كتاب عربي 21

الدولة السويَّة

شريف أيمن
1300x600
1300x600
(1)
تختلف اعتبارات الدول السوية بحسب الجانب المنظور إليه، فإن كان على المستوى الداخلي فلها توصيف وإن كان على المستوى الخارجي اختلف، بل يمكن زيادة التفصيل إذا علّقته بملف واحد كالصحة مثلا، وعلى أساس المعطيات المتاحة والاعتبارات التي تقوم عليها التقييمات يمكنك أن تصف الدولة بكونها سويّة أو غير ذلك، بـ "إسرائيل" يشكّل الجدل الدائر حول كونهم دولة سوية أو لا ركنا من أركان تعاملهم مع الصراع بيننا وبينهم، والاعتبار في تقييمهم من حيث الجانب الخارجي وقبول المجتمع الدولي لهم، ولك أن تتخيل دولة تحظى "بتدليل" دولي لا تزال تتحدث عن كونها غير سوية في محيطها القريب والواسع، في مقابل شعب مهجّر يرفض العالم إعطاءه أدنى حقوقه.

 (2)

 الشعور بالعزلة المتواجد لديهم ليس حديثا، بل هو قديم من قبل اغتصاب الأرض في 1948 والدليل على وجوده كما يروْن أنهم اضطهدوا بشدة في أوروبا وسائر الأقطار وتجلت اللحظة الأبرز في الاضطهاد بالهولوكوست، الأمر الذي يقول بأن اليهود غير مقبولين بأي مكان ولن يعيشوا مثل غيرهم فالشقاء هو المصير الوحيد لهم، والمطالع لكتاب هرتزل يرى حجم الرفض الذي كان يلاقيه اليهود في المجتمع الأوروبي في نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين وشكايتهم منه.

 عندما قرر الغرب التخلص من الحمل اليهودي بمجتمعاتهم، صدر الوعد الأول لبلفور 1917 وبعد عقدين صدر قرار التقسيم الأول فيما سمي بقرار لجنة بيل 1937 الذي قضى بتقسيم فلسطين "المستعمرة الانجليزية حينها" إلى قسمين: دولة يهودية وأخرى عربية ولاحظ أنهم لم يقولوا فلسطينية، ثم كان قرار مجلس الأمن الذي شرعن لوضع الكيان المغتصِب عام 1947 ثم قيام الكيان.

 (3)

 اشتعلت الحروب بين شعوب المنطقة والكيان الغاصب ولم تتوقف حتى الآن، وإن كانت قد توقفت من قِبَل الحكومات 1973 إلا حوادث لم تبلغ درجة المواجهة كما بالقصف العراقي أو اجتياح لبنان في الثمانينيات، فحركات المقاومة لا تزال تحمل البندقية لأجل التحرير.

 السرد التاريخي يأخذ أهميته من كونه يشكّل الوجدان والوعي ويمهد الطريق لفهم المستقبل، والمتشكل في الوجدان الصهيوني من التجربة أنهم كانوا معزولين والوضع الحالي -كما يرون- أقل إلا أن العزلة باقية ولازالوا دولة غير سوية.

 (4)

 ناتج ما تحصّل في وجدانهم أنهم دولة مختارة وشعب أرقى فلا يمكن لغير اليهود أن يقبلوا وجود الجنس الأرقى معهم، فما هم فيه من العزلة وضع إلهي لفئة منتخبة.

 وإذا كان الوضع بناء على ذلك غير آمن فلابد من تأمين الحدود واقتطاع مساحات أوسع تشكل عمقا استراتيجيا كما بـ "يهودا والسامرة" وهي الأسماء التوراتية للضفة الغربية، أو مساحات تشكل ردعا للغير إذا ما فكر في الاعتداء كما بالجولان "لاحظ أنها تبعد 37 ميلا فقط عن دمشق".

 أي مفاوضات تدخلها "إسرائيل" تجعل الأبعاد الأمنية تفوق الدبلوماسية بناء على معطى أن العرب سيقومون بالإغارة في أي لحظة تكون مناسبة للتخلص من الجسم الذي لم تقبله المنطقة أبدا؛ فشعوب المنطقة لن تنسى ما حدث لها من إذلال وقتل كما في المجازر العديدة والحروب المذلّة كـ 1967 والتي لا تزال تحتفظ بمعظم ما اغتصبته فيها.

 كذلك تخرج أصوات أكثر تشددا تنادي بعدم وجوب الاعتماد على الولايات المتحدة كمصدر للأمان، وعلى الدولة أن تحمي نفسها دون وضع اعتبار لغيرها.

 (5)

مع مطلع التسعينيات من القرن الماضي بدأت الصورة تتحسن قليلا، فما تم بمدريد وأوسلو فتح الباب لعلاقات مع الجيران المتحفزين دائما، "كانت مصر قد سبقت بكامب ديفيد"، ففي أوسلو 1993 حدث اعتراف من المفاوض الفلسطيني بالدولة المغتصِبة وبعدها بعام وقعت الأردن معاهدة السلام العربية الثانية، ورفعت دول الخليج الحظر على الشركات التي تتعامل مع الكيان وحدث تبادل دبلوماسي محدود بينها وبين عدة دول كقطر وعمان وتونس والمغرب وموريتانيا، وكذلك بدأت العديد من الشركات العالمية بافتتاح فروع لها هناك، وانعقد أول مؤتمر قمة اقتصادي لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالمغرب بمشاركة "إسرائيل".

 كل ذلك تم في السنوات الخمس الأولى من التسعينيات الأمر الذي غيّر الانطباعات هناك قليلا، واحتاج الأمر ليخطب رئيس الوزراء مهاجما رافضي التطبيع مع العرب في 1992 قائلا: "إننا لم نعد أمة معزولة ولم تعد حقيقة على الإطلاق أن العالم برمته يقف ضدنا، ويتعين علينا أن نخلّص أنفسنا من الشعور بالعزلة الذي انتابنا قرابة الخمسين عاما".

 ما عبّر عنه رابين لا يقصد به إلا التسويق لسلام يحفظ حقوقهم دون حقوقنا ورغم ذلك تم اغتياله ليخلفه في أول انتخابات نتنياهو الذي كان أكثر خبثا، فإن كان قد احتفظ بالشعور بالعزلة كسلفه بشكل مبطن فإنه سوّق للقيم المشتركة بينهم وبين الغرب وكذلك التحديات وأهمها الإرهاب، لينتقل الشعور "الإسرائيلي" بالعزلة إلى شعور غربي بالرفض من قِبَل المجتمعات المحيطة بالديموقراطية الوحيدة بالمنطقة كما يزعمون.

 إن كان الكذب في "إسرائيل" وتزييف الحقائق من مقوّمات دولتهم، إلا أنهم صدقوا في أمر.. أننا لن ننسى.
التعليقات (0)