قضايا وآراء

الفتى الذي كان فلسطينياً على منصة "إيباك"

حسام شاكر
1300x600
1300x600
على منصة مؤتمر "إيباك"، ظهر الفتى الذي كان فلسطينياً. حضر في مقابلة للحديث بين يدي جماعات الضغط الإسرائيلية في الولايات المتحدة في حدثها السنوي الأكبر. أتى في مؤتمر "لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية" ليقول ما سبق أن قاله مراراً وتكراراً عبر سنوات خمس خلت بأنّ الاحتلال على حق وأنّ انتهاكاته مشروعة، جاء ليلوم الضحية ويثني على الجلاد. 

تراهن دعاية الاحتلال التي تنشط بدأب حول العالم، على قصص سخيفة كهذه، لتسويغ روايتها وتمرير ذرائعها. تبدو القصة للوهلة الأولى مثيرة للانتباه بالفعل. فتى فلسطيني يفارق أهله ووطنه وقضيته، ويقاطع ثقافته ودينه أيضاً، ليأتي بحجج نسجتها دوائر الاحتلال الدعائية. ثم إنه نجل قيادي فلسطيني من "حماس"، وهنا تكمن الاستثنائية في القصة التي تقفز بفرصها في الإثارة.

من يواكب الملف من بدايته، بظهور الفتى مصعب فجأة، ثم تحويل قصته الباعثة على الريبة إلى كتاب "الأمير الأخضر"، ثم يلحظ منظومة الترويج التي تم تسخيرها للكتاب، وإنتاج فيلم بالعنوان ذاته، سيجد نفسه إزاء فقاعة إعلامية غير مضمونة النتائج. 

تحاول دعاية الاحتلال من خلال فقاعة الفتى الذي كان فلسطينياً، استعمال تأثير "وشهد شاهد من أهلها"، ولذا قامت بتضخيم دور الفتى وتاريخه في هذا السياق بصورة ساذجة، لمنح قصته الفردية أهمية فائقة في تفسير الواقع بأسره. لكنّ مصعب لم يعد "من أهلها"، بعد أن تنصّل مبكراً من انتماءاته جميعاً، وانقلب إلى أقصى النقيض، وتجنّد في استخبارات الاحتلال ثم التحق بآلته الدعائية، فخسر بذلك امتياز الحديث من داخل المربع الفلسطيني.

حاولت دعاية الاحتلال في البدء تصوير الفتى في هيئة البراءة المصاحبة لاستيقاظ الضمير. حسناً، لكنّ مصعب عندما ترك دينه لم يختر المسيحية ديناً جديداً، كما يزعم، بل اتخذ عقيدته العداء للإسلام والتشهير به. إنه مذهب أولئك الواقفين على نقاط التماس في صراع الحضارات، ولهم أدوار يتم استعمالهم بها في مراكز وشبكات تحظى بتمويل سخي. 

ثم إنّ رحلة الفتى لم تكن رحلة فكرية، بل سقوطاً في قبضة الاستخبارات الإسرائيلية التي وضعته على مسار تجسسي محلي قبل أن تحمله إلى المنصة الدعائية حول العالم. ويمكن الافتراض أنّ قصة تغيير الدين لم تكن سوى ستار من الدخان، للتعمية على حقيقة الاستعمال الاستخباري للفتى وتوجيهه من الاستخدام السري إلى المهام المعلنة.

ومن يتأمّل تجربة الفتى، لا بدّ أن تخامره الشكوك بشأن توازنه العاطفي واستقراره النفسي. وهو في كل الأحوال نموذج آخر من ظاهرة كارهي أنفسهم، وقد وُجِد هؤلاء في الماضي، وما زالوا حاضرين في البيئات كافة.

ليس جديداً أن يتقمّص أحد الضحايا شخصية جلاده. وهي نزعة معروفة من تجارب الحروب وأسر الجنود، ثم ترسّخ الاعتراف بها منذ تشخيص "متلازمة استوكهولم"، بعد أن انتهت واقعة اختطاف طويلة في العاصمة السويدية، وكانت المفاجأة هي تعاطف الرهائن مع خاطفيهم. كان الاختطاف في المصرف السويدي قد استغرق وقتها ستة أيام من نهاية صيف 1973، وليس عقوداً طويلة من اختطاف شعب بأسره تحت احتلال يطارد الصبية وذويهم بوسائل الإخضاع المنهجي.

خلافاً لما تأمله دعاية الاحتلال، فإنّ قصة ذلك الفتى أو غيره جديرة بأن تفتح ملفات ظلت بعيدة عن التناول. منها ضرورة فضح نظام الابتزاز الذي أقامته السلطات الإسرائيلية وأذرعها الاستخبارية لمطاردة المواطنين الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال والفتية، بغرض تحويلهم إلى عيون وآذان وحتى قتلة ضد مجتمعهم. 

يجري الابتزاز بطرق متعددة، تهدف للهيمنة على المجتمع واختراق نسيجه، ويتعطل في هذا النطاق عمل المبادئ والأخلاق والشرائع، فيتم الضغط على الحاجات النفسية والبيولوجية والمعيشية للإنسان، إلى أن يتم إسقاط الإنسان في لحظة ضعف أو حاجة وتسخيره ليتحول إلى كائن مسلوب الإرادة. 

ومن يحلل تجربة الفتى مصعب، سيعثر على مداخل متعددة لواقعة الاستدراج التي تمت بحقه، دون أن يغيب عن الأنظار أنه نجل قيادي فلسطيني كان في مرمى الاستهداف. وفي مجتمع يقضي فيه القادة شطر حياتهم في سجون الاحتلال، وتنهض فيه الأمهات بمهام التنشئة الشاقة لوفرة من الأبناء والبنات في واقع حافل بالضغوط، فإنّ المنظومة قد تنجح في استدراج فريسة ضعيفة عبر وسائل الترغيب والترهيب المدروسة بعناية. 

هي طريق طويلة تتخللها إجراءات مطوّرة من تجارب الاستخدام الاستخباري وغسيل الدماغ، مع تعظيم الامتيازات التي تجعل مصعبا يجد في النهاية فرصته على منصّة تعاقب عليها أسياد البيت الأبيض، بينما يقضي أقرانه أعمارهم في سجون كبيرة وصغيرة خلف الحواجز والأسوار والأسلاك الشائكة. 

تتيح قضية مصعب الفرصة لفتح ملف كبير وشائك بشأن آليات عمل الاستخبارات الإسرائيلية بحق الصبية والشبان وعموم الأفراد في المجتمع الفلسطيني. ومن حق العالم أن يتابع قصصاً مثيرة للغاية في ما يفعله الضباط الإسرائيليون وعملاؤهم بنسيج المجتمع، وكيف يمزقون الأواصر الاجتماعية ويخترقون دوائر الأسرة والقرابة والجيرة، وكيف يحوِّلون أفراداً في لحظة ضعف إلى كيانات منزوعة الضمائر ومغسولة الأدمغة لتنفيذ مهام دنيئة، وكيف يتم استخدام بعضهم في فظائع القتل أو التمهيد لها.

وماذا بوسع الفتى الواقف في بقعة الضوء أن يقول في النهاية؟ يتم استحضار نموذج كارهي أنفسهم لتبرير الاحتلال وتسويقه، ولتشويه الشعب الفلسطيني ومقاومته. بيد أنّ الغائب في هذا الخطاب هو القيم والمبادئ والأخلاق والمواثيق. 

فأي تأثير يمكن أن يحرزه ظهور وجوه كهذه في الفضاءات الإعلامية طالما أنّ النصوص ذاتها يواصل ناطقو الجيش الإسرائيلي الإفصاح عنها؟ وأي قيمة مضافة في الواقع تحققها دعاية الاحتلال من استعمال قصة الفتى الذي كان فلسطينياً؟ 

تراهن دعاية على قصص مثيرة بعد أن تهاوت أساطيرها وتضعضعت روايتها. يظهر فتى كان فلسطينياً ليقول بسذاجة: "لا أستطيع أن أتخيّل العالم بدون إسرائيل"، فكيف تبدو عقلانية هذا الخطاب ومصداقيته عندما لا يأتي على ذكر فلسطين ذاتها وحقها في أن تكون؟ 

في قصة مصعب إشارة إلى العجز الدعائي الإسرائيلي، فأي مفعول يحرزه الفتى الذي استدرجه نظام الاحتلال، مقابل من تكسبهم فلسطين حول العالم دون جهد تبذله؟ ثمّ إنّ بعض من كسبتهم فلسطين إنما جاؤوا من قلب مربع الاحتلال ومن أرفع أكاديمياته، ليقولوا الحقّ مهما كلفهم ذلك من أثمان.
0
التعليقات (0)