قضايا وآراء

حركة النهضة التونسية في طور جديد

علي البغدادي
1300x600
1300x600
لم يبق على مؤتمر حركة النهضة العاشر إلا أيام قليلة، هذا المؤتمر الذي من المنتظر أن تطرح فيه رؤية الحركة المستقبلية، بعد أن قامت بمراجعات فكرية وسياسية وتنظيمية لمسيرتها السابقة التي استمرت لعقود، لقد تجاوز تأثير الحركة بما تقدمه من نضج في الرؤى والخطوات المدى التونسي ليحرك ماء راكدة في الأجواء السياسية والفكرية الإسلامية.

قد يختلف الناس في تقييمهم لأداء هذه الحركة، لكن لا أظن أن هناك اختلافا في كون هذه الحركة حركة تجديدية غير تقليدية، تطرح رؤاها بقوة وتسبق مثيلاتها في الدول العربية.

لذلك يأتي هذا المؤتمر في أوضاع استثنائية ليدشن مرحلة جديدة تدخلها النهضة بعد جهود طويلة من المراجعات والتقييم لتمحيص المبادئ الأساسية التي انطلقت حركة النهضة لتحقيقها، والتثبت من حسن تقدير الموقف عند مؤسسات اتخاذ القرار في الحركة، وتقييم حجم النجاح والإخفاق في تحقيق أهدافها.

كمثيلاتها من الحركات الإسلامية، فقد بدأت الحركة عملها في الستينيات كحركة دعوية مسجدية تقوم على ثلة من الشباب تعاهدوا على العمل من أجل إعادة الاعتبار لمبادئ الدين وقيمه ودوره في الحياة والمجتمع. واعتمدت أدبياتها بشكل أساسي على الأدبيات التربوية المشرقية دون حضور قوي لسؤال النهضة والإصلاح.

وتميّزت الحركة بانفتاحها على مختلف المدارس الفكرية (المدرسة الإخوانية، فكر مالك بن نبي، حسن الترابي، علي شريعتي، محمد عمارة، الجابري، الفكر الماركسي والقومي ...) مما أضاف لرصيدها التجديدي، ومع مرور الزمن والاحتكاك بالواقع المحلي، أخذ أبناء الحركة ينفتحون تدريجيا على مصادر الفكر الزيتوني وخصوصا على مدرسة الإصلاح في تونس، وذلك للمزيد من التأصل في البيئة الوطنية.

لقد طرح العهد البورقيبي سؤال النهضة –من وجهة نظره- وعمل على تحديث المجتمع التونسي وفق رؤاه متبنيا النموذج الغربي بالكامل، محاولا فرضه عن طريق الدولة دون أن يدع المجال لتفاعلات المجتمع المدني، وأدى احتكاك الإسلاميين في تلك الفترة مع السياسة البورقيبية إلى إدراكهم أهمية المسائل الاجتماعية والسياسية والفكرية التي لم تكن في مركز اهتمامهم في مرحلة التأسيس، فساهموا مع تيارات المعارضة في المطالبة بالحريات والديمقراطية، وانخرطوا في منظمات المجتمع المدني والعمل النقابي، واهتموا بقضايا الفقر والتنمية والعدالة الاجتماعية.

تعرضت الحركة في التسعينيات لاجتثاث كبير بعد أن دخلت في مواجهة مع نظام المخلوع بن علي، لكن الحركة في مراجعاتها تطرح تقييمها بقوة وصراحة وتحمل قيادة الحركة الشورية والتنفيذية في تلك الفترة المسؤولية الأولى عن هذه المواجهة، فقد كان قرار الحركة في نهاية الثمانينبات التهدئة مع نظام بن علي والمشاركة الجزئية في الانتخابات، إلا أنها ورغم أن السلطة كانت توجه لها التهديدات الصريحة والمبطنة اختارت المشاركة الواسعة في الانتخابات دون استعداد لتحمل عواقب هذا القرار ودون تقدير حقيقي للموقف حينها، وتقر الحركة في مراجعاتها إلى أن حجم توسع الحركة وانتشارها الأفقي في البلاد لم يواكبه تطور رأسي في عمل القيادة يجاري هذا التوسع.

ولا شك بأن ثبات كوادر الحركة في السجون، وإصرار من بقي في الداخل على العمل وإن بصورة فردية كلما خفت القبضة الأمنية، بالإضافة إلى نشاط كوادر الحركة الإعلامي في المنفى، أدى إلى الحفاظ على جسم الحركة وبالتالي استمر نظر الشعب التونسي لها على أنها هي المنافس القوي لنظام بن علي.

لقد أدت تجربة المواجهة مع النظام إلى إعادة تقييم آليات عمل الحركة، فقد تأكد في أكثر من خطة للحركة خطأ تقديرها لإمكانياتها الذاتية ولقوة السلطة ولدور القوى الإقليمية والدولية، ورغم أن الحركة كانت تبدو في عين أنصارها كحركة بديلة عن السلطة القائمة إلا أن الحركة لم تكن مؤهلة للحكم مع ضبابية رؤيتها لقضايا الحكم والاقتصاد والسياسة الدولية، كما أنها كانت تنظر لنفسها باعتبارها تنظيما شموليا تربويا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا، وهذا مخالف لسنن الأشياء، وقد رفضت القيادة في الثمانينيات رفضا قاطعا فكرة التخلص من التنظيم الشمولي والاستعاضة عنه بفكرة التنظيمات المتوازية المستقلة هيكليا والتي تعمل ضمن رؤية استراتيجية واحدة، وتكون مهمة الحركة الأم ضمان سلامة التوجه الفكري بما تملكه من نفوذ روحي وفكري، وأدت شمولية التنظيم إلى إعاقة قطاعات العمل الحيوية وارتهانها للمركز وحرمانها من المبادرة.

كشفت تجربة النهضة قبل الثورة وبعدها عن أهمية التواصل مع نخب المجتمع (أكاديميين، إعلاميين، رجال أعمال، نقابيين...) كما كشفت عن قصور في أدائها معهم بخطاب مناسب، فقد ظل منهج الإصلاح الذي تتبعه الحركة مركزا على الفئات الشعبية خصوصا الشباب ورواد المساجد مع عدم الوعي بأهمية النخب وحجم نفوذها داخل السلطة وتأثيرها في الرأي العام. لقد كان التنظيم قائما على الخلايا التربوية الحاضنة لأفراده، وقد أدت هذه السياسة التنظيمية لتكريس بعض مظاهر السلبية والانتظارية وأعاقت تأقلم الفرد مع مجتمعه ليكون أداة لخدمة مشروعه في المجتمع، وتحول التنظيم ليشكل هدفا بحد ذاته.

لقد اختارت الحركة بعد الثورة المشاركة في الانتخابات والحكم لإنجاح الثورة، وأثبتت الأيام صحة موقف النهضة في تشكيل حكومة الترويكا من زاوية اصطفاف الحكومة مع الثورة ومناصرة الحريات وتوسعة المشاركة، وكادت الأحداث الإقليمية والداخلية أن تعصف بالبلاد لولا قيام مؤسسات المجتمع المدني برعاية الحوار الوطني الذي كان الهدف الأساسي منه إخراج النهضة من الحكم وإنهاء شرعية حكومة الترويكا، لكن توقيع الشيخ راشد الغنوشي على وثيقة الحوار الوطني دون تحفظ (وكان العرض محصورا بالموافقة الكاملة على وثيقة الحوار أو الرفض الكامل) شكل تحولا حاسما في مسيرة السياسة التونسية رغم أنه كان مخالفا لقرار مؤسسات الحركة، لكن الأيام أثبتت صوابية موقف الشيخ لأن البديل كان إظهار النهضة بمظهر الرافض للحوار، وأدى تسلسل الأحداث فيما بعد إلى عزل بعض من أرادوا عزل النهضة، ورغم أن الحركة تقر بأنها خسرت الحكم إلا أنها قد خرجت من تلك المرحلة بأقل الخسائر الممكنة.

وترى الحركة أن استكمال الثورة لم يتحقّق بالقدر الكافي، بل إنّ أسباب الانتكاس ما زالت قائمة مع عودة بعض مكوّنات النظام القديم إلى المشهد السياسي، كما أن الخصم الحقيقي المتمثل في بقايا النظام البائد والتجمّع المتحالف مع اليسار الانتهازي والاستئصالي والمال الفاسد لا يزال يشكل خطرا عليها.

لقد كان أكبر إنجاز تحقق في البلاد هو دستورها التوافقي الذي يضمن الحريات والتعددية السياسية، وقد حسم دستور الثورة مسألة مرجعية هوية الشعب الفكرية وجرم المساس بالمقدسات الدينية والحضارية، وهذا يعطي حصانة لمسألة الهوية التي لم تحسم بعد عند طبقة السياسيين وإن كانت محسومة في صفوف الشعب وفي الدستور.

كما حسم الدستور مسألة العمل الحزبي والعمل المجتمعي على نحو يمنع تولي المسؤولية الأولى لنفس الأشخاص في الأحزاب والجمعيات.

لذلك كان قرار الحركة باحترام دستور الثورة الذي فصل بين العمل الحزبي والمجتمعي والتحول من المراوحة بين الحزب والحركة الشاملة إلى حسم القرار بالتحول لحزب سياسي ديمقراطي وطني ذي مرجعية إسلامية منفتح على كل شرائح المجتمع وإطلاق المبادرات الفردية في شأن المجتمع المدني ليعمل باستقلالية عن الحزب، فالحركة واقعيا انغمست في العمل السياسي مما أثر على أدائها المجتمعي وأدى لتأخره، والحزب السياسي بحاجة إلى قاعدة اجتماعية قوية وهذا شأن الأحزاب حتى في الديمقراطيات العريقة.

والحركة تحتوي على كوادر بشرية كبيرة مؤهلة ومتحمسة للخدمة العامة بما يمثل إضافة رئيسية للمجتمع المدني في مختلف مجالاته الاجتماعية والدينية والحقوقية والخيرية والثقافية، على أن تعمل وفق القانون، وبشكل مستقل تماما عن العمل السياسي الحزبي بما يضمن لها الفعالية التخصصية والبعد عن المناكفات السياسية، وفي هذه الحالة يصبح من حق بل من واجب كل عضو في الحزب قادر على العطاء في مجالات الخدمة العامة أن يكون له دور في المجتمع المدني دون أن يجمع بين المسؤوليات في الحزب والجمعيات، وهذا ما تتيحه الحالة الوطنية في البلاد من أجل بناء دولة القانون.

ولا شك بأن هذا القرار الجريء يؤدي إلى التحول إلى حركة متصالحة مع الدولة، تفكر لتقود بعقلية الحكم، لا لتعارض بعقلية الاحتجاج، كما سيؤدي إلى المساهمة في تحقيق التوازن بين سلطة الدولة وسلطة المجتمع وفق مسارين يقوم الأول على ضمان حرية العمل السياسي وحماية التعددية الحزبية والتداول السلمي للسلطة ويقوم الآخر على تشجيع بناء المؤسسات المدنية والفاعلة، وتكوين مجتمع قوي يصعب تدجينه أو السيطرة عليه.

الجديد في هذا القرار أنه يختلف عن المقاربة التي تطرحها بعض (النخب الإسلامية) في البلاد الأخرى في استمرار الحركة الأم في عملها الدعوي والاجتماعي والتربوي، وترك أفراد الحركة لينشؤوا أحزابا سياسية مستقلة أو ينضموا إلى أحزاب قائمة، فالوضع الذي رسمته الحالة التونسية يسير باتجاه معاكس هو تحول الحركة إلى حزب سياسي وترك الأفراد لينخرطوا في المجتمع المدني باستقلالية.

تجربة رائدة تستحق التقدير.
التعليقات (0)