قضايا وآراء

من التّملّك إلى الكَــــينُونَة.. من أجل مجتمع جديد!

عبد الحكيم كرومي
1300x600
1300x600
يعتبر إريك فروم (1900-1980) من أهم المفكرين الماركسيين الذين أسهموا في نقد المدنية المعاصرة وبيان زيف أسسها التي قامت عليها، وهو عالم نفس وناقد اجتماعي ومفكر انساني ألماني معاصر، له العديد من المؤلفات الرصينة المرتبطة بقضايا الإنسان من قبيل "الإنسان من أجل ذاته" و"المجتمع السليم" و"الهروب من الحرية" و "فن الوجود" و "فن الحب".

لقد حاول هذا المفكر تتبع مظاهر انحراف الحضارة الغربية المعاصرة عن المسار الصحيح، حيث جعلت من المادة والاستهلاك وعبادة القوة مقياسا للتقدم والتحضر، وكذا وضعها للإنسان في حالة صراع دائم مع الطبيعة ومع نفسه؛ مع الطبيعة عندما اتجهت نحو تكريس السيطرة عليها بالتكنولوجيا المخربة والمدمرة وتوظيف إمكانياتها بطريقة أنانية غير رشيدة وبغير وازع أخلاقي، ومع نفسه عندما ضخّمت فيه مظاهر الجشع والحقد والكراهية وعبادة المال بغير حدود؛ أي عندما صنعت منه إنسانا متمركزا حول ذاته وفي شوق وتطلع دائم إلى الكسب والتملك والادّخار،  وهذا ما جعله يعيش في حالة من (الاغتراب) الوجودي الذي كان من وراء تطرق كل مظاهر اليأس والسلبية إلى حياته.

ولأن الحياة الإنسانية أصبحت في حالة من الاضطراب والاختلال، جعلها تقف على مشارف كارثة بشرية محققة؛ فإنه لا شيء في نظر "فروم" يمكن أن ينتشلها من هذه الفوضى، إلا بالتصالح مع الطبيعة عوض تدميرها ومع الإنسان عوض تغريبه، ولن يتأتى هذا إلا عن طريق إعادة النظر في طبيعة المنظومة القيمية التي توجه نظرتنا إلى الكون والحياة، والهدف من وراء ذلك هو إنشاء مجتمع جديد ذي شخصيات كاملة الإنسانية، أي مجتمع تتحقق فيه كينونة الإنسان كإنسان؛ لكن هذا كله  يستلزم تظافر الجهود من أجل تأسيس علم جديد لقضايا الإنسان، من شأنه أن يقدم حلولا للمشاكل العويصة التي تتخبط فيها الإنسانية.

وفي هذا المقال نحاول تتبع أهم الأفكار التي ضمنها إريك فروم في كتابه "الإنسان بين المظهر والجوهر"( ) والذي ذهب فيه إلى أن هناك نمطان من الوجود في الحياة المعاصرة يتصارعان من أجل السيطرة على الشخصية الإنسانية واحتوائها؛ الأول هو نمط "التملك" الذي سجن الإنسان في عالم الاستهلاك والمادة وهو النمط الطاغي على الحضارة الصناعية المعاصرة، والنمط الثاني هو "الكينونة" والذي تتجلى فيه ملامح إنسانية الإنسان بشكل واضح. فكيف يتمظهر التملك إذن؟ وما الكينونة؟ وما هي الفروق بينهما؟ وما هي ملامح المجتمع الجديد الذي يدعو إليه إريك فروم؟ وما السبل الكفيلة بتغليب نمط الكينونة عن نمط التملك؟

أولا: لماذا أخفـق التقدم؟
لا يخفى أنه بعد أن تحطمت أغلال الإقطاع ودخلت الإنسانية مرحلة العصر الصناعي، التي تميزت بالعديد من السمات التي ميّزتها عن المراحل السابقة ومن أهمها: إحكام السيطرة التامة على الطبيعة، وازدياد الشعور بالحرية مع الوفرة المادية التي جعلت الناس يشعرون أو يتطلعون إلى نوع من السعادة بفعل ازدياد الإنتاج والاستهلاك اللامحدودين، و(من ثالوث الإنتاج غير المحدود والحرية المطلقة والسعادة اللامحدودة؛ تشكلت نواة دين جديد اسمه التقدم). 

لكن وبالنظر إلى المتطلبات الحقيقية للشخصية الإنسانية، فمعظم منجزات العصر الصناعي التي حملها إلى البشرية إله التقدم كانت مجرد أساطير مضللة؛ ذلك أن هذا "التقدم" وبفعل تناقضاته الداخلية أخفق في تضييق الهوة ما بين الأمم الغنية والفقيرة، بل إن العكس هو الذي حصل، فقد كرّس من اتساع الهوة بين دول الشمال والجنوب بشكل كبير جدا! هذا إضافة إلى المقدرة العجيبة التي أصبحت تمتلكها الآلة الإعلامية في توجيه وتشكيل المشاعر والأفكار والأذواق والتلاعب بها بالطريقة التي تريد، ولا يمكن التغاضي عما سببته وسائل التكنولوجيا الجانحة من مخاطر على البيئة والطبيعة والإنسان حتى أضحت تهدد الوجود.

كثيرة هي الحقائق إذن التي تبين بأن وعد التقدم التي تأسس عليه العصر الصناعي مجرد وهْم وخداع؛ إذ إن معظـم منجزات هذا العصر صارت في اتجاه معاكس للطبيعة الإنسانية، وقد أخفق هذا الوعد بسبب المقدمتين النفسيتين اللتين تأسس عليهما: الأولى التي تذهب إلى أن (هدف الحياة هو تحقيق السعادة) مما يعني الجري المحموم وراء الاستماع بالملذات إلى أقصى الحدود، والثانية تعتبر أن (الأنانية والسعي نحو تحقيق المصلحة الشخصية يفضيان إلى تحقيق السلام والانسجام)!

من الواضح أن هذين المقدمتين شكلتا استثناء شاذا عن الاتجاه العام الذي سلكته البشرية إلى حدود العصر الصناعي، ذلك أن التمركز حول اللذة لذاتها ظلت قضية منبوذة عند (المعلمين الكبار لفن الحياة في الصين والهند والشرق الأدنى وأروبا)، ولعل الاستثناء الوحيد الذي شذ عن القاعدة هو الفيلسوف اليوناني أريستيبوس (تلميذ سقراط) والذي كان يرى أن (هدف الحياة هو ممارسة أقصى ما يمكن من المتع والملذات البدنية وأن السعادة هي مجموع هذه المتع والملذات). وحتى أبقور لا يمكن اعتباره من الداعين إلى مذهب اللذة الراديكالي رغم أنه ذهب إلى حد اعتبار المتعة الخالصة هي الهدف الأسمى، إذ إن اللذة عنده لم تكن تعني إلا غياب الألم وسكينة الروح.

إن رغبات الإنسان وشهواته لا تشكل معيارا أخلاقيا للسلوك في الحياة، هذا هو الموقف الإنساني الذي ساد عبر التاريخ، وقد اتجه المفكرون والفلاسفة إلى التميز بين نمطين من الرغبات البشرية، الأول عبارة عن رغبات ومشاعر ذاتية خالصة ووقتية يؤدي إشباعها إلى الإضرار بالنوع الإنساني، والثاني رغبات متأصلة في الطبيعة الإنسانية وتنسجم معها؛ على أن القرنين السابع عشر والثامن عشر قد حمل بذور الانقلاب على هذا الموقف الأخلاقي الإنساني، وذلك عندما بدأت تظهر بعض النظريات التي ربطت بين اللذة والسعادة، وهي نظريات ارتدت إلى إحياء مذهب أريستيبوس الراديكالي.

إن الموقف الجديد الذي حمله العصر الصناعي والذي كان وراء بروز مذهب اللذة المتطرف، هو (انفصال الاقتصاد عن القيم والأخلاق) بعدما كان سلوكا مرتبطا بالقيم الإنسانية، وهذا ما أدى تدريجيا إلى تشكيل أسلوب في الحياة قائم على الجشع والطمع والأنانية، هذه السمات التي خلقت إنسانا مريضا داخل مجتمع مريض، وإذا كان النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي وطدته الرأسمالية قد انحرف عن المسار الصحيح، فلا بد من ثورة أخلاقية جديدة تنتشل الإنسانية من كارثة باتت تهدد العالم، إذ لابد من نظام جديد للأخلاق وللموقف من الطبيعة. يمكن من خلاله استعادة كينونة الإنسان التي اندحرت لحساب التملك.

ثانيا: التملك والكينونة: فروقات أساسية
إن نزوع الانسان نحو التملك هو جزء من طبيعته، التي لا يمكن أن تستقيم بدون امتلاكه لأشياء يحقق بها وجوده بل ويحافظ عليه، فأسلوب التملك ليس بالشيء المذموم إلا عندما يصبح هو الأسلوب الذي يشكل الحياة؛ أي حين يصبح الإنسان عبدا للأشياء والمقتنيات التي من حوله، ورغم أن التملك أمر طبيعي بل وضروري؛ إلا أن السعادة الحقة مرتبطة بجوانب أخرى في حياة الإنسان تحتاج إلى تأكيد وتغليب أكثر من الجانب التملكي، خاصة الجانب الروحي الباطني.

وبناء على هذا فالفارق بين الكينونة والتملك (ليس بالضرورة هو الفارق بين الشرق والغرب، لكنه بالأحرى الفارق بين مجتمع محوره الأساسي الناس وآخر محوره الأساسي الأشياء) ومن البين أن المجتمع الصناعي الذي نمّى مظاهر المال والسلطة والشهوة قد رسخ جانب التملك على حساب جانب الكينونة فحدث الاختلال، وعند التأمل نجد أن من الدلائل التي تؤكد رسوخ نمط التّملك في الحياة المعاصرة، هي الطريقة التي نستخدم بها اللغة، حيث أصبح التعبير عن التملك يتم عبر استخدام الأسماء عوض الأفعال، وهو استخدام غير طبيعي. فــ (الأسماء هي الرموز المناسبة للأشياء (أملك منزلا مثلا أو سيارة...) بينما الأفعال هي الرموز المناسبة للنشاط والفعل (أنا أحب، أنا أريد...) ولأجل هذا فاستخدام صيغة التملك مع ربطها بالأسماء للتعبير عن نشاط إنساني إنما هو استخدام مغلوط للغة) فلا يمكن أن يتحول النشاط الإنساني بما هو تجربة شخصية إلى شيء قابل للملكية.

لقد ارتبط الأسلوب التملكي في الحياة المعاصرة بنزوع الانسان نحو الاستهلاك المتطرف، ومن ثمة فالاستهلاك هو أحد أهم وأخطر أشكال التملك، لكن كيف يتمظهر الأسلوب التملكي في الحياة؟ لعل طريقة التعليم المعاصرة تكشف بعضا من الفروق بين التملك والكينونة، فالتعليم الذي يركز على التلقين السلبي، الذي يكون دور الطالب مقتصرا فيه على تدوين المعلومات وحشوها في مذكرات وجذاذات، فهذا النمط من التعليم يجعل أساس العملية التعليمية هو امتلاك المعلومة وحفظها، وهو نمط تملّكي، خلافا للطريقة التي تخلق حوارا وتجاوبا بين المدرس والطالب، عن طريق التركيز على إعمال الفكر وطرح الأسئلة المرافقة للدرس بشكل يبعد الطالب عن السلبية، ويجعله في حالة تفاعل مثمر مع ما يتلقّاه من معلومات ومعارف.

 ومما يُبين الفرق بين التملك والكينونة طريقة التخاطب والحوار التي تجري بين الناس، فالذي يعبر عن رأيه وهو يعتبر ذلك الرأي جزء منه لا ينفصل عنه، فهو ضمنيا يعتبر ذلك الرأي من ممتلكاته التي يصعب التنازل عنها. أما الذين يتجاوبون بطريقة عفوية بعيدة عن التكليف فإنهم قادرون على تجاوز "مركزية الذات" وفي هذه الحالة يكون الحوار والتواصل مثمرا وفعالاً، حيث يتم التركيز على تبادل الأفكار بغض النظر عمن يتملك الصواب فيها.

يقدم (إريك فروم) مثالا آخر يُوضّح من خلاله الفرق بين التملك والكينونة، وهو (الإيمان)، أيا كانت طبيعته، دينيا أم سياسيا... فالإيمان في إطار التملك هو أن (يتملك الشخص إجابات عن الأسئلة المطروحة، ليس عنده دليل عقلاني عليها، وهو يشتمل على صياغات توصل إليها آخرون يقبلها الشخص بحكم خضوعه لهم) إن الإيمان وفقط هذا الشكل هو إلغاء الذات واعتماد على أفكار ورؤى جاهزة، والأمر يختلف عن الإيمان في نمط الكينونة، فهو ليس مجرد إيمان بأفكار معينة... بل هو توجيه داخلي، موقف، ولعله من الأنسب أن يقال إن شخصا ما في حالة الإيمان، على أن يقال إنه يملك إيمانا).

لقد صارت الغاية المقدسة للعصر الصناعي هي اقتناء الممتلكات، حتى إن التملك لم يعد يقتصر على الأشياء المادية؛ وإنما اتسع ليشمل الإنسان والأفكار والمعتقدات، وإذا كان هذا النزوع الاستهلاكي هو الذي يعكس الاتجاهات الاجتماعية السائدة، فهناك أنماطا استهلاكية (ليست أشكالا متخفية من التملك، ولكنها تعبير عن متعة حقيقية بأن يفعل الإنسان ما يجب دون انتظار الحصول على شيء "دائم" من وراء ذلك) على أن هذه الأنماط الثائرة والتي تبدي نوعا من التمرد على الاتجاه السائد، هامشية والمؤمنون بها قلة لا أثر لها في الواقع الاجتماعي.

كما أنه ينبغي أن نلاحظ أن النزوع نحو التملّك يخلق ولا بد الحاجة إلى استخدام القوة والعنف ليس من أجل حماية الممتلكات فقط؛ وإنما كذلك من أجل السيطرة والسرقة وغزو الآخر، وهذه من أبشع السمات الذي رسخها النّمط التملكي في الإنسان المعاصر، الذي أضحى يربط سعادته بممارستها! على أن ما تقدم ذكره لا يُفهم منه نبذ التملك جملة، فهناك أسلوب من التملك له جذوره في الوجود الإنساني (الذي يتطلب أن نملك أشياء معينة ونحافظ عليها ونعتني بها ونستخدمها من اجل البقاء... إنه دافع منطقي سعيا للبقاء على قيد الحياة) وهو ما يسميه فروم بــ "التملك الوجودي" وهو تملك فطري لا يتعارض وطبيعة الإنسان.

على أنه إذا كان المحدد الرئيس للتملك هو "الأشياء"؛ فإن محدد الكينونة الرئيس هو (التجربة، والتجربة الإنسانية مبدئيا لا يمكن وصفها) إن الكينونة هي ما به تتحقق إنسانية الإنسان، ومقومات الإنسانية لا يمكن قياسها، وهذا ما يبرر صعوبة تحديد الكينونة؛ لكن شروطها التي تدل على تحققها هي (الاستقلالية والحرية وحضور العقل النقدي) وهذه هي صفات الشخصية الإيجابية والنشيطة التي تسعى إلى تحقيق ذاتها وإنسانيتها.

ومما يزيد تعقيد تحديد حقيقة الكينونة، هو (أن الدوافع الحقيقية للسلوك هي التي تشكل الكينونة الحقيقية للإنسان)، خلافا لأسلوب التملك الذي يمكن قياسه بملاحظة السلوك الخارجي للإنسان (امتلاك الأشياء) وبناء على ذلك فالأشكال الظاهرة والمعلنة من السلوك الإنساني قد تكون أقنعة مضللة، تقدم صورة مزّيفة عن الشخصية، في نمط الكينونة تظهر الفاعلية الحقيقية للإنسان التي لا يكون معها سلبيا أو مغتربا، بل نجده نزّاعا نحو البذل والعطاء والتعاون والتضحية، من أجل تحقيق الاندماج والتوحّد مع أعضاء المجتمع قصد التغلب على العزلة.

إن الممتلكات التي يحيط بها الإنسان نفسه تجعله يشعر بنوع من "الأمان"، غير أن الذي يعتمد في وجوده على ما يملك، لا يلبث أن يتطرّق إليه الشعور بالخوف والخطر حين يفقد ممتلكاته، وهذا الخوف يجعله (مشغولا بالدفاع عن نفسه) وتحصينها مما يهدّدها، في حين أن الذي يعيش من دون الاعتماد على الأشياء الخارجية، وإنما يعيش ذاته بمعانيها الإنسانية والجوهرية، ومعلوم أن تلك المعاني الإنسانية ليست ممتلكات وأشياء مادية، فهو إذن لا يخشى عليها من الضياع، لأنه يترجمها إلى تجربة عملية.

 ولما كانت الحياة متمركزة حول الكسب والربح المادي، الذي يؤدي إلى الشعور باللذة، فحقيقة هذه اللذة المؤقتة أنها لا تجلب السعادة ولا الفرح، ذلك أن الفرح هو (التجربة الوجدانية التي نعيشها أثناء نموّنا ونضجنا واقترابنا من هدف أن يصبح الإنسان هو نفسه) وهذا ما يجعلها سيرورة يعيشها الإنسان وليس لحظة عابرة مرتبطة بفترة زمنية، إن الكينونة لا يحكمها بُعد الزمن وهي تجعل الإنسان يعيش اللحظة التي هو فيها غير ضائع في الماضي أو المستقبل، وإذا كان الزمن (هو الحاكم الأعلى في المجتمع الصناعي)، فإن أسلوب الكينونة يجعلنا (نحترم الزمن ولكننا لا نخضع له).

ثالثا: مركزية الدين في التغيير الاجتماعي
يشكل الدين أحد أهم الركائز التي لا يمكن الاستغناء عنها في إحداث أي تغيير اجتماعي، ذلك أنه بتفاعله مع البنية الاقتصادية للمجتمع، والبنية النفسية للفرد يتشكّل ما يسمى بالشخصية الاجتماعية، والدين يجب أن يُفهم بمعناه الواسع أي باعتباره (نظاما للفكر والعمل تشترك في اعتناقه جماعة من الناس يعطي لكل فرد في الجماعة إطارا للتوجه وموضوعا يكرس من أجله حياته) إن هذا التحديد لا يركّز بالأساس على محتوى ومضمون الدين، ذلك أن الحاجة الدينية متأصلة في الوجود الإنساني.

وبناء على هذا فالإنسان بالضرورة يعمل على إشباع هذه الحاجة المتأصلة بأساليب متنوعة، إذ يتخذ له معبودا خاصا (قد يكون إلهاً، زعيما، صنما، فكرة...) وعلى حسب هذا التحديد الشامل للدين، (لم توجد حضارة في الماضي ولا في الحاضر _ويبدو أنه لن توجد في المستقبل_ حضارة يمكن اعتبارها بلا دين) ذلك أن الدين هو بمثابة إطارا للتوجه يرشد الانسان في متاهة الحياة، وهذا الإطار هو الذي يؤهله بأن لا يتصرف وفقا لما تمليه الغريزة، بل إنه يجعله يرتفع عن درجة الحيوانية.

وعند تأمل المحطات التاريخية التي مر منها الدين المسيحي في أوروبا منذ عهد الإمبراطورية الرومانية إلى الآن، سنجد أن اعتناقها للديانة المسيحية (كان زائفا إلى حد كبير)، ذلك أن الدين المسيحي لم يحافظ على أصالة قيمه ومبادئه التي تأسس عليها، ولا أدل على هذا أن (تاريخ أوروبا هو تاريخ للغزو والاستغلال والقوة والاخضاع والقهر، ولا تكاد فترة أو مرحلة من التاريخ الأوروبي إلا كانت هذه سمتها) وإذا كانت الحضارة الأوروبية قد انحرفت عن المبادئ والمثل المسيحية الأصلية، فإن الدين المسيحي قد حافظ على "صورته"، أما "مادته" فقد استحالت إلى دين جديد وهو الدين الصناعي الذي جعل التملّك والادخار هو أساس الحياة، حيث الشخصية الاجتماعية متمركزة حول السّلع والأشياء، وبدأت تختفي ملامح  الشخصية الإنسانية الطبيعية، لتحل محلها "الشخصية التسويقية" تلك الشخصية التي لا فرق بينها وبين الأشياء والممتلكات.

لقد كان هذا الوضع الذي صنعه الدين الجديد والذي يتعارض مع الطبيعة الإنسانية، وراء ظهور حركة احتجاجية إنسانية، جل المطالب التي تطالب بها لها جذور دينية، بل وتدعو إلى العودة إلى إحياء القيم والمعاير الدينية، وهي حركة ترى أن الخلاص البشري من هذه الكارثة هو (خلق مجتمع جديد يحرر الإنسان من الاغتراب والعبودية للآلة!) وهي تنبذ التملك وترى أن المدخل للمجتمع الجديد هو إحداث تغييرا روحيا وآخر أخلاقيا. لكن ما هي طبيعة هذا المجتمع؟ وما هي ملامحه؟

رابعا: المجتمع الجديد/علم جديد!
إن صناعة مجتمعا جديدا لا يمكن أن تنجح إلا عبر إحداث تغيير أساسي في بنية الشخصية التي هي نواة المجتمع، وهذا التغيير يقوم بالدرجة الأولى على الانتقال من النمط التملكي الذي "يُشيّئ" الإنسان إلى نمط الكينونة الذي يحافظ على المقومات الإنسانية الأصلية التي تضمن استمرار الوجودي السليم. وفي نظر إريك فروم فإن هذا التغيير ممكن إذا تحققت الشروط الآتية:

1) المعاناة، مع الوعي بأننا نعاني؛
2) الكشف عن الأصل في الحالة السيئة التي بسببها نعاني؛
3) أن نتبين أن ثمة مخرجا من حالتنا تلك؛
4) أن نتقبل فكرة أنه لكي نتجاوز تلك الحال، فإنه يجب علينا أن نتبع طرائق معينة في المعيشة، وأن نغير ممارساتنا الحياتية الراهنة.

من البين إذن أن مهمة المجتمع الجديد هي تحرير الشخصية من رواسب الدين الجديد التي حرّفت الطبيعة البشرية، ولا يخفى أن ترسّخ هذه الرواسب جعل منها صعوبات وتحديات حقيقية ليس من السهل تجاوزها، إذ سيكون من اللازم خلق نموذج للتنمية انتقائي على حسب نموذج التنمية الغير محدودة والتي لا هدف لها إلا تحقيق مزيد من الشره والاستهلاك.

إن هذه الغايات الإنسانية النبيلة لا يمكن بلوغها إلا عبر تأسيس (علم جديد) منحاز إلى خدمة قضايا الإنسان، ذلك العلم الذي يُمكّن فعلا من السيطرة على التكنولوجيا وترشيدها وليس السيطرة على الطبيعة وتدميرها! كما أن على هذا العلم أن يعيد النظر في طبيعة النظام الاقتصادي والسياسي القائمين ووضع مخططات إنسانية من شأنها أن تنتشل الإنسان من الورطة الحضارية التي تسبب فيها الدين الصناعي الجديد، وأن المؤهل لرسم هذه المخططات ليس (أولئك الموهوب بالعقول النابهة فحسب؛ وإنما بالقلوب الطيبة والمشاعر الإنسانية التي ترشدهم لأفضل الحلول) الملائمة للطبيعة البشرية.

على أنه إذا كانت العديد من الدلائل تدل على انعدام أي أمل في إحداث تغيير في نمط الحياة المعاصرة على وفق ما يتطلب المجتمع الجديد!  فهناك بعض المؤشرات التي تبعث على الأمل، ومن أهمها ازدياد القناعة بأنه (لكي يتجنب عالم الغرب دمارا ماديا محققا... يجب تغيير نظام القيم والأخلاق الراهنة، وأن يقوم نظام جديد وموقف جديد من الطبيعة يتضمن تضامنا وتكافلا إنسانيا شاملا) هذا إضافة إلى ارتفاع الأصوات المنددة والساخطة على النظام الاجتماعي الحالي، والطامحة إلى العيش في واقع إنساني رحب وأفضل.

على سبيل الختم:
حاصل القول إذن؛ إن إريك فروم يجعل من "تحرير الفرد والمجتمع" من أي تسلّط خارجي، المدخل لتأسيس مدينته الفاضلة! ولذلك يرى أن المجتمع الصناعي المعاصر قد غلّب نوازع الشر في الطبيعة الإنسانية، إذ صنع الاستبداد والعنصرية والعنف والتمركز حول الاستهلاك... وهي أمور استلبت الإنسان وجعلته يشعر بالغربة والتعاسة في الحياة رغم الوفرة المادية التي لم تجلب السعادة.

إن مجتمع العصر الصناعي قد جرّد الشخصية البشرية من مقوماتها الإنسانية، إذ لم يعد هناك فرق بين الإنسان والمادة! ولأجل ذلك لابد من تشييد مجتمع جديد يكون الإنسان هو مركزه بالدرجة الأولى، مجتمع قائم على الحرية والمساواة والتكافل والحب، وتعود إليه الروح الدينية الهادية والمرشدة في متاهات الحياة.

إن النوازع الداروينية التي غلّبها العصر الصناعي في الإنسان المعاصر ولما كانت كامنة في الذات الإنسانية فإن هذا يجعل من الصعب الفصل المطلق بين نمطي الوجود (الكينونة والتملك) وذلك لتداخل خصائصهما، إن لكلا نمطي الوجود وجه سلبي يهدد الطبيعة الإنسانية وآخر إيجابي من صميم الوجود الإنساني، ولذلك فإذا كان التملّك القائم على الاستهلاك يؤدي إلى استلاب الإنسان، ألا يمكن أن يؤدي مجتمع الكينونة إلى صناعة شخصية إنسانية "عرفانية" ميّالة التقوقع والانزواء؟
التعليقات (2)
Nouma Darwish
الجمعة، 03-04-2020 12:53 م
كل الشكر والتقدير والاحترام لك أستاذ على هذا التحليل الغاية في الروعة. تحياتي وتقديري ومودتي.
ليث إبراهيم
الأربعاء، 25-02-2015 05:43 م
احبك