قضايا وآراء

وداعا ثورات العرب.. مرحى انتفاضات الغضب

جهاد صقر
1300x600
1300x600
"لا تخيروا الشعوب بين الإرهاب والاستبداد"، متلازمة أشار إليها أمير قطر من على منبر الأمم المتحدة في مثل هذا الشهر من العام 2014، ورسالة فهمتها -خطأ- الثورة المضادة للربيع العربي، والدليل إمعانها بدعم طرفي المعادلة، أي الاستبداد التقليدي من أنظمة حكم برسم انتهاء الصلاحية، مقابل تنظيمات إرهابية عابرة مهما اختلفت مسمياتها (حشد شعبي، تنظيم دولة، أنصار الله، حزب الله وكل من يحاول بطريقة أو بأخرى أن ينسب نفسه بغير وجه حق لله)، وتحت رحمة الطرفين تتواصل كوارث شعوب الربيع إذ يقتاتان من دمها.

وبعدما كان جل الدعم بالمال والسلاح من نصيب المستبد، صار الإرهابي الصاعد ينافسه في المغنم، لأن ترنح منظومات الاستبداد بوجه حراك الشعوب، يجعل من تكليف الإرهاب بملء الفراغ أمرا منطقيا، لتبقى الشعوب خارج نطاق التغطية على حالها.

ورغم دعم الثورة المضادة المستبد والإرهابي معا، تبرئها الشرعية الدولية من تهمة ازدواج المعايير، فاعتبار الاستبداد حلالاً والإرهاب حراما، لا يمنع استخدامهما بَيدقين بيد لاعب شطرنج واحد، يُدعم أولهما من فوق الطاولة فيما يدعم الثاني من تحتها، وتكامل العلاقات غير الشرعية مطلوب لتعظيم مكتسباتها ولكانت لقطاء وأولاد سفاح. أوَليس الأول زوجة بحكم الشرع والثاني خليلة بحكم الواقع؟ ومن يعترض فله تهمة أقلها دعم خليلة غير شرعية ضد زوجة شرعية، بما يكفي لإبقائه بموقف الدفاع فلا يفتح فمه مرة اخرى، ناهيك عن تحميله وزر مجازر الاستبداد والإرهاب بحق الأبرياء… وكفى الله ثورتنا المضادة شر القتال!

ما لم يستوعبه فهم عرابي الثورة المضادة لمتلازمة الاستبداد والإرهاب أمران اثنان:

الأول: سرعة تكيف الشعوب مع أوضاعها الجديدة، فهي تمتصها فتتعايش معها، ومن ثم تخرج بحلول تُفككها لتؤتي أكلها في المدى المتوسط والطويل.

الثاني: قدرة الشعوب على تقديم حلول مرنة تستجيب لتحديات واقع ما بعد الثورة المضادة؛ مهما بلغت درجة حصار تطلعاتها صوب حريتها... ومهما تنوعت أبعاد ذاك الحصار الاقتصادية والسياسية والإعلامية وفوقها الإنسانية، ناهيك عن العسكرية بملاحقة قطع السلاح لتظل بيد المستبد والإرهابي حصرا.

صحيح أن تفنن كليهما بإنتاج حلول دموية طالت القاعدة الشعبية قضي -في غير بلد- على آخر فرص المصالحة الوطنية، إلا أن الشعوب لم تلق عصاها بعد، وكأن لسان الحال:

أمريكا تفعل..
إسرائيل تفعل..
إيران تفعل..
داعش وأخواتها تفعل..
النظام يفعل..
الدولة العميقة تفعل..
وحتى المجنون يفعل..
وعلينا الدور، فما عسانا نفعل؟

سؤال تتوزع إجابته الحتمية بين وجدان الإنسان العربي المستهدف بالسؤال، وبين طيات تجارب الماضي بما يستشرف معالم طريق ثالث يُشرع لشعوب الربيع... طريق أثبتت الحالة الفلسطينية نجاعته بتغيير قواعد اللعبة. نتحدث هنا عن انتقال القوم من التعليق على الأفعال إلى مرحلة ردود الأفعال -أي المقاومة- كخطوة أولى، ثم الانتقال من مربع المقاومة -كردّ فعل- إلى واقع الانتفاض كفعل مؤثر على الأرض في خطوة تالية. بيت القصيد هنا اختزان انتفاضة الغضب عوامل انفجار تعتق الشارع والنخب من سلبية تراكمت لصالح قوى الاستبداد… انتفاضة تختزن طياتها الثائرة عوامل نهوض جمعي، آجندتها لا تقتصر على كشف حساب مفتوح مع المستبد والإرهابي فحسب، بل تتجاوزهما لتصحيح الواقع المختل وبخارطة طريق قطعها حسم الثورة المضادة الجولة السابقة لصالحها. ألم يمعن المستبد في التعدي على قيم وأفكار وإنسان وطريقة حياة ومقدرات ومستقبل مجتمعات كاملة، وبطريقة لم ينافسه بها من كل من عبروا هذه الأرض من مستعمرين على مرّ التاريخ؟

إن قتل الثورات ليس نهاية الطريق، بل يشرع الباب لانتفاضات لا تبقي ولا تذر ولو بعد حين.

وإن تركيز الثورة المضادة على حلولها الأمنية لإخماد التطلعات الشعبية، وتوظيفها -لهذا الغرض- خططا وأجهزة إعلامية وأموالا فاسدة، مصدرها أنظمة فاسدة لتقبضها أنظمة فاسدة ولأهداف فاسدة، هو سلاح ذو حدين؛ فهو يفسد مؤقتا ثلاثية العيش والحريّة والكرامة للناس في جانب، لكنه يرتد لنحر المستبد والإرهابي وإلى الأبد في الجانب المقابل.  وعندما ينشغل المفسدون في ظل دولة اللصوص -لا دولة القانون- وتحت غطاء إخماد الثورات بنهب الأموال وإزهاق الأرواح، تنعدم برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي ما كان لها أن تنطلق في غياب خطط تنمية سياسية عمادها منظومة الحقوق والحريات. والمحصلة النهائية احتقان بانهيار شامل يعقبه قفز لمؤيدي المستبد والإرهابي من المركب والتحاق الكثيرين بأي انتفاضة تلوح أو يشتد عودها على الطريق.

وبطبيعة الحال لا يمكن تصور أبعاد تلك الانتفاضة -وهي انتفاضة ثأر وغضب على أية حال-، دون أن يضع المرء نفسه موضع الإنسان المنتفض ومحيطه (كيف يفكر وكيف يعيش؟)، ودون تمحيص لتجارب ماضٍ صنعته تجارب المنتفضين في فلسطين وجنوب إفريقيا وإيرلندا وأمريكا اللاتينية وغيرها، ودون المرور بدروس ربيع عربي لم يكتمل بأنصاف ثورات الثائرين تونس ومصر والعراق وسوريا، ومن أهمها:

- لكل ثورة ثورة مضادة تعاكسها بالاتجاه، يفوز منهما الأعلى مقدارا.

- الانتفاضة الشاملة لا تنكسر، لأن حشد انتفاضة مضادة بوجه انتفاضة شعبية كاملة الأركان أمر مستحيل.

- نضوج الظروف والديمومة والشمول من أهم شروط أي فعل انتفاضي حقيقي، وبدونها لا تُعد مخرجات ذلك الفعل انتفاضة؛ بل هبّة وثورة.

- في الانتفاضة الشاملة تهب أغلب التجمعات السكانية الثائرة لتتمرد ضد الواقع في وقت متزامن يُصعّب على منظومة المستبد والإرهابي الأمنية التعامل مع المناطق المتمردة بوقت واحد، مما يؤدي بمرور الوقت لظهور الشروخ الأولى في بنيتهما الأمنية قبل اتساعها بشكل يشجع زبانية الميدان من أصحاب الرتب الصغيرة على الانشقاق. شرط ما تقدم -كما أسلفنا- ديمومة تنهك قطعان المستبد وتفتت نواته الضاربة صعودا نحو نقطة انكسار المستبد ذاته، طالما تحلى المنتفض بالصمود والاستعداد لتحمل الكلفة بطول نفس... صمود معنوي يقابله قناعة زبانية المستبد أن لا قضية تستحق خسارة شخصية لأجلها.

- من شمول العمل الانتفاضي تكامل السلمي والمسلح. لا يوجد شيء اسمه انتفاضة سلمية خالصة، أو اقتصار النشاط الميداني على جوانب المقاطعة والعصيان المدني والتظاهر فحسب، بل إن ما يحمي السلمية هو القوة بكافة أشكالها المعنوية والمادية بما في ذلك السلاح ظهيرا للكلمة. لا بد لقوة المستبد الغاشمة من رادع يردعها، وباللغة التي تفهمها في عالم لا يفهم لغة الحق إذن لم تقترن بقوة جديرة بالاحترام. ولا يمكن لتمرد انتفاضي النجاح بلا دور فاعل لقوة ضاربة عمادها المجهولون في الميدان، يشُلّون حركة النظام بتعطيل مفاصله وإمداداته واتصالاته وقوته الضاربة ومصالحه الاقتصادية والخدمية الفاعلة. دور المجهولين هذا لا يمكنه التأثير في بنية المستبد بدون غطاء ميداني توفره أجواء التمرد ووواقع التحرر من سيطرة النظام في مناطق التمرد، لأنها البيئة التي توفر للمجهولين حرية الحركة كما تؤمن الانسحاب بعد تنفيذ كل مهمة. ومثال تلك الأجواء هو الهبّة الشعبية الكبرى لمنطقتي المطرية وحلوان عقب انقلاب العسكر على الشرعية المصرية؛ إذ كانت أجواء انتفاضة حقيقية لم تتبلور صوب انتفاضة شاملة نظرا لعدم وقوعهما في وقت متزامن، ونظرا لعدم نضوج الظرف آنذاك لانضمام أخواتها بوتيرة أداء انتفاضي مماثل، مما سهل على طلائع الاستبداد الانفراد بكل منطقة متمردة على حدة.

- العامل المادي والمعنوي لنجاح الانتفاضة قصته مختلفة. قد تتوفر للمستبد من أسباب القوة المادية ما لا يتوفر للمنتفض في الميدان. العامل الحاسم هنا الصمود. عندما مضت غزة في انتفاضتها على واقعها، أمست محررة بشكل كامل رغم حصارها. انتصرت غزة بإخراجها محتلها مذؤوما مدحورا رغم رجحان ميزة التسليح والقوة المادية وغيرها بشكل سافر لصالحه، فقط بعد إدراك المحتل عدم استطاعته تحمل فاتورة الاحتلال وتبعات استنزافه على المدى الطويل. وفي الحالة السورية يتصدع النظام أمام تشكيلات ثورية أضعف تسليحا، رغم اصطفاف الشرق والغرب خلف المستبد بمال وإعلام وسلاح وغطاء وحشد، ورغم تخادم داعش مع النظام بطعن الثوار من الخلف.

- أثبتت تجارب التاريخ الحديث -بما في ذلك الحالة السورية- عدم قدرة الجيوش النظامية على حسم صراع طويل بوجه ثوار حرب العصابات، وهي ميزة أخرى لأي مشروع انتفاضي يتكامل فيه السلمي بالمسلح. قد تطول فترة المواجهة لسنوات وقد ترتفع فاتورة الخسارة على ضوء تسوية المستبد بيوتا ومرافق بالأرض، غير أن حسابات مستقبل الصراع تقدم للثوار خبرات ذات مغزى لم يكونوا ليكتسبوها دون خوض التجربة. تشهد على ذلك عسكرة الثورة السورية -مضطرة بعد البطش بسلميتها- لتنتقل من مربع الهواية لاحتراف يتجاوز قدرات مستبد تدعمه خبرات المئات من المستشاريين العسكريين الأجانب، وعشرات الآلاف من المرتزقة، ناهيك عن ميل موازين التسليح وأقلها سلاح الطيران وقوة النيران لصالح المستبد بشكل فج.

- في زمن التواصل الاجتماعي والإعلام البديل يتغير شكل ومفهوم القيادة عما كان في الماضي. ورغم أن فعاليات الإعلام والإعلام البديل الانتفاضية لا يمكن اعتبارها انتفاضة لأن الانتفاضة مكانها الشارع الذي تشكل الشبكة العنكبوتية فضاءاً وامتدادا له، لم يعد في علم الثورات الحديث في المقابل شيء اسمه قيادة مركزية للانتفاضة، لأن البديل نواة صلبة وقوة دافعة تقوم على فكر ووعي جمعيّين، ودور متكامل للنشطاء، وقيادة ولو رمزية للشرعية الثورية، وتعددية لأقطاب تشترط التكامل والتجانس فيما بينها. بديل قيادي من هذا النوع يُصعّب على المستبد مواجهة انتفاضة تنين متعدد الرؤوس. إن التحدي الكبير أمام المنتفضين هنا هو في كيفية وفعالية تنزيل الأفكار على أرض الواقع، والاستفادة القصوى من الإعلام البديل كمكون رئيسي من مكونات الحشد وتوجيه دفة الصراع على ضوء المتغيرات على الأرض.

- في زمن عولمة المصالح والصراعات لا يمكن تحجيم مفهوم الانتفاض من إقليمي رحب إلى محلي ضيق. إن اتساع ساحة بطش قوى الاستبداد لتشمل الإنسانية والهوية والشرعية في عواصم الحضارة كبغداد والقاهرة ودمشق والقدس وعدن والأحواز معاً، ينضج عوامل الانتفاض الجمعي فيها بشكل متزامن يخفف الضغط عن الجميع، ويقلل من كلفة الانتفاض على الجميع كذلك، ويعجل حسم مرحلة الانتفاض الأولى ومن ثم كسر وكيل الاستبداد المحلي، إن انتفض الجميع بالسوية، باعتبار الوكلاء أذرع ثورة مضادة تستهدف الجميع بالسوية. وكما أن تزامن الانتفاض بين أفراد الأمة الواحدة -إن تحقق- عظيم الأثر على طريق استعادة الأمة هويتها ووحدتها المفقودة، فإن دوره حيوي تقديم حلول عملية للعديد من مشاكل الإمداد والحشد لصالح المنتفضين على غير جبهة، يشهد على ذلك انفتاح الجبهتين السورية والعراقية على بعضهما اليوم مع إعادة تقسيم المنطقة بما يحاصر الثورة السورية بعد تصفية إرهاب الدولة للثورة العراقية… انفتاح ممكن التحقيق -نظريا على الأقل- عند انفتاح الجبهات الليبية والمصرية والغزية -بينيا- إن أخذ قطار الانتفاض المصري مداه.

- نقطة انكسار المستبد فسقوطه ليسا السقف الذي تنتهي عنده انتفاضة، لأن معركة الانتفاضة الحقيقية تبدأ بعد إسقاط المستبد، بعنوان هو إرساء منظومة حق وعدل بديلا لمنظومة استبداد وفساد، ومفردات تضم وضع دستور مجتمع حر وبناء مؤسسات وبالطبع اقتصاص من رموز وزبانية مستبد وإرهابي وثورة مضادة ودولة عميقة، بموازاة السهر على برامج وسياسات وشبكة علاقات محلية وإقليمية ودولية. عندها تنتقل الانتفاضة من وضع الرقيب والساهر على تحقيق أهدافها إلى الذوبان في منظومة تحقيق تلك الأهداف.

- من شأن التغيرات الانتفاضية الكبيرة أن تجعل الأهداف المرحلية كوقف إعدام رموز الشرعية أو الحد من الإعدام الطائفي بالجملة أهدافا قابلة للتحقيق، لأن هدف المستبد -بإيعاز من رعاته الدوليين غالبا- سيكون الاحتواء والتهدئة، لا صب الزيت على النار المشتعلة، من باب الحرص على مصالح الرعاة الإقليمية المهددة بفعل الانتفاض على الأقل. سيلجأ المستبدون -ومن والاهم كالعادة- لكل وسائل الترهيب فالترغيب كالمناورة والامتصاص والضغط والابتزاز والخداع والمبادرات والوساطات واستبدال الأقنعة والوجوه، قبل بلوغ الصراع انفراط السبحة بالتفاف حبل المشنقة حول عنق المستبد والإرهابي ببطء، على وقع كلمات المنتفض الخالدة:

انتفض أو مُت إذا شئت شهيــــدا 
فحديد الموت قد فلّ الحديــــدا 

فجِّـر الأرض ودعْهــــا شعلــةً
قطِّع البـــاغي وريدا فــوريدا

سمِّهــا إن شئت عنفا أو فـِـدا 
أو قصــاصا أو دفــاعا أو صمودا 

يا شهيد الحـــق أيقظ أمتـــــى
فالإذاعات غناءا ونشــــــيدا

خــذ دمــي حبــرا وجــلدي دفتــرا 
واكتبُ فيـــه خـــلودا يا شهيـــــــــدا
التعليقات (17)
عبدالله المسلم
الثلاثاء، 14-07-2015 06:16 ص
اليس .السلبمه اقوى من الرصاص اليس السلميه افضل. اليس السلميه.اسلم اليس السلميه اقل كلفه
محمد الغامدي
السبت، 11-07-2015 01:26 ص
مقال ممتاز بارك الله فيك
ابو خالد
الجمعة، 10-07-2015 08:53 م
فعلا انتهى زمن الثورة الان زمن الانتفاضة المسلحة
الشعراوي
الجمعة، 10-07-2015 06:47 م
طال البلاء يا رب نصرك الذي وعدت
سميره
الجمعة، 10-07-2015 06:43 م
مقال جدا رائع سلمت اناملك