الحراك العربي يهبط بالديمقراطية

تنطوي الديمقراطية بالنسبة للعربي على سحر يجذبه على مدى عقود، وكان يتمنى دائما لو أن الحكام العرب ديمقراطيون فيسود الهدوء والاطمئنان في البلدان العربية، وتتمهد الطريق نحو البناء والتقدم.

وطالما عبر الإنسان العربي العادي عن تمجيده للديمقراطية، وضرب أمثالا على حسن سير الحكومات واطمئنان الشعوب لقادتها لما يتحملونه من انتقادات دون أن يحركوا أجهزة أمنهم ضد أحد. وربما بالنسبة للشعب الفلسطيني كان الأمر أكثر جذبا بسبب رؤيته اليومية لتصرفات حكومات الصهاينة الديمقراطية والتي تحافظ على وحدة الناس وترتقي بقدراتهم في مختلف المجالات.

أما بالنسبة للمثقفين العرب بقيت الفكرة الديمقراطية تشغلهم، وقلما كتب أحدهم مقالا عن التخلف ولم يجعل غياب الديمقراطية سببا له. وفضلا عن مقالاتهم، شغل الأكاديميون والمثقفون طلابهم بفكرة الديمقراطية حتى ظن هؤلاء الطلاب أن الديمقراطية هي البلسم الشافي للجهل والتخلف والفقر والهزيمة. وربما هذا يشكل أحد الأسباب القوية التي دفعت شباب العرب نحو الحراك بهدف إسقاط الحكام العرب واستبدالهم بآخرين يتمسكون بالقيم الديمقراطية ويطبقونها على الواقع العربي.

لكن المتتبع يرى أن الديمقراطية لم تقم في البلدان العربية إلا في تونس إلى حد ما، بل وأفرز الحراك العربي حتى الآن ممارسات قمعية متعددة أطاحت ببعض الديمقراطية التي تبلورت أو كادت أن تتبلور على الساحة العربية. بداية نحن نلاحظ كيف أن الحراك العربي تطور إلى مجازر بحق المدنيين الذين كانوا يتطلعون إلى الحرية، وكيف وقف الحراكيون بعضهم ضد بعض، وأعملوا في أنفسهم الرصاص والقتل وسفك الدماء. نزفت الدماء العربية غزيرة في سوريا وليبيا واليمن، وبصورة أخف وطأة في مصر. وكان المدنيون في الغالب هم الضحايا وهم الذين يدفعون الثمن. نشب الحراك العربي دفاعا عن الناس ومصالحهم وكراماتهم واحترامهم، وإذا بالأمور تتطور نحو ما لا تشتهي النفوس. ووصل الحد بالناس العاديين أن يتمنوا عودة الأنظمة الاستبدادية إلى الحكم. كان الاستبداديون وحتى اللحظة مجرمين وسفاحين ونصابين، لكنهم لم يجرموا بالناس بهذه الدرجة التي أفرزها الحراك العربي. ربما كان هناك في بلدان الحراك العربي من ينام ليلته هادئا، لكن الحراك لم يترك في هذه البلدان فسحة للهدوء لا في الليل ولا في النهار. وربما تأتي مصر بدرجة متطرفة من القمع ضد المعارضين إذ حظرت نشاط جماعة الإخوان المسلمين والتي تعتبر من أعرق التنظيمات العربية وزجت بأعضائها في السجون أو في المحاكم.

وملاحظ أيضا التكالب الذي أخذ يشتد بين العرب على صفحات الـ"فيسبوك" والإنترنيت بحيث اشتد السباب واحتدمت الشتائم. لم تكن تخلو المواقع قبل الحراك من الانحطاط في التعبير وانتقاد الغير، لكن الحراك دفع الناس إلى المزيد من الانحطاط في التعامل فيما بينهم، وأخذت صفحات المواقع تعبر بصورة متزايدة عن الأحقاد والبغضاء التي أخذت تنمو في النفوس العربية.

والحراك العربي أشعل فتيل المذهبية والطائفية الراكدتين. منذ متى كان يعرف أهل فلسطين أو مصر أو الجزائر عن السنة والشيعة؟ أيقظ الحراك الفتنة على أسس طائفية وعرقية وقومية، وأخذ يلوح في الأفق شبح تقسيم بلدان عربية بسبب عدم قدرة جمهور الناس على التعايش. تدعو الديمقراطية إلى التعايش وإلى احترام الحقوق والإنسان، لكن دعاة الديمقراطية لم يتحملوا مرونة المبدأ وارتدوا إلى عصبياتهم الجاهلية. الطائفية نقيض الديمقراطية وكذلك العرقية والمذهبية، والمجتمعات تتفسخ وتتفتت عندما تنمو فيها الأحقاد والكراهية. وهكذا حصل في العراق وسوريا ولبنان ومصر واليمن، ومن المحتمل أن يحصل في بلدان عربية أخرى لم يصلها الحراك بعد.

والمشكلة المستجدة تشمل المثقفين أيضا إذ انقسموا فيما بينهم وتمزقوا وفق تمزق المجتمع أو تبعا للتمزق الطائفي والمذهبي. بعض المثقفين الآن يمتنعون عن نشر الرأي الآخر في المواقع الإليكترونية التي يديرونها، وبعضهم يمنع الرأي الآخر من الظهور في الجرائد والمجلات. ووصل الحد ببعض المواقع العربية التي يشرف عليها مفكرون ومثقفون وأكاديميون أن تغلق أبوابها أما الأطراف الأخرى فلا نسمع لها صوتا. العديد من المثقفين العرب تحولوا إلى أدوات بيد الاستبداد بخاصة إذا كان هذا الاستبداد مالكا للمال. مواقع عربية مشهورة على اتساع العالم لم يعد لها طاقة على تحمل الرأي الذي يختلف معها، وهي لا تنشر مقالات حتى لو تناقضت معها في سطر واحد وليس في المقال كله.

هذا ناهيك عن الحملة على القنوات التلفازية التي تختلف معها في الرأي، وقد دخلت شركة عرب سات المعركة وحجبت بث قنوات تلفازية. بدأ الأمر بقنوات سورية، ثم امتد إلى قناتي الميادين  والمنار. عربسات شركة والمفروض أن تبحث عن زبائن لتحقيق أرباح أكبر، لكن نفسية الحراك العربي تبدو مريضة ديمقراطيا فتم التأثير على الشركة لتشارك الاستبداديين المرض.

هناك قتل وسفك دماء في الساحة العربية، لكن هذا يجب ألا يحجب عنا العقلانية في إدارة أمور حياتنا. نحن نريد التغيير في الساحة العربية لكن ليس إلى الأسوأ. المفروض أن يحرص كل المثقفين والأكاديميين والإعلاميين على وحدة الأمة وصون دمائها، وألا يبادلوا مبادئهم وتطلعاتهم بالمصالح الآنية التي يمكن تلبيتها من خلال الفتن والنعرات العرقية والدينية والمذهبية.