كتاب عربي 21

الشتا للي فات.. الخريف الذي نحياه!

طارق أوشن
1300x600
1300x600
في "قلب البلد" تُزَور الحقائق وتُلبَس المقاس الذي تختاره السلطة من النفي إلى القبول باحتشام، فمحاولة النيل من الحقيقة إلى مجاراة الوقائع بعد أن يفتضح أمرها أمام العالمين. وقتها يصير أمر اللعب على المقاسات قد تجاوز خياطي و"ترزيي" النظام. "قلب البلد" ليس فقط برنامجا في تلفزيون الحكومة في فيلم ابراهيم البطوط "الشتا للي فات"، بل هو فضاء باتساع الوطن معبر عن توجه إعلامي وصناعة أكاذيب دأبت السلطة في الدول المستبدة على تسخيرها لتلميع صورة النظام والحاكم في برامج تعذيب نفسي رهيب للمتابعين.

كم كان المشهد معبرا أن يجتمع مدير التلفزيون الحكومي مع منشط برنامج "قلب البلد" داخل غرفة الماكياج للحديث عن أفضل الوسائل للتطرق لأحداث الخامس والعشرين من يناير، فالمهمة الأسمى لهذا الإعلام تجميل وجه نظام قبيح ولو خرج المواطنون منادين بسقوطه أو على الأقل إصلاحه حتى اللحظة تلك. ولأنه إعلام "حرب" على المواطن ما كان له إلا أن "يستضيف" لواءات الشرطة الحانقين على "شوية عيال ولاد كلب وزبالة. عيال ماتربتش بتوع النت والوساخة والمسخرة والكلام الفاضي".

في الثامن والعشرين من يناير أصبح هم الإعلام الحكومي، ومن داخل نفس غرفة الماكياج، البحث عن الكرافطة "الكحلي" لزوم أكسسوارات الحزن التلفزيوني المصطنع، فالقناة لا تزال تقدم الأغاني في وقت تحفل فيه تلفزيونات العالم بصور التظاهرات التي تملأ التحرير وميادين أخرى بالمحروسة. يومها بدأ العد العكسي لتوقف نبضات بث "قلب البلد" في تواز منطقي مع سقوط سوط السلطة الأكبر، جهاز الشرطة ولواءاته، ضيوف البرنامج المدللين وكل أسلحة القوة الناعمة التي تهاوت مع أول امتحان.

"هو إيه ايللي حاصل في البلد؟"

 لازمة رددها عدد من شخصيات فيلم "الشتا للي فات" طوال أحداثه دون أن يتلقوا من "المتعلمين" جوابا. الشعب في غالبيته جالس على الكنبة يتنقل بين القنوات دون قدرة على الفهم في وقت يحرص فيه القائمون وراء تلك الآلة الإعلامية "المتوحشة" على تشكيل وعيه وتوجهه العام. ما أشبه اليوم بالبارحة وما أشبه ذاك الشتاء بالخريف الذي نحياه! 

المذيعة فرح، أحد ألسنة السلطة بعد توبتها: "... كذبت وضللت، كنت لسانهم علشان طموح شخصي غبي. ماكنش لازم تصدقوني. مش لازم تصدقوا أي حد... أنا أخيرا قلت لأ.. معدش فيه مكان للخوف"..

بهذا الفيديو أعلنت فرح "انشقاقها" عن الإعلام الحكومي وأصرت على أن يتم تحميله عبر الإنترنت، ولم تجد غير خطيبها السابق عمرو ليقوم بالمهمة في وقت تعيش فيه البلد انقطاعا تاما للاتصالات، كخطة أمنية كان مهندسوها يعتقدون أنها كفيلة بوقف الحشد المتظاهر بالتحرير. 

منذ المشاهد الأولى من فيلم "الشتا للي فات" حيث يتلقى عمرو قبلة حياة من خطيبة فقدها على مستويي العاطفة والقناعات السياسية بعد أن ذاقت من نعيم القرب من السلطة، وذاق هو مرارة التعبير عن مجرد تضامن مع قطاع غزة وهو يقصف من طائرات الاحتلال، فكان مصيره الاعتقال إهانة معنوية وتعذيبا جسديا ونفسيا تفنن فيه ضابط أمن الدولة "عادل بيه"، الذي لم يفوت الفرصة تمر دون تدمير علاقة الحب الناشئة بين عمرو وفرح بجملة واحدة لها مغزاها: هي فرح اترقت إزاي؟.

 يتلقى عمرو منذ المشهد الافتتاحي قبلة حياة خارج السياق إن لم تربط بتاريخ الحدث يوم الخامس والعشرين من يناير 2011. ففي اليوم نفسه تلقى الوطن جميعه قبلة حياة من شباب أبوا إلا أن يخرجوا معلنين تحديهم للسلطة الجاثمة على قلوب المصريين منذ عقود. فالوطن سجن كبير وشقة عمرو سجن أصغر داخل السجن الأكبر ارتضاه بطل القصة بعد خروجه المذل من زنزانة أمن الدولة الأصغر. بعد القبلة، يتوجه عمرو إلى البلكونة المفتوحة على فضاء أوسع وأرحب، يسقي الزرع ثم يشغل حواسيبه، فنرى على إحدى الشاشات شلالا هادرا يتحول إلى محيط متلاطم يصارع فيه سمك ضخم الأمواج، ثم يبدأ عمرو في تجهيز لفافة حشيش على خلفية علبة سجائر أمريكية. وطوال المشهد تتناهى إلى الأسماع أصوات أوائل المتظاهرين وصفارات سيارات الأمن تعلن عن حدث جلل في الأفق قادم.

مشهد استطاع بحرفية كبيرة أن يعطي ملامح يوم تاريخي من أيام مصر المعاصرة، وخلاله أيضا بدأ المخرج ابراهيم البطوط الانتقال بنا بين الشخصي والعام وبين التخييلي والوثائقي، وهو اختيار جمالي سيرافقنا طوال الفيلم. هنا يرمي المخرج بالورقة الأولى في عملية الكشف المتدحرج للواقع المصري السابق للأحداث. 

استعار المخرج فيديو لشقيقه على اليوتيوب يحكي فيه تفاصيل أسبوعين من الاعتقال والتعذيب بعد أن تلقفته الآلة القمعية من المطار. في الفيديو بكى محمود البطوط، وفي مصر كثير من الرجال بكوا ويبكون الظلم والقهر بعد أن صار التعذيب مجرد ذكرى، وتحول القتل المباشر في الميادين والشوارع وعربات الترحيل وعلى أبواب ومدرجات الملاعب أحداثا عارضة. ما أزهى "الشتا للي فات" عن الخريف الذي نحياه!

للتعذيب مرارة ذاقها عمرو أواخر يناير 2009 بشكل أدخله مرحلة انحسار نضالي منعه من الخروج لدعم المتظاهرين والاكتفاء بمتابعة الأحداث على التلفزيون. وبالرغم من كل ذلك فجيرانه وأبناء حارته لا يزالون يرون فيه مناضلا فقد والدته التي قتلتها الحسرة على غيابه القسري. في يناير 2009 كان عمرو معتقلا بأمن الدولة وعامين بعدها لا يزال يعيش مرحلة اعتقال أشد مرارة ببيته حيث حريته مقيدة بذكريات سيئة جعلته يبتعد عن الواقع اليومي ويرتمي في أحضان فضاء افتراضي ما لبث أن تحول إلى معبر عن ذات الواقع الذي يهرب منه مرتادوه. عندما عاد عمرو من الاعتقال إلى البيت بادرته جارته : "البقية في حياتك". لم يحرك ساكنا حتى اختلى بنفسه، فانفجر في موجة بكاء. لقد ماتت الوالدة لكن عمرو مات معها أيضا. صار الخوف المرضي من السلطة وممثليها حاجزا أمام خروجه إلى واقع يرفضه داخليا لكنه لا يسعى أبدا إلى المساهمة في تغييره مهما تبدت الفرص أمامه مواتية للفعل. الانكسار أمام أول مواجهة مع السلطة أمر واقع لكن كثيرون أيضا يرفضون الإذلال والخنوع. 

في مواجهة المحققين.. صفوف من المعتقلين:

معتقل 1: لما حسيت بغلطي جيت القسم أسلم نفسي بس مالقيتش حد، هو انتو صحيح رحتو فين يا باشا؟

معتقل 2: أنا أساسا كنت رايح أشتري بيتزا... خدوني وقالولي حيسيبوني بعد عشر دقايق ولسه ماسبونيش لغاية دلوقتي. وأنا متأخر ولازم أمشي علشان البيتزا بردت.

معتقل 3: كل حاجة في البلد ده بقت خايبة. حتى أسئلتك ده خايبة .

يصفعه الضابط ويقول: خايبة ده تبقى أمك.

هذه هي آداب الضيافة عند محققي أمن الدولة. فـ"عادل بيه" وزبانيته لم يتركوا من طريقة إذلال إلا واستعملوها لدرجة دفع خطيب جامع، لم تعجبهم خطبه الداعمة للمقاومة بغزة، إلى التبول في سرواله بعد أن أشبعوه من الضيافة شربا للمياه بالغصب. 

"مال غزة ومالنا؟ اوعى تكون فاهم ان اسرائيل هي عدوتنا، احنا عدونا الحقيقي الجهل. وانت لما تكون متسخر من حد متعرفوش ومش دريان تبقى انت جاهل". هكذا خاطب عادل، ضابط أمن الدولة، عمرو وهو يلتقيه معصوب العينين قبل الإفراج عنه، ولخطيب الجامع أصدر الأمر المطاع : "انس موضوع غزة خالص يا شيخ ميدو".

ما أشبه اليوم بالبارحة وما أشبه ذاك الشتاء بالخريف الذي نحياه! 

 ومع توالي الأحداث تضيق الدائرة على  مهندسي القبضة الأمنية ليجنحوا إلى الصمت المطبق في الاجتماعات التي تحولت إلى غرف أضيق وعلى طاولات أصغر، وحين احتاروا في كيفية التعامل مع الأحداث لم يجدوا غير "المواطنين الشرفاء" لدفعهم للمواجهة، علما أن المواطنين الشرفاء كانوا في خطاب مبارك هم "الشباب الثوري الطاهر" ليصبحوا في خطاب ورثته بلطجية ومأجورين. مبارك كان حاضرا في الفيلم بصوته وغابت صورته. لكن حيرة النظام "المتهاوي" انعكست على وجوه متابعي الخطابات وهي تسمعه يقول: "دماء شهدائكم وأبنائكم لن تضيع هدرا"، ليواصلوا السؤال المحير منذ بداية الفيلم :"هو ايه ايللي حاصل في البلد؟"..

2286 استشهدوا،
371 فقدوا أعينهم،
8469 جرحوا،
27 ناشطة سياسية تم اعتقالهن وتوقيع كشوف عذرية عليهن،
12000 مدني معتقل بأحكام عسكرية.

تلك كانت حصيلة عام عن "الشتا للي فات" كما وثقها صانعو الفيلم قبل الختام.

التحق الضابط عادل بعائلته المستمتعة بخيرات مصر بعين السخنة في فترة نقاهة قبل العودة إلى واجهة الأحداث، وظل عمرو وفرح حاملين لكاميرا ظنا منهما أنها سلاحهما في المواجهة عبر التوثيق للأحداث.

بعد أربع سنوات لم يعد أحد يحصر نزيف الأرقام. 

ما أقبح الخريف الذي نحياه!

[email protected]
التعليقات (0)