في النقاش الدائر حول نتائج انتخابات البرلمان
التونسي؛ ثمة قطاع عريض نظر إلى نتيجة
الانتخابات من زاوية خسارة
النهضة فقط، وتجاهل أن النهضة ليست اللاعب الوحيد في العملية السياسية التونسية، كما أنها ليست الخاسر الوحيد في الانتخابات، والأهم أنها برأينا ليست أكبر الخاسرين.
ويمثل الذين لخصوا الانتخابات بخسارة النهضة في الغالب فئتين سياسيتين متناقضتين: الأولى تضم مؤيدي التيارات الإسلامية وخصوصا جماعة الإخوان المسلمين، الذين رأوا في النتيجة خسارة لساحة جديدة بعد مصر واليمن، فيما تمثل الثانية قطاعا متنوعا من خصوم الحركات الإسلامية، الذي يرى في النتيجة ليست مجرد خسارة للإسلاميين وفوز لحزب "علماني"، بل هي خسارة "نظيفة" أيضا، عبر صندوق الانتخابات ودون انقلابات عسكرية أو دماء.
على أن اختزال المشهد بهذه الصورة يخفي صورا أخرى لا تقل أهمية، وويقوم على تحليل أيدولوجي، لا علميا لما يجري في تونس.
صحيح أن النهضة خسرت وتراجعت عن موقع الحزب الأول الأكثر تأثيرا في الحياة السياسية التونسية، ولكن هذا أمر متوقع- وإن لم يكن بهذا الفارق-، إذ أن الحزب الحاكم حتى في الديمقراطيات الراسخة معرض دائما لتآكل شعبيته، حينما تصطدم وعوده وشعاراته الانتخابية بصخرة الواقع، فكيف بحزب يحكم بعد ثورة شعبية أطاحت برأس النظام، ولم تخلخل مؤسسات الدولة التي تحكم تونس منذ الاستقلال؟!
وكما خسرت النهضة بعض المقاعد، فقد خسرت أيضا أحزاب الترويكا التي شاركتها في الحكم، وهو ما يؤكد أن التصدي للحكم في فترة انتقالية ملتهبة هو تحد كبير، بل هو تضحية من قبل الأحزاب الحاكمة، التي تدفع عمليا من شعبيتها ثمنا لمشاكل متراكمة وفساد تجذر عبر عشرات السنين، مع ضرورة الإشارة إلى أن الخسارة النسبية للنهضة لا تقارن بأي حال بخسارة شريكيها في الترويكا اللذين حصلا على ما مجموعه خمس مقاعد فقط.
وبالعودة إلى القراءة الأيدولوجية الاختزالية للمشهد، فقد ابتهج كثير من علمانيي العرب بالنتيجة، باعتبارها خسارة مدوية للإسلام السياسي أمام حزب علماني، ولكن هؤلاء يتناسون أن نتائج الانتخابات تظهر أن التصويت لم يكن على أساس أيدولوجي بقدر ما هو تصويت عقابي على أحزاب السلطة، ولذلك فقد خسرت الأحزاب الشريكة للنهضة بالحكم على الرغم من أنها تنتمي لعائلة الأحزاب العلمانية في تونس.
وإضافة لأحزاب الترويكا، فقد خسرت أيضا أحزاب علمانية أخرى لم تشارك في الحكومة الانتقالية، وأهمها الحزب الجمهوري الذي يتزعمه أحمد نجيب الشابي، وقد مني بخسارة فادحة بحصوله على مقعد واحد فقط، وهو حزب علماني عارض نظام بن علي لسنوات طويلة، ولا يمكن اعتبار خسارته بأية حال دليلا على تراجع "الإسلام السياسي" أمام العلمانيين.
ومع كثرة الخاسرين في الانتخابات التونسية، والذين يظهر أن غالبيتهم مني بخسارة أكبر من خسارة النهضة، إلا أن الخاسر الأكبر على الأطلاق هو "الثورة"، إذ أن الأحزاب المحسوبة على المسار الثوري جميعها لم تحصل على عدد من المقاعد يساوي عدد المقاعد التي حصل عليها التيار المحسوب على اليمين المحافظ والذي يجمع بين كل أنواع المصالح التي تكونت أثناء الحكم الطويل للتجمعيين والدساترة منذ الاستقلال وحتى هروب بن علي، فقد حصل نداء تونس وحزب الاتحاد الوطني الحر على ما مجموعه 101 مقعد، بينما حصلت النهضة والمؤتمر والتكتل والجبهة الشعبية والجمهوري مجتمعة على 90 مقعدا.
ومع ذلك، فإن خسارة الثورة التونسية في هذه المعركة الانتخابية كانت خسارة "بالنقاط" وليست "بالضربة القاضية"، إذ أن الفرصة لا تزال ممكنة لتحالف التيارات المحسوبة على الثورة بشقيها الإسلامي والعلماني، للوصول إلى قصر قرطاج، أو على الأقل للوصول إلى مواءمات وتحالفات تمكنها من المشاركة بالحكم مع نداء تونس، أو للجلوس في البرلمان كمعارضة قوية ومؤثرة ومعطلة لأي محاولات لاستعادة النظام القديم.
هي خسارة مركبة إذن، توزعت على حركة النهضة وشريكيها في الحكم، وبعض معارضيها السابقين، وجمعت بين أحزاب علمانية وإسلامية، وقبل ذلك وبعده، أصابت الثورة ومسار التغيير الديمقراطي، ولكنها إصابة ليست قاتلة، ويمكن تداركها على أية حال!