قضايا وآراء

شهادة للتاريخ

محمد خليل برعومي
1300x600
1300x600
لم يتجاوز سني الأربع سنوات حين وقع إلقاء القبض على والدي بتهمة الانتماء إلى جمعية غير مرخص لها. هاجمت قوات الشرطة البيت بأعداد كبيرة بعد أن قاموا باختطاف أخي الأكبر (7 سنوات) من المدرسة وهددوه بالسلاح من أجل دلّهم على مكان والدنا.

 كنت بين أحضان والدتي المنهارة قهرا وكمدا حينها.

 اعتقلوا أبي وهشموا كل ما في الغرفة التي أوينا إليها هربا من الظلم. 

جمعوا كل الكتب ولم يترددوا في سرقة بعض متاع والدتي. هاجمت أحدهم لأنه أراد سرقة لعبتي فلم يتوان عن دفعي بكل ما أوتي من جهد.

كانوا يحمّلون الكتب وأغراضنا البسيطة في السيارات وقد تجمعت أعداد غفيرة من الناس حول المكان ترقب الحدث.

أحد الجواسيس (القوادة) كان يصرخ زورا بين الناس: لقد وجدوا أسلحة خطيرة، إنهم إرهابيون...
حوكم والدي وعشنا أياا عصيبة بسبب التشويه الأمني والمضايقات التي لم تنته يوما لأكثر من 20 سنة.

تفاصيل كثيرة مرهقة ومنهكة للذاكرة والخيال ولكن لم تخل قلوبنا من حب تونس لأننا تعلمنا منذ نعومة أظافرنا أن حب الوطن من الإيمان، وأننا في معركة الحياة الطويلة علينا أن نكافح من أجل الانتصار على الظلم وإرساء العدالة.

أقول هذه الكلمات في سياق جلسات الاستماع لضحايا الاستبداد التي تعقدها هيئة الحقيقة والكرامة ضمن ملف العدالة الانتقالية.. حيث يمثل هذا الحدث فرصة لحفظ الذاكرة الوطنية ورد الاعتبار لمناضلي الدكتاتوريّة.

إن كشف بعض الحقائق من تلك الحقبة المظلمة ليس مدعاة للحقد والكراهية ولا يجب أن يكون سببا لإثارة النوازع الانتقامية، بقدر ما هو فرصة للنظر في الماضي واستخلاص الدروس والعبر من مجرياته.

لقد تأكّد للجميع أنّ الأفكار تنتصر على السّوط وأنّ الكلمات لا تموت وأنّ إرادة الشعوب لا تقهر لأنها من إرادة الله.

لقد استعلمت أجهزة الدولة للنيل من المنافسين السياسيين وتحولت من أداة لخدمة الشعب إلى أداة للتغلّب والظلم، ما أدى إلى ثورة شعبيّة عارمة..

وهو ما يفرض على الجميع اليوم التعاون في بناء دولة المؤسسات الساهرة على تطبيق الدستور والحامية للديمقراطية.

عملية المصارحة هي انتصار للكرامة الوطنية وحقوق الإنسان، على عكس ما يظن البعض من أن هذا المسار يخدم طرفا سياسيا بعينه.

إن ما تحقق من منجز ديمقراطي وطني لا يمكن المراكمة عليه دون الاعتراف بأخطاء النظام السابق وحماية الدولة من الانزلاق مجددا إلى مثل هذه المحاذير، تحت أي غطاء وأي عنوان.. 

إلى جانب أهمية إدراك جوهر الحياة السياسية القائم على التنافس والتداول والسعي لخدمة الناس وليس التصادم والصراع وتبادل الإقصاء، ما يشوه صورة السياسة والسياسيين ويوسع الفجوة بينهم وبين عموم المواطنين.

من الضروري تمهيد طريق المصالحة وطي صفحة الماضي عبر بناء علاقات جديدة في مناخ يتوفر على الحد الأدنى من الثقة والاحترام المتبادل، خاصة في هذه الفترة الصعبة التي تعلو فيها أصوات الفتنة الرامية لاستعادة مشاهد الاستقطاب.

* رئيس منتدى الفكر السياسي والاقتصادي.
0
التعليقات (0)

خبر عاجل