مقالات مختارة

بين الحركة الإسلامية والإسلام السياسي

التهامي مجوري
1300x600
1300x600
منذ منتصف القرن الثامن عشر، والعالم يتكلم عن الإسلام، بوصفه منظومة عقدية ثقافية اجتماعية، منافسة لمنظومة الغرب في جميع مناحي الحياة، أطلق عليها يومها مصطلح: "الحركة الإصلاحية". وهذا المصطلح وإن كان متداولا بين السياسيين والأكاديميين، كتعبير عن "الحلول الترقيعية" في مقابل الاتجاه الثوري الراديكالي صاحب الحلول الجذرية، إلا أن مفهومه في الأدبيات الإسلامية، مشتق من معنى الصلاح والصلح والإصلاح، ومستمد من نهج الأنبياء في التغيير الاجتماعي والسياسي (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله).

ولكن ابتداء من خمسينيات وستينيات القرن الماضي، عندما انفصل التيار الوطني والقومي، عن التيار الإسلامي وبروز تباين المرجعيات بين التيارين، حيث كان لكل منهما مرجعياته.

فالتيار الإسلامي ينطلق في تنظيره لواقع العالم الإسلامي من المرجعية الإسلامية، بينما التيارات الوطنية القومية انطلقت من مرجعيات أخرى حداثية لا يتناسب توجهها وطموحات العالم الإسلامي الاستقلالية، ولكن التفوق الغربي على الواقع العربي الإسلامي المهزوز، جعل من تلك التوجهات الوطنية والقومية، تميل إلى تقليد تلك التجارب الناجحة !! أما الماضي وجذوره ومبادئه وأصوله، فهي عند أولئك الحداثيين من الوطنيين والقوميين ماض غير مأسوف عليه، اما عند الإسلاميين فهو ثوابت لا ينبغي التخلي عنها والتفريط فيها.

في هذا الواقع على الأرض الذي فرضته حركة المجتمع الإسلامي، استبدل مصطلح "الحركة الإصلاحية"، بمصطلح "الحركة الإسلامية"، "الصحوة الإسلامية"، وتعني بذلك الارتباط المصيري بالإسلام على حد تعبير الكاتب السوري خالص جلبي، حيث إن المنتمي للحركة الإسلامية، يشعر أن قضية الإسلام وهيمنته على الحياة في المجتمع الإسلامي، ضرورة الضرورات في الواقع، ومن ثم انحدر واقع العالم الإسلامي من المنظور الكلي الشامل الذي يعمل على الإصلاح الشامل على مستوى الفكر والثقافة والتربية والتعليم، إلى مستوى النضال السياسي الجزئي، وتحول بذلك الخطاب من تحميل المجتمع مسؤولية إصلاح نفسه ليصلح الله ما به من ضعف وهزائم، (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، إلى تعليق جميع هموم الأمة على الجانب السياسي وحده، بحيث بدا لبعض التوجهات أن سقوط الخلافة الإسلامية هو سبب هزائم المسلمين كلها، ومن ثم فإن أي خطوة لنهضة المسلمين لا بد من أن تمر عبر إقامة الخلافة!! رغم أن معاناة الأمة كانت قبل سقوط الخلافة بقرون.

وهذه التحولات لم تمر في تغيرها وفي شيوع مفاهيمها، بمراحل تطورية أو وفق سلم تراجع مطرد، وإنما كانت عبارة عن قفزات لا توحي بشيء يفهم منه أن الحركة الإصلاحية أو الحركة الإسلامية، قد هضمت هذه المرحلة أو تلك بمتطلباتها وفهم مقتضياتها، وإنما كانت في حراكها المستمر خاضعة لانفعالات وردود أفعال سريعة على تحديات أقوى وأدق من استعدادات القادة الإسلاميين، في واقع ما يفرض من قيم تجابه بها هذه التحديات، الفهم والدراسة للفعل ورد الفعل وما ينتج عنهما.

وتحت ضربات هذه التحديات وعنفوانها، انقسمت الحركة الإسلامية إلى توجهات مختلفة ومتنوعة، بسبب فشل الكثير من المحاولات الإصلاحية في مجالات مختلفة، واهم توجهين رئيسيين من تلك التوجهات المختلفة والمتنوعة، التوجه الأول وهو التوجه الدعوي الإصلاحي بما تبنَّى من بقايا الخط الإصلاحي الشامل، والتوجه الثاني هو التوجه السياسي الذي نما وترعرع في ظل الصراع بين السلطة الوطنية وأبناء الحركة الإسلامية، في السودان ومصر وسوريا وتونس والجزائر....، وهو التيار الذي نعت فيما بعد بالتيار الأصولي، قياسا على الأصولية النصرانية في الغرب، وأخيرا للإسلام السياسي، ثم تفرع عن ذينك التوجهين، جملة من الخيارات الجزئية. فالتيار الدعوي شمل الدعوة والتبليغ والتيار السلفي والحركات الصوفية والحركات الفكرية المتنوعة، أما التيار السياسي فقد شمل الأحزاب السياسية، والحركات الجهادية، وإلى ما هنالك من الأسماء والمسميات.

إن مفهوم الحركة الإسلامية الأصيل هو الارتباط المصيري بالإسلام، والنضال في سبيل اعتماده كعمق عقدي حضاري للأمة الإسلامية، التي لا تنهض إلا به، ولا تسعد في الدنيا والآخرة إلا باعتماده، مرجعا أساسيا في هذه الحياة، "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"، أما الإسلام السياسي فهو وجه من وجوه النضال بمرجعية الإسلام في مواجهة الغرب وطروحاته..، والفرق بينهما، فرق بين خصوص وعموم، فالنضال الدعوي، هو العام والكل، عمل تثقيفي تربوي إصلاحي لا حد له ولا لمجالاته النضالية، بينما الفعل السياسي الذي لا يمثل إلا مجال من مجالاته الكبيرة الواسعة. ومن ثم فهو جزء من أجزاء النضال ومقاومة الفساد.

لقد كانت آمال الكثير من أبناء الحركة الإسلامية معلقة على النضال السياسي؛ بل إن بعضهم يتهم من لا يعطي الأولوية للفعل السياسي، على اعتبار أن الوصول إلى السلطة هو الذي يمكِّن للإسلام من إقامة نظمه "يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، ولكن التجربة الإسلامية –على الأقل- منذ خمسينيات القرن الماضي، أثبتت أو الأولوية الحقيقية للعمل الدعوي على السياسي؛ لأن نجاح العمل السياسي مرهون بالوعاء الانتخابي والقاعدة النضالية، وهذا الوعاء وتلك القاعدة، لا يمكن أن يبنيهما الخطاب السياسي وحده، لا سيما وأن الخطاب الإسلامي ليس مجرد مشروع سياسي منافس لمشروع سياسي آخر مماثل، وإنما هو خطاب هداية، وخطاب مقاومة لثقافة سائدة وحضارة مهيمنة... وإذا كانت الحركة الوطنية والقومية قد حققت الاستقلال العسكري والسياسي، فإن الحركة الإسلامية هي المشروع المكمل للاستقلال السياسي والعسكري، وبعدهما الثقافي والحضاري، الذي حققته المجتمعات الإسلامية على الاستعمار الغربي.

لا شك أن الجانبين مطلوبين على كل حال؛ لأن الاهتمام بالشأن العام من ضرورات الحياة، والعمل الدعوي وكذلك النشاط السياسي، كلاهما من الاهتمام بالشأن العام، ولكن الفرق بينهما، ان أحدهما فعل آني وسريع الظهور والاختفاء، والآخر بطيء وثابت ومثمر، ولذلك نجد أن الكثير من الحركات الإسلامية قد فرقت بين العمل السياسي الذي هو اهتمام بالشأن العام الآني والاهتمام بالشأن العام الاستراتيجي.. فأُنْشِئَتْ أحزابٌ سياسية للنضال السياسي الحزبي من أجل الوصول إلى السلطة، للمساهمة في التنمية السياسية والاقتصادية، وجمعيات وجماعات من أجل العمل العميق الهادف إلى التغيير الإجتماعي.

لا شك أن خصوم الإسلاميين لا يفرقون بين هذا وهذا، ما دام الجذر واحد، وهو المرجعية الإسلامية، وهو كذلك بالفعل، إلا أن هؤلاء الخصوم بكل أسف ينطلقون من منطق عدائي؛ لأنهم أصحاب مشروع مختلف، فهم لا يفرقون بين "جماعة الدعوة والتبليغ" مثلا وبين "القاعدة"، ويطلقون على الجميع "الأصوليون" أو "الإسلام السياسي"؛ لأنهما ينتميان إلى خط وخلفية فكرية واحدة، أي المرجعية الإسلامية. بينما الأمر عند العاقل يحتاج إلى شيء من الإنصاف؛ لأن المنتمي إلى المرجعية الإسلامية فيه المغالي والمعتدل، وفيه المخطئ والمصيب، مثل الخصم أيضا، يوجد الخصم المغالي والمعتدل.

اما التفريق عند المناضل الإسلامي هو تفريق منهجي من أجل الوصول إلى الأنفع والأصل، ومن أجل تحقيق المصلح ودرء المفاسد... فالخطاب الأصيل هو هداية البشر إلى صراط الله المستقيم، أما النضال السياسي فهو المقاربة الأيسر والأسرع في وصل الناس بالاهتمام بالشأن العام، باعتباره فضيلة يلتقي عليها كل محبي الخير والصلاح والفلاح.    

عن صحيفة الشروق الجزائرية  
0
التعليقات (0)