم بدأ التوريث، واستوحشت ثقافة الجهل وكذلك التجهيل بحق الأجيال لأن تسَّلم هي الأخرى بأن " هذا ما وجدنا عليه آباءنا"، معيارا لما لا يمكن الخروج عنه. 

وبالتالي يتنحى العقل الجمعي وكذلك العقل الخاص عن تأدية ما هو منوط به في هذه الحالة غثائية المعرفة؛ حيث يصبح العقل فقيرا متخاذلا عن اتخاذ القرار. فيمارس "المعبود" سادية تجاه من وقع تحت سطوته من المازوخيين. كرجل (كافكا) الذي أمضى عمره باحثاً عن باب الجنة، ولما وجده قال له الحارس "قف"، فوقف الرجل منتظرا إذنا بالدخول، ذاك الذي لم يحصل أبدا عليه وأُغلِق الباب فيما بعد. هذه الاستجابة الغريبة التي لا تتناسب مع عناء البحث. لكنها السلطة، التفوق. اعتقاد رجل (كافكا) أن حارس الجنة متفوق، فانصاع لأمره متجاهلا ما أفناه في البحث عن الهدف.

إن اعتقاد الآخر بتفوق أناي عليه؛ يخلق هُوة تدخلني بكامل وجودي الأيدولوجي والإبستمولوجي إلى لاواعيه الخاص، فأُملي عليه ما شئت ولم يشأه هو. لكنه يهم في الإنجاز والعمل وفقا للأوامر الجديدة. هذه الهُوة كفيلة بأن توجه فعل الجماهير ليس فقط لعبادة الأوثان الفكرية -الجسد- ، بل إلى أن تحوز قدرا من الدموية أو البطولة يمكن أن يدمر العالم أو يعمره. بالضبط كحالة التنويم الميغناطيسي حيث يصبح المنوَّم أداة يدفعها المنوِّم حيث شاء.

ومن ثم تتجلى خصائص الفرد المنخرط في ذاك الجمهور الموجَّه -كما يحددها جوستاف ليبون في كتابه سيكلوجية الجماهير- بحيث تتلاشى شخصيته الواعية ويتحكم فيه لا وعيه، وبالتالي تتحرك الجماهير آنذاك بواسطة الشحن أو التحريض والعدوى للعواطف والأفكار، ومن ثم تتحول أفكار المحرِّض إلى فعل وممارسة. 

عند هذه الحالة يتشكل بيد الجماهير ذاك الزناد؛ الذي من شأنها أن تطلقه على العالم بأسره. فيعبد الأفراد جسد الفقيه عوضا عن المقدس. ومن ثم يكون مبرَرَا جدا فعلُ ذاك الإرهابي الذي يردتي أداة قتله كانفجار في وجه العالم، وانتصارا لـ لا واعيه الذي يتم التحكم فيه عن بعد.

وكذلك تتحول علاقة الأفراد بالوطن وعلاقة الوطن بالأفراد إلى علاقة عبادة لجسد الرئيس، يصعد السلم آنذاك من كان ذا قدرة أكبر على التملق والانبطاح. في هذا المناخ يتسيد المجتمع أراذله، وينزي المثقفون، ويبرز الوثن بروز الشمس، ويقدم الناس القرابين ويقرِّب الوثن من كان ذا قربى.

ألا كم من الجرائم ضد الحرية والعقل والفكر والإنسان أيضا قد خلفها ذاك التزاوج غير الشرعي بين سلطة المقدس والسلطة السياسية؟! ألا كم من القمع والقهر والشرور التي جلبها للعالم تغييب العقل والاحتكام لعقل ضالع في التاريخ، يخلق له الدراويش هالة من القداسة والعصمة لم ينسبها هو لنفسه في مشهد مازوخي يهوى مقعد العبد في جدلية هيجل؟! 

إلى هنا يضع الإنسان ذاته ووجوده في مرتبة دنيا إراديا أو لا إراديا، تحت وطأة وجود أقل منه كالأوثان، وفي أحسن الأحوال وجود يوازي وجوده كإنسان آخر. في كل الحالات والأزمان يكون لهذا الجسد المعبود مروجوه وآلياته التي تجمع له ولاءات الناس، حيث تنشئ السلطة قانونا أو عرفا أو طقسا ما، ثم يتحول هذا القانون أو العرف أو الطقس إلى سلطة جديدة لا يمكن خرقها، كما تكون عندها قادرة على توليد مزيدا من السلطات والقيود على العقل. الذي يثقل كاهله أولئك الذين يسحقونه لصالح عقل ضالع في التاريخ فكَّر مرة نيابة عما تلاه من عقول، بل ويعتبرون التفكير جريمة والتنوير سبة.  فيجعلون الوثن يفكر نيابة عن الجميع وللجميع، دون أن يملك الناس رفاهة التعقيب أو الرفض. 

*باحث مصري

0
التعليقات (0)