قضايا وآراء

تركيا واستدارة لازمة نحو الشرق

علي البغدادي
1300x600
1300x600
لم يكن يدور بخلد د. أحمد داود أوغلو وهو يصوغ نظريته التي تبنتها الدولة "صفر مشاكل" بأنها ستتحول إلى "صفر جيران"، بل إن الأمر تعدى حدود تدهور العلاقات مع الإقليم المحيط ليشمل أيضا البيت الداخلي التركي، عبر ثالوث نشاط حزب العمال الكردستاني وتفجيرات تنظيم الدولة وتآمر جماعة "غولن"، الأمر الذي يستدعي إعادة النظر في علاقات تركيا وسياستها الخارجية، فتركيا دولة عظيمة تحتل موقعا جوسياسيا فريدا في العالم، وهذا ما منحها عنصر قوة، كما جعلها عرضة للاستهداف أو على الأقل التأثر بالمحيط الملتهب.

هذا الموقع الفريد لتركيا منحها فرصة أن تكون دولة عضو في حلف الناتو، وهي الدولة الإسلامية الوحيدة المنتمية لهذا الحلف، وجيشها هو الجيش الثاني بعد الجيش الأمريكي من حيث تعداده. ولا شك بأن علاقة كهذه ستكون علاقة متشابكة على كل مستويات الدولة التركية، ومتغلغلة في ثنايا أجهزتها، فهي علاقة عريقة ممتدة لما يناهز الخمسين عاما، منحت لتركيا تسهيلات عسكرية وساهمت في قوة جيشها الجرار، وفي تشكيل منظومة ردع تحتمي فيها تركيا من أي خطر خارجي. كما ألقت هذه العلاقة بظلالها بشكل كبير على منظومة العلاقات الخارجية التركية، بحيث أصبحت محكومة بأن تسير في الفلك الأمريكي، أو على الأقل أن تحرص على رضا واشنطن في قراراتها الاستراتيجية. وقد أشار د. أحمد داود أوغلو في كتابه "العمق الاستراتيجي" إلى مفارقة تعاني منها تركيا في هذا الصدد، فمصلحتها الاقتصادية المباشرة مرتبطة بعلاقتها مع الشرق وخصوصا إيران وروسيا، ولكن كلما اقتربت تركيا من الشرق شعرت واشنطن بعدم الرضا، وكلما حرصت تركيا على رضا حليفها الاستراتيجي الأمريكي تأثرت مصلحتها الاقتصادية المرتبطة بعلاقتها مع الجوار. وقد ناقش د. أحمد داود هذا التناقض وأكد على أهمية تفهم أمريكا لطبيعة المصلحة التركية!

ما يظهر في طرح داود أوغلو أنه كان مدركا أن نظرية "صفر مشاكل" التي تدور حولها الدبلوماسية التركية، ورؤيته بتحول تركيا من دولة جسر بين الشرق والغرب لدولة مركزية إقليميا ودوليا وعملاق اقتصادي صاعد، هي نظرية متناقضة مع عضوية تركيا في حلف الناتو، واعتبارات ذلك التحالف بضرورة التموضع خلف سياساته وتبني صداقاته وعداواته.

ولا يغيب أيضا على صناع القرار في تركيا أن أنماط التحالفات الدولية في السنوات الأخيرة تغيرت عن ذلك النمط الذي كان سائدا في زمن الحرب الباردة وما بعدها، فالعلاقات الدولية أصبحت متقاطعة ومتشابكة، ولم يعد ذلك النمط القائم على التمحور حول الهيمنة الأمريكية أو وفق مفهوم "معي أو ضدي"، فأصبحنا نرى مثلا علاقات متميزة بين إيران وروسيا، وفي نفس الوقت علاقات متميزة بين "إسرائيل" وروسيا. ونفس الأمر ينطبق على الصين، فالعلاقات الدولية بدأت تأخذ الشكل الشبكي المتقاطع وليس شكل التحالفات المحورية، بما يعني بأن علاقة قوية بين تركيا وروسيا أو بين تركيا وإيران يجب ألّا تغضب واشنطن، كما أنها لا تتعارض مع العلاقة التاريخية بين تركيا ودول الناتو أو بين تركيا والسعودية.

إن هذه الرؤية تستلزم المراجعة وإعادة النظر في علاقات تركيا الخارجية نحو المزيد من استقرار القرار، بما يحقق مصلحتها أولا بغض النظر عن رضا واشنطن أو غضبها، لا سيما وأن تاريخ العلاقة بين تركيا والناتو فيما يخص المصلحة التركية وأمنها القومي ليس بتلك النصاعة. فغني عن القول إن حادثة الانقلاب الأخير أظهرت تخاذلا من قبل دول الناتو في دعم الشرعية التركية (وتشير تقارير إلى نوع من التواطؤ) وفي أزمة إسقاط الطائرة الروسية في العام الماضي، لم يزد دعم الناتو عن كتابة بيان دون موقف عملي. وإذا رجعنا إلى الوراء قليلا، فموقف حلف الناتو في حرب تحرير قبرص احتوى تهديدا ضمنيا لتركيا.

إن هذا المشهد يحتم على تركيا التفكير في بدائل مقبولة عن الالتحاق وراء سياسات الناتو، بما يحقق أمنها القومي ويحفظ مصالحها الاقتصادية والاستراتيجي، وهنا تظهر البدائل في الشرق ممثلة في:

1) التوجه نحو روسيا

وتأتي زيارة الرئيس أردوغان لروسيا في هذا الصدد، وتحركه السريع لإعادة العلاقات ليس مفاجئا، فردود الأفعال التي أعقبت إسقاط الطائرة الروسية أثرت سلبيا على كل من تركيا وروسيا بدرجات متفاوتة الأمر الذي فرض على الحكومتين النزول من فوق الشجرة. فبحلول عام 2015، احتلت روسيا المرتبة الثالثة في حجم التبادل التجاري مع تركيا، ورابع أكبر مصدر للاستثمارات الاجنبية، والمورد الرئيسي للغاز الطبيعي، بالإضافة إلى حجم تدفق السياح الروس الذين أصبح مشهدهم مألوفا في المنتجعات التركية.

وقد ركزت موسكو في عقوباتها على الأركان الثلاثة للعلاقة الاقتصادية بين البلدين: الزراعة، والبناء، والسياحة. فحظرت روسيا واردات العديد من الأطعمة التركية، وقيدت أنشطة شركات البناء التركية في روسيا وحظرت رحلات الطيران بين البلدين، وألغت اتفاق السفر بدون تأشيرة بين موسكو وأنقرة.

ووفقا لتقديرات البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، فإن العقوبات الروسية على تركيا أدت إلى تقلص الناتج المحلي الإجمالي في تركيا بنسبة 0.7% في عام 2016، بالمقارنة فيما لو استمرت العلاقة الطبيعية بين البلدين ولم تنقطع.

ورغم عمق العلاقة الاقتصادية بين البلدين، إلا أن هناك تباينا في المصالح الاستراتيجية بينهما بدءا من سوريا (ويأتي الانتصار الأخير الذي تحقق في حلب ليضيف ورقة في يد أردوغان)، وهناك خلاف في المسألة الأوكرانية والاعتراف بضم القرم، وهناك الصراع الأرمني الأذربيجاني الذي أدى إلى تفاقم التنافس بين أنقرة وموسكو في منطقة القوقاز، بالإضافة إلى المضائق البحرية. وكل هذه الملفات ينبغي تفكيكها، أو على الأقل تحييدها والقفز فوقها سعيا لاستمرار علاقة تنفع الطرفين، حيث على موسكو أن تسعى لتبديد المخاوف التركية في هذا الملفات، وبالتالي تعطي أنقرة مجالا للاستقلالية عن حلف الناتو؛ لأنه فعليا يوفر لتركيا الحماية من الخطر الروسي في هذه الملفات الحساسة.

لقد وفرت محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا أرضية مناسبة لزيادة التعاون بين روسيا وتركيا، ولا شك بأن هناك مخاوف تركية حقيقية من روسيا، وهي بحاجة لطمأنة عبر الوصول لشراكة متكافئة بين البلدين، وليس على أساس استغلال روسيا للضعف التركي في هذا الوقت. ويبدو أن الروس مدركون لأهمية استغلال توتر العلاقات التركية الغربية لجذب تركيا شرقا وفق علاقة استراتيجية؛ لأن ممارسة الابتزاز في هذه الظروف قد تؤدي إلى تحسين العلاقة مؤقتا عبر الإكراه، ولكن لا تبني علاقة استراتيجية مستدامة.

2) تطوير العلاقة مع إيران

رغم الخلافات في الملفات الإقليمية، إلا أن الثابت الرئيسي في العلاقات التركية الإيرانية، كما يقول الباحث الإيراني حسن أحمديان، هو "التمييز بين الثنائي والمتعدد الأطراف"، ويعني بذلك أن كلا من طهران وأنقرة حريصتان على عزل علاقتهما الثنائية عن التطورات الإقليمية. وبناء عليه، قررتا أن تبقيا الأزمات الإقليمية - والخلاف الواضح حولها - في حدود الأزمات ذاتها وعدم إدخالها في إطار العلاقات الثنائية، وذلك لأن هناك مصالح حقيقة مشتركة بين البلدين (تم الاتفاق على زيادة التبادل التجاري من 14 مليار ليبلغ 35 مليار دولار في نهاية 2016)، كما أن البلدين متضرران بشكل مباشر من حالة الفوضى في المنطقة، وبأيديهما العمل معا على تسوية الأوضاع والعودة بالمنطقة إلى الاستقرار. فالمنطقة بحاجة إلى تسويات تاريخية بعد أن أنهكها سيل الدماء.

ولا يمكن تحصين الأمن الإقليمي إلا بجهود تركية إيرانية مشتركة، وإلا فإن شبح انتقال الفوضى إلى عقر دارهما أمر محتمل، وهما كلاهما ليسا بمأمن عن خطر الإرهاب والتقسيم الداخلي والتدخل الخارجي.

وقد لمسنا بالفعل خطابا تركيا جديدا قبل الانقلاب يسعى لتطبيع العلاقات مع الجوار كما أن الموقف الإيراني الرسمي – بعيدا عن بعض التصريحات الإعلامية العاطفية - كان موقفا واضحا ضد الانقلاب وقلقا من تداعياته. ولم يخل الأمر من تصريحات مغرضة بسبب الخلافات مع سياسة الحكومة التركية في سوريا، لكن المواقف السياسية العقلانية كانت ضد الانقلاب، وإن اختلفت مع أردوغان، وذلك لأن المخاطر والتهديدات الأمنية التي كان يمكن أن تترتب على الانقلاب حال نجاحه ستؤدي إلى انتشار عدوى الفوضى من جارتها التي تصل الحدود المشتركة معها إلى قرابة 500 كم، كما أن البديل الذي كان يمكن أن يخلف النظام الحالي؛ مدعوم أمريكيا ولن يكون لصالحها، وهو بذلك يعتبر أسوأ من النظام الحالي، كما أن لغولن مواقف عدائية واضحة تجاه إيران.

3) عضوية منظمة شنغهاي

تعتبر منظمة شنغهاي للتعاون من المنظمات الواعدة عالميا، وهي منظمة اقتصادية، لكن لها بعدها الأمني والاستراتيجي، وتضم كلا من روسيا والصين وكازاخستان وأوزبكستان وقرغيزستان وطاجيكستان. والمثير أن المنظمة قد اتخذت في القمة الأخيرة التي عقدت في حزيران/ يونيو الماضي قرارا بقبول ضم كل من باكستان والهند، العدوين اللدودين. وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه سابقا عن شكل التحالفات الحالية، فالعداء التاريخي بين الهند والباكستان لم يمنعهما من الانضمام سويا لمنظمة إقليمية، بل وأمنية، واحدة.

والمنظمة أيضا تحتوي أعضاء بصفة "مراقب"، وهي دول إيران ومنغوليا وأفغانستان، وهناك دول بمرتبة "شريك في الحوار" مثل روسيا البيضاء وسريلانكا، وسوريا ومصر اللتين تقدمتا مؤخرا بطلبات للانضمام، وبالتالي فإن المنظمة باتت تضم أكثر من نصف سكان العالم، وتعتبر أقوى تكتل اقتصادي عالمي مرتقب تزيد ميزانيته عن 800 تريليون دولار، ومن المبكر الحديث عنها كمنظومة مرتقبة توازي ثقل الناتو رغم بعض التصريحات المتفائلة بهذا الشأن.

والجدير بالذكر أن تركيا انضمت للمنظمة منذ عام 2013 بصفة "شريك في الحوار"، وكان من المنتظر أن يتم بحث قبول كل من إيران وتركيا بالإضافة إلى الهند وباكستان في القمة الأخيرة، إلا أنه تم تأجيل بحث عضوية إيران لبعض الأسباب رغم رفع العقوبات الدولية عنها، أما تركيا فقد حال التعنت الروسي بعد أزمة الطائرة بشكل أساسي دون ذلك، بالإضافة إلى الخلافات بين تركيا والصين في مسألة شعب الإيغور، وإن كانت هذه ليست بالمسألة الخطيرة، ومن المنتظر أن يسهم التقارب الروسي التركي الأخير في إعادة تحريك الملف.

وكانت تركيا تضغط باستمرار للانضمام إلى منظمة شنغهاي كلما تعثرت محادثاتها للانضمام للاتحاد الأوروبي، وهي محاولة تبدو بلا أفق، إذ رغم كل الجهود السابقة، إلا أنه حتى هذه اللحظة لم يغلق بعد سوى ملف واحد من 14 ملفا تم فتحها، من أصل 35 ملفا هي شروط استيفاء معايير الانضمام للاتحاد الأوروبي.

لذلك فإن الانضمام لمنظمة شنغهاي هو مسألة مهمة استراتيجيا لتركيا لمنحها المزيد من الاستقلالية عن سياسات الناتو، ولتعويض عدم قبولها في الاتحاد الأوروبي. وكما عبر وقتها أحمد داود، فإن تركيا مستقبلها في آسيا مع شريكاتها في منظمة شنغهاي وهي الشعوب التي عاشت معها ليس مئات السنين، بل آلاف السنين.
التعليقات (0)