كتب

ميليشيا الإلحاد.. مدخل لفهم ظاهرة الإلحاد الجديد

تحدث عن مفهود "الإلحاد الجديد"
تحدث عن مفهود "الإلحاد الجديد"
رصد الباحث السعودي، عبد الله بن صالح العجيري في كتابه "ميليشا الإلحاد.. مدخل لفهم الإلحاد الجديد"، والصادر عن مصدر تكوين سنة 2014، بدايات تكون ظاهرة الإلحاد الجديدة في العالم الغربي، والتي حدثت كردة فعل على أحداث 11 سبتمبر 2001 بحسب الكتاب.
 
وبيانا للغاية التي سعى المؤلف لبلوغها في كتابه، أوضح أن "القصد من هذه الورقة أن تكون مدخلا موجزا للتعريف بالظاهرة الإلحادية الجديدة، وإطلاع المتلقي على أهم سماتها وخصائصها"، وهي في الوقت نفسه وفقا للمؤلف "محاولة يسيرة لتعريف الدعاة والمشايخ وطلبة العلم والمربين والمفكرين بأهم التطورات التي لحقت بالخطاب الإلحادي، والذي جعلنا أمام خطاب إلحادي تم وصفه في الأدبيات الفكرية والعقدية الغربية بالإلحاد الجديد (New Atheism)".

الإلحاد بين القديم والحديث

وذكر الباحث العجيري أنه من خلال استقراء كثير من الخطابات الشرعية العقدية، والتي تتناول الظاهرة الإلحادية مؤخرا وجد قدرا من الغيبة عن إدراك كثير من المستجدات حيال هذا الملف، بل إن كثيرا من الشرعيين وغيرهم لا يكاد يخرج تصوره عن واقع الإلحاد اليوم عن أحد تصورين:

فالتصور الأول – طبقا للكتاب – يتمثل في "أن الإلحاد يمثل استثناء في المشهد العقدي، وشذوذا بشريا، وأنه لا يكاد يوجد من الملاحدة إلا الفرد بعد الفرد، وأن نسبتهم إلى مجموع الجنس البشري لا يشكل رقما ذا بال، وقد يتعضد هذا التصور ببعض المقولات العقدية في الكتب التراثية، ناقلا عن ابن تيمية والشهرستاني ما يثبت أن الإلحاد أمر هامشي وليس تيارا أو ظاهرة.

وبين المؤلف أن مثل هذا التوصيف يمكن أن يكون مقبولا فعلا في مرحلة تاريخية ماضية، لكنه لا يمثل مطلقا الواقع العقدي الذي نعيشه اليوم، فللملاحدة اليوم وجودهم الحقيقي في الخارطة العقدية البشرية، وحجمهم ليس بالضآلة التي يتصورها البعض، بل يمثلون رقعة بشرية واسعة من تلك الخارطة.

ولبيان حجم الظاهرة، نقل عن كتاب حقائق العالم (The World Factbook)، ما يبين أن الملاحدة يشكلون 2,01% من مجموع الجنس البشري، ويمثل اللادينيون 9,66% وذلك بحسب إحصائبات صادرة سنة 2010.

وأردف المؤلف قائلا: "إن هذا الرقم يقفز بشكل كبير جدا في بعض دول العالم، ففي إحصاء (اليوروستات يوروبارومتر) والذي أجري سنة 2010م أظهرت الإحصائيات أن الملاحدة في أوروبا يمثلون 20% من مجموع الأوروبيين، وأن الرقم يرتفع في فرنسا ليصل إلى 40%، وفي بريطانيا 25%، بينما أظهرت بعض الإحصائيات أن الذين لا يؤمنون بالله في كندا 23%، وفي أمريكا التي تعد أكثر تدينا 9%؛ أي: أنك تتحدث عن وجود ملحد واحد تقريبا من كل عشرة أمريكيين".

أما التصور الثاني الشائع في أوساط الشرعيين (مشايخ ودعاة وطلبة علم) بحسب ملاحظة المؤلف فهو تصورهم "أن الإلحاد حالة اقترنت في العهد القريب بالحالة الشيوعية، ففي الوقت الذي تمددت فيه الظاهرة الشيوعية تمددت الظاهرة الإلحادية، وحين تقلصت تقلصت هذه الظاهرة، وبالتالي يستغرب البعض من الاهتمام بهذا المؤلف في هذا الوقت الذي يظن أنه في تراجع وانحسار منذ سنوات".

وعقب المؤلف على ذلك بقوله "للإنصاف فإن الدول التي تحلحلت عنها القبضة الشيوعية تشهد فعلا ظاهرة العودة للتدين أو إعلان التدين كما يظهر ذلك في كثير من الإحصائيات، لكن في المقابل أيضا ثمة موجة إلحادية جديدة تكتسب أنصارا، وتشهد تمددا في دول أخرى كثيرة، وهذه الموجة تستدعي بلا شك قدرا من الفحص والدراسة، وهي ملاحظة لم يقتصر على رصدها المهتمون بهذه القضية محليا أو عالميا، بل هي محل تناول كبير في الدوائر الإعلامية الغربية..".

وبناء على ذلك، حدد المؤلف الباعث المركزي لتأليف كتابه، والمتمثل برغبته في "تصحيح التصور حيال ملف الإلحاد، وبيان واقعه اليوم، وما استجد فيه، وهو ما خصص له المحور الأول"، يضاف إلى ذلك "الرغبة في مناقشة أظنها مهمة في مراجعة أداء الخطاب العقدي الإسلامي، ومدى كفاءة أدواتنا العلمية الحالية لمجابهة إشكالية الإلحاد، وتخليق الحصانة العقدية المطلوبة لأبناء المسلمين اليوم".
 
الإلحاد في فضاءاته العربية والغربية

ذكر المؤلف أن أول من صك هذا الاسم، ووضع هذا المصطلح (الإلحاد الجديد) (new atheism) هو (جيري وولف) في مقالة نشرها سنة 2006م في مجلة "وايرد" البريطانية بعنوان: "كنيسة غير المؤمنين"، والعنوان الفرعي لها: "فرقة من الأشقاء فكريا يقيمون حملة ضد الإيمان بالله، هل نجحوا في كسب المتحولين؟ أم اقتصروا على التبشير بين جمهورهم؟".

ولفت الباحث العجيري إلى ما تنبه له بعض الباحثين في رصدهم لأحد وجوه الفرق بين نمط الإلحاد في الفضاء الغربي وحالته في الفضاء العربي الإسلامي، وذلك في سياقات تاريخية متقدمة، فالمتهمون بالإلحاد في سياق التاريخ الغربي هم من المنكرين فعلا لوجود الخالق جل وعلا، أما في السياق العربي الإسلامي فكثير ممن اتهم بهذا الوصف ليس منكرا في الحقيقة لوجود الخالق تعالى، وإنما كثير منهم من أصحاب المنكرات العقدية الكبيرة كإنكار النبوة أو القول بالاتحاد أو غير ذلك، فابن الرواندي والسهروردي والرازي الطبيب وغيرهم ليس انحرافهم من قبيل إنكار وجود الخالق لكنه من قبيل إنكار النبوات والوحي على حد وصف الكتاب.

ونقل المؤلف عن عبد الرحمن بدوي ما يوضح طبيعة الإلحاد في الفضائين الغربي والعربي: "إذا كان الإلحاد الغربي بنزعته الديناميكية هو ذلك الذي عبر عنه نيتشة حين قال: لقد مات الله، وإذا كان الإلحاد اليوناني هو الذي يقول: إن الآلهة المقيمين في المكان المقدس قد ماتت، فإن الإلحاد العربي هو الذي يقول: لقد ماتت فكرة النبوة والأنبياء".

وعقب المؤلف على ذلك بقوله: "والحق أن قدرا من التطور الذي لحق بمصطلح الإلحاد في الفضاء العربي يمكن أن يُتلمس أيضا في الفضاء العربي، لكن مشكلة إنكار وجود الله مشكلة طارئة في الفضاء العربي بالمقارنة بالفضاء الغربي".

ووفقا للعجيري فقد "طرأ في العصر الحديث على مصطلح الإلحاد في البحث العقدي الإسلامي شيء من التطور ليقترن مفهومه بحالة عقدية خاصة وهي عدم الإيمان بوجود الخالق، وليكون ترجمة للموقف العقدي الذي يمثله مصطلح (Atheism) في الوسط الغربي..".

سمات "الإلحاد الجديد"

برصد دقيق، وتتبع متأنٍ، شخص الباحث السعودي العجيري، سمات وصفات "الإلحاد الجديد"، وهي خلاصة رصده للظاهرة أثناء إقامته في الولايات المتحدة الأمريكية، وتتبعه لحركة رموزها ورجالاتها الذين باتوا نجوما إعلامية مشهورة، لها حضورها المؤثر في الأوساط الغربية، بما تمتلكه من كاريزما جاذبة ومؤثرة.

وقد اعتبر الباحث في مستهل حديثه عن السمة الأولى (الحماسة والحرص الشديد على الدعوة للإلحاد) من سمات "الإلحاد الجديد" أن جزءا من "التداعيات غير المتطورة لحادثة الحادي عشر من سبتمبر لها أثرها في تفجير الموجة الإلحادية الجديدة، وقد احتاج الأمر إلى شيء من الوقت ليتجلى حجم الأثر الذي خلفته هذه الحادثة في استفزاز الملاحدة".

وبحسب ملاحظة المؤلف فإن "الإلحاد في سياقه التاريخي إجمالا كان يمثل خطابا ميالا نسبيا إلى قدر من الحيادية من الموقف الديني، ولم تكن لديه تلك الحماسة الكبيرة لممارسة الدعوة والتبشير بقضية الإلحاد، بل كانت قضية الإيمان في حسه قضية شخصية متعلقة بالأفراد لا تستفز الملاحدة كثيرا، ولسان حال الواحد منهم أن قضية الإيمان والكفر مسألة شخصية، وما دام هذا المتدين لم يكسر لي رجلا أو يفقأ لي عينا فليؤمن وليتدين كيف شاء".

وتابع: "ولكن من لحظة اصطدام الطائرتين ببرجي التجارة العالمي تغيرت المعادلة تماما، وترسخ في وعي كثير من الملاحدة أن قضية الإيمان والتدين باتت مهددا حقيقيا للبشرية، وأن التزام ذلك الهدوء والحيادية من الدين لم يعد خيارا مقبولا، وأنه من المتعين على الملاحدة اليوم السعي جديا لاستئصال مبدأ التدين من الحياة البشرية، وإحلال قضية الإلحاد كخيار منقذ".

وأصر المؤلف في بحثه على أن "حادثة 11 سبتمبر ولدت ردة فعل ضخمة في تشجيع الملاحدة على ممارسة دور تبشيري ضخم بالمضامين الإلحادية، وليتراجع بشكل كبير ذلك الموقف الحيادي من الفكرة الدينية، ومن الطريف فعلا أن تبلغ حماسة بعض الملاحدة في الترويج لأفكاره باستعمال ذات النهج والهيئة والأساليب لبعض دعاة النصرانية بالدعوة في الشارع عبر رفع اللوحات الإلحادية، والصياح في المارة داعيا لإلحاده..".

وقد اتخذت الدعوة إلى الإلحاد أشكالا متعددة، وعملت على مسارات متعددة، منها الكتابة والتآليف، والبرامج الفضائية والإذاعية، ومواقع على الانترنت، والمؤسسات الإلحادية المختلفة، وذكر المؤلف أشهر الكتب المؤلفة في الدعوة إلى الإلحاد، والتي تجاوز سقف مبيعاتها مئات الآلاف من النسخ، والملايين أحيانا، منها كتاب "نهاية الإيمان" لسام هارس المختص في مجال علوم الأعصاب، وهي كتابة نقدية غاضبة للظاهرة الدينية عموما، وكيف أنها تشكل بحسب دعوى المؤلف معوقا هائلا عن التفكير المنطقي العقلاني، وحاضنا للممارسة الإرهابية، وقد صدر الكتاب سنة 2004م، ليشكل الكتاب الأول لظاهرة الإلحاد الجديد..".

أما الكتاب الثاني الذي يمثل المرجع الأهم والأشهر للظاهرة الإلحادية الجديدة، فهو كتاب "وهم الإله" للبيولوجي الدارويني الشهير ريتشارد دوكنز.. ويعالج الكتاب مسألة وجود الله تعالى، والذي يعتبره المؤلف وهما، وينطلق فيه من قول روبرت بيرسيق: "حين يعاني شخص واحد من الوهم فإنه يسمى جنونا، وحين يعاني الكثيرون من الوهم فإنه يسمى دينا".. إلى غير ذلك من عشرات الكتب والنشرات المطبوعة في الدعوة إلى الإلحاد والتبشير به.

أما السمات الأخرى لظاهرة الإلحاد الجديد، فهي كالتالي: عدائية الخطاب الإلحادي الجديد (للدين) وهي صفة مميزة حتى سميت بمليشيا الإلحاد، أما السمة الثالثة فهي "استعمال أداة الإرهاب في حرب الأديان" بتأكيدها أن الدين منبع كل الشرور، وتبرئة الإلحاد من ذلك، "الهجوم اللاذع على دين الإسلام بالذات هو السمة الرابعة لتلك الظاهرة، وتتمثل في تحول الملاحدة في الغرب من الهجوم على النصرانية إلى الهجوم على الإسلام بعد 11 سبتمبر".

ورصد المؤلف في بيانه للسمة الخامسة (جاذبية الإلحاد الجديد) أن رموزه أضحوا أيقونات تحظى بالمعجبين والمعجبات، خصوصا مشاهيره الأربعة (ريتشارد دوكنز، وسام هارس، وكريستوفر هيتشنز، ودانيل دينيت)، والذين باتوا يعرفون في كثير من الدوائر الغربية بالفرسان الأربعة..".

أما السمة السادسة لتلك الظاهرة فهي (المغالاة الشديدة في العلوم الطبيعية التجريبية والاتكاء عليها في التنظير للفكرة الإلحادية) وهي تنم عن حالة غريبة فعلا، وجديرة بالتوقف معها، فالملاحدة الجدد مع نزعة الغلو العلموي، يُظهرون عصبية زائدة أحيانا لبعض ما يتبنونه من قضايا علمية، تكشف لنا عن خلل منهجي..".

يظهر جليا من مطالعة مادة الكتاب، أن مؤلفه بذل فيه جهدا بحثيا كبيرا، وسلك فيه مسلك التتبع والرصد، وبعد حديثه المطول عن رصد ظاهرة "الإلحاد الجديد" في فضاءاتها الغربية، وتتبع كتابات رموزها الكبار، خصص محور كتابه الثاني للحديث عن ظاهرة الإلحاد في فضاءاتها السعودية، والتي جاءت تحت عنوان (الاقتراب بالعدسة محليا "الإلحاد وشبابنا")، وهو ما يستحق عرضا مستقلا.
0
التعليقات (0)