قضايا وآراء

ليبيا حالة متفردة تصارع للبقاء

علي البغدادي
1300x600
1300x600
مع تزايد الهموم واختلاط القضايا في مشرقنا العربي تغيب عن متابعاتنا حالة متفردة من حالات البلدان التي شهدت الثورات العربية، وهي الحالة الليبية التي يصدق عليها وصف (الحالة المتفردة) ونأمل في هذا المقال أن نسلط الضوء على هذه الحالة، فهي حالة يتداخل فيها البعد السياسي بكل تعقيداته مع البعد الاجتماعي في مجتمع مسلح منقسم قبائليا ومناطقيا، وفي حالة من عدم الاستقرار تتيح للتنظيمات المتطرفة بيئة للنمو والتمدد، في إقليم مشدود بين تجربتين مختلفتين شرقا حيث الانقلاب المصري وغربا حيث الاستثناء التونسي، ومجتمع دولي له أهدافه ومصالحه التي يسعى لتحقيقها من خلال التدخل في الشأن الليبي، وإن كان على حساب الشعب الليبي، وشركات أجنبية تريد لها حصة في بحيرات النفط التي تطفو عليها الأرض الليبية.

في ليبيا حالة شد وجذب بين اتجاهين، اتجاه يسعي لتكريس مكتسباته التي حققها في ظل انعدام الاستقرار واتجاه ينظر للمستقبل ويحاول إيجاد حل للأزمة الليبية، يعيد لها الاستقرار ويحقق في الوقت ذاته الأهداف التي قامت من أجلها الثورة الليبية.

خمس سنوات مرت على اندلاع الثورة الليبية التي كانت عواملها حاضرة في المجتمع الليبي لكنها كانت تنتظر الشرارة التي تشعلها، فلم يكد يسقط حسني مبارك في مصر إلا واندلعت الثورة في ليبيا، وتم إسقاط حكم القذافي، أعجب حكم في الدول العربية.

وقد بدا للمراقبين أن الأمور تسير بحالة طبيعية نحو تحقيق أهداف الثورة وإقامة حكم ديمقراطي رشيد، فتمت الانتخابات وتم إقرار مؤتمر وطني عام وتشكيل حكومة انتقالية للبلاد في عام 2012، لكن الشيطان الذي يكمن في التفاصيل عكر صفو التوافق الوطني فظهرت مشكلة دمج الثوار المسلحين في الجيش، وهم العامل الأساسي في إسقاط القذافي تلك المشكلة أثارت مخاوف الثوار المقاتلين من استغلال طبقة السياسيين لتضحياتهم، وجاء الضغط باتجاه إصدار قانون العزل السياسي الذي صدر في مايو 2013، أي قبل شهر واحد من وقوع الانقلاب العسكري في مصر، الذي كانت له ارتداداته العنيفة على جميع دول الربيع العربي ولا سيما الجار الليبي.

النقطة الفاصلة
كانت الإشكالية الرئيسية في ليبيا متمثلة في المخاوف المتبادلة بين طبقة السياسيين وطبقة الثوار المقاتلين، فالسياسيون كانوا يخشون من تغول الثوار المسلحين، والثوار كانوا يخشون من اختطاف السياسيين لتضحياتهم، ومن هنا بدأ الانقسام في صفوف القوى الثورية، وجاء قانون العزل السياسي متعسفا؛ فبموجبه يمنع كل من تولى مسؤولية قيادية، سياسية كانت، أو إدارية أو حزبية أو أمنية أو عسكرية أو مخابراتية أو إعلامية أو أكاديمية أو أهلية ضمن هيئات داعمة للنظام، في الفترة بين الأول من سبتمبر/أيلول 1969 -تاريخ الانقلاب الذي قاده القذافي- و23 أكتوبر/تشرين الأول 2011، يمنع من تولي الوظائف المهمة في الدولة الجديدة، وكذلك من الحياة السياسية الحزبية.

وعلى هذا الأساس تم منع شخصيات سياسية معارضة للقذافي، لكنها عملت في أجهزة الدولة الليبية لفترة بسيطة، وما كان لها أن تمنع بهذا الشكل، لذلك حدث انشقاق كبير في صفوف القوى الثورية.

ظهور حفتر وانطلاق عملية الكرامة
وفي ظل هذه الأجواء المتقلبة، جاء الانقلاب العسكري في مصر المدعوم من قوى إقليمية لا تريد لأي تجربة ديمقراطية أن تنجح وتسعى بكل إمكانياتها للعودة بدول الربيع العربي إلى الوراء، وتم الدفع بالجنرال المتقاعد حفتر ليكون رأس حربة الثورة المضادة في ليبيا.

انطلقت عملية (الكرامة) بقيادة حفتر مدعومة إقليميا ومستغلة حالة الانقسام في الصفوف الثورية، وكانت عملية تلفزيونية في البداية لا أثر قويا لها على الأرض، لكن الدعم الإقليمي وتأخر الوصول لحالة وفاق وطني، جعلت قوات حفتر تقوى بشكل متزايد، وجاء الرد على هذا التحرك من قبل الثوار فأعلنوا انطلاق عملية (فجر ليبيا) لتكون ردا ثوريا على الثورة المضادة.

على المستوى السياسي انقسمت البلاد بين شرعيتين، شرعية ثورية يمثلها المؤتمر الوطني الموجود في طرابلس، وشرعية انتخابية يمثلها برلمان (طبرق) الذي أثيرت شبهات قانونية حول شرعيته انتهت بحله، وتدخل المجتمع الدولي للوساطة، وكان المبعوث الدولي الأول طارق متري حاول جمع الفرقاء على أجندة وطنية ولما فشل قدم استقالته ليخلفه برناردينو ليون الذي جاء ليحقق أجندات أطراف دولية.

ظهور تنظيم الدولة
أعلنت جماعات مسلحة في مدينة درنة بيعتها لتنظيم الدولة الإسلامية في أكتوبر 2014، بعد ذلك تمدد التنظيم ليستولي على مدينة سرت التي اتخذها مقرا له، مستفيدا من وجود حالة استياء بين أبناء المدينة التي كانت تعدّ معقلا كبيرا للنظام السابق، وتتوافر في ليبيا شروطٌ عديدة تجعل منها بيئة مثالية لعمل التنظيم، مثل اتساع المساحة الجغرافية، وغياب حكومة مركزية قوية قادرة على السيطرة على الأراضي الليبية، وتوافر ثروات نفطية كبيرة، أصبح التنظيم يوليها اهتماما كبيرا بعد تجربته في سوريا والعراق، بوصفها تمثّل موردَ دخل كبيرا يحتاج إليه التنظيم لتمويل نشاطاته، مما جعل أوساطا إعلامية تتحدث عن احتمالات انتقال قيادة تنظيم الدولة من سوريا والعراق إلى ليبيا، إذا تمت هزيمته هناك بفعل ضربات التحالف.

إعادة تموضع 
أدى تتابع الأحداث في العام الماضي إلى انقسام حاد في ليبيا وإعادة تموضعات بين القوى السياسية أساسها الموقف من مسودة الاتفاق السياسي الرابعة المقترحة من بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا، التي امتنع المؤتمر الوطني العام من التوقيع عليها، وأعلن أعضاء في مجلس النواب عدم أهلية فريقهم في الحوار للتوقيع على المسودة.

إعادة التموضع تتلخص في جانب الثوار في نشوء تيار يقوده أعيان ورجال أعمال من مصراتة حُسِب بعضهم بداية ثورة فبراير على المنظومة السابقة، وإن شاركوا في دعم الثورة للحد الذي بات لهم بسببه تأثير واسع على تشكيلات عسكرية كبرى في المدينة، ويقترب هذا التيار الذي تمثل بعض التشكيلات العسكرية قوته على الأرض، من تيارات سياسية مثل حزب العدالة والبناء الذي يقود رئيسه اتجاها توافقيا يؤيد الوصول إلى حل سلمي يوقف ما يراه (اقتتالا بين الإخوة)، ورغم ذلك فإن تيارا ثوريا داخل الحزب يعارض هذا الاتجاه ويميل بشكل أكبر إلى موقف تيار آخر في فجر ليبيا، يقوده رئيس المؤتمر الوطني، تدعمه مناطق في طرابلس ومدن الساحل الغربي ومجلس شورى ثوار بنغازي، ومثقفون وشخصيات سياسية ودينية، ويعتقد هذا التيار المناهض للتوقيع على المسودة بأن هناك ما يقرب من مؤامرة يقودها رئيس البعثة الأممية برناردينو ليون.

والأمر يتشابه في معسكر الكرامة (حفتر)، فالانقسام كان ظاهرا في مجلس النواب بطبرق، وخلاف واضح بين وفد الحوار ولجنة المستشارين التي تم حلها من قبل رئيس المجلس، الذي صرح لبعض وسائل الإعلام بإيجابية التوقيع على الاتفاق السياسي ما يعكس انقسامات داخل المجلس.

ميدانيا، كذلك هناك خلافات داخل المعسكرين؛ فعديد القادة الميدانيين في فجر ليبيا (الثوار) يختلفون مع رؤية رئيس المؤتمر السياسية والأمنية، ويؤيده فيها آخرون، والأمر ذاته يحدث بين بعض قادة محاور القتال في بنغازي وحفتر، إذ يحاولون الانفصال عنه لدواع تتعلق بتخوفات من الملاحقة، أو عدم التمكن من التموضع في المشهد السياسي والأمني الذي بدأ يتشكل.

وفيما يتعلق بالموقف من الإرهاب أيضا هناك إشكالات فيما يتعلق بالضغط الميداني لتنظيم الدولة في سرت، ومناطق في غرب وجنوب ليبيا مصحوبا بالضغوط الإقليمية والدولية المطالبة بمواجهة "مستمرة" مع التنظيم، وعامل اختلاط محاور القتال في بنغازي التي يشارك في بعضها تنظيم الدولة ضد قوات حفتر، وعدم التنديد بأعمال عنف ترتكبها مجموعات الكرامة المسلحة داخليا وخارجيا، شكل صعوبات حالت دون تأسس موقف وطني يجمع المتنازعين من محاربة الإرهاب.

التدخل الدولي
وعلى وقع الكلام عن الأمن القومي الأوربي والأمريكي والتهديد الذي يشكله تنظيم الدولة وقدرته المالية بفعل سيطرته على حقول النفط والمبالغة في ذلك، واحتمالية توفير قاعدة انطلاق للإرهابيين من ليبيا باتجاه أوروبا، والخوف من تدفق اللاجئين إلى أوروبا، جاء الحديث عن ضرورة التدخل العسكري الدولي في ليبيا.

لكن التدخّل العسكري سوف يحتاج إلى غطاء لتبريره من الناحيتين القانونية والسياسية، لذلك جرت الضغوط الغربية على أطراف الصراع الليبي لتوقيع "اتفاق الصخيرات" الذي جرى التوصّل إليه بوساطة المبعوث الأممي السابق إلى ليبيا برناردينو ليون وتوقيعه في عهد خلفه مارتن كوبلر، بين جماعات داخل المؤتمر الوطني في طرابلس وجماعات داخل برلمان طبرق، لتشكيل حكومة وحدة وطنية مهمّتها الأساسية دعوة "المجتمع الدولي" للتدخّل عسكريا لمساعدتها في مواجهة تنظيم الدولة. كما بدا مثيرا للاستغراب رفض القوى الدولية الراعية لاتفاق الصخيرات إبداء أيّ مرونة، تسمح بتغيير نصوص في هذا الاتفاق، أو إمكانية دمج فئات أوسع فيه، ما أدّى إلى انشقاق جديد في كلّ معسكر من المعسكرين المتخاصمين في ليبيا، بين مؤيدي الاتفاق ومعارضيه في كل من برلمان طبرق والمؤتمر العام في طرابلس.

كيف نواجه السيناريو المرعب؟
تم إتمام الاتفاق وتشكلت حكومة فايز السراج مدعومة إقليميا ودوليا ووصلت إلى طرابلس لتمارس عملها، الأمر الذي أظهر حالة من التوجس من اشتباك بين القوى الثورية بعضها ببعض فالقوى الثورية تختلف الآن إلى اتجاهين:

اتجاه يرى بأن أمام الثوار فرصة يمكن التقاطها لتفويت الفرصة على الخصوم تتمثل بدعم حكومة السراج وتبنيها وبالتالي تكسب الدعم الدولي وتخرج من دائرة اللوم، رغم ما لهذه الحكومة من سلبيات ورغم المخاوف من أنها قد تستخدم ضد الثوار لكن هذا الخيار هو الأقل ضررا، والبديل هو تدخل دولي كبير على كل الجبهات، لذلك يرى أصحاب هذا التوجه ضرورة دعم التوجهات التوافقية بين الأطراف في المؤتمر الوطني أو مجلس النواب. وتقوية المؤسسات والأدوات التي تملكها حكومة الوفاق، وإلا سنواجه سيناريوهات أخطر من الانقسام والتدخل الخارجي.

واتجاه يرى في حكومة السراج مؤامرة جديدة لإجهاض الثورة فهي ليست إلا أداة من أدوات الثورة المضادة المدعومة إقليميا ودوليا، وأن البديل هو أن يقدم المؤتمر الوطني العام الممثل للثورة الليبية حلا أحادي الجانب دون الرجوع الى البرلمان الذي أصبح يمثل النظام السابق بكل وضوح، فالقوات التي تحارب تحت قيادة حفتر هي بقايا كتائب القذافي كاللواء 32 معزز وجيش القبائل، والثوار يملكون على الأرض أدوات الحسم، فالعاصمة تحت سيطرتهم وأيضا المنطقة الغربية والجنوبية ولو تواصل تركيز الدعم على المنطقة الشرقية، فإنهم سيتمكنون من حسم معركة بنغازي ودرنة وتوسيع مناطق النفوذ شرقا، ويبقى التحدي في قدرتهم فعليا على حسم المعركة في بنغازي.

ومع وصول حكومة السراج لطرابلس يتجلى فخ قد نصب بعناية ممكن أن يؤدي إلى قتال داخلي بين اتجاه يدعم حكومة التوافق واتجاه يرفض التسليم لها، والأمل معقود على حكمة الثوار الليبيين في النجاة من هذا الفخ والاستمرار قدما لبناء مستقبل الدولة الليبية التي أصبح بقاؤها مهددا.

فهل ينجح الثوار بإحياء الوعي الثوري في مقابل المؤامرات المتتالية بإعادة روح ثورة فبراير بكل تجلياتها وأحلامها وإيجاد صيغة تتيح إعادة ترتيب صفوف الثورة في مصراتة وطرابلس، ودعم ثوار بنغازي للصمود في وجه حفتر، والتعامل مع تنظيم الدولة في سرت فقد أثبتت التجارب أن التنظيمات الإسلامية المتطرفة لا تحارب إلا بالإسلام المعتدل، وفي الوقت نفسه دعم حكومة الوفاق دعما يجعلها تطبع توجهاتها مع توجهات الثورة فيستفيدوا من حالة التوافق والدعم الدولي والإقليمي؟
هذا ما نأمله.
التعليقات (1)
جمال الليبي
الثلاثاء، 05-04-2016 09:42 م
تحليل متميز وقراءة رائعة لحالم ... روية جميلة ومختزلة في شخوص اصبحت تملك القدرة على تخطيط المسقبل نيابة عنا ... وتوزيع مناطق النفوذ والقدرة على خلط الهويه بالعقيدة ونسج نمودج جديد متحرر مقموع للشخصية الليبية ونحن في انتظار الكائنات الجدبدة لا شرقية ولا غربية ...