كتاب عربي 21

من المسؤول عن ظاهرة المجموعات الراديكالية المسلّحة؟

علي باكير
1300x600
1300x600
لم تحظ ظاهرة الجماعات الراديكاليّة المسلّحة بدراسة علميّة في العالم العربي للأسف، على الرغم من مخاطرها المحدقة وتداعياتها المدمّرة على مجتمعاتنا وديننا وهويتنا ودولنا، وترك هذا المجال عمليا لمجموعتين في العموم، مجموعة من يسمون أنفسهم "خبراء في مجال مكافحة الارهاب والجماعات الإرهابية" من الغربيين الذين يفتقد عدد كبير منهم في الغالب إلى الأدوات (اللغة، المعرفة بالمجتمع، المعرفة بالدين، المعرفة بواقع المنطقة..، إلخ) التي تخوّلهم أن يكونوا خبراء فعلا في هذا المجال، فينحصر عملهم في غالب الأحيان في جمع المعلومات التي يتم تفسيرها بشكل سطحي فيما بعد من منظار غربي.

أما المجموعة الثانية، فهي مجموعة المتخصصين في الحركات الاسلامية من العرب الذين يجيدون اللغة الانكليزية بشكل ممتاز  وينتمي عدد كبير منهم الى تيار معيّن لديه موقف مسبق ومأدلج من التيار الاسلامي عموما، وتاتي تفسيراته معلّبة لتخدم وجهة نظره هذه، وتغذّي بالتالي التفسير الغربي في الغالب.

وبين هذا وذاك تتيه الحقائق، وتطفو القشور ويتم ربط ظاهرة العنف والتطرف والإرهاب بالدين والمنطقة بشكل عام متناسين أنّ الجماعات المتطرّفة موجودة في كل مكان من هذا العالم، وليست حكرا على طائفة أو دين أو  مجتمع أو دولة أو حيز جغرافي، والجماعات المسلّحة أيضا موجودة في أماكن متعددة من العالم. لكن المشكلة تتفاقم عندما يكون لديك جماعات متطرفة ومسلّحة في نفس الوقت.

لماذا تنتشر مثل هذه الجماعات لدينا؟ ومن هم المنضوون اليها؟ ومن هو المسؤول عنها وعن تشكلها وعن عملها وبالتالي عن تداعيات وانعكاسات أفعالها المدمّرة؟ لا أدّعي انّي خبير بالجماعات الاسلامية أو الجماعات الارهابيّة، لكنّي واثق تماما أنّ وجود هذه التنظيمات كواقع هو في النهاية نتيجة طبيعية لسياسة الأنظمة (غير الدينية بالمناسبة) القائمة في العالم العربي منذ عقود على الضغط والقهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي والديني والأمني، ومن البديهي انّ هذه السياسة حوّلت العالم العربي الى وضع أشبه ما يكون فيه بطنجرة الضغط التي انفجرت مع اول شرارة.

هذه الجماعات هي بالدرجة الأولى تعبير عن غياب الدولة في العالم العربي، وهي نتيجة لغياب مبدأ تحمّل المسؤولية لدى الأنظمة، وعندما لا تستطيع شريحة من الشعب التعبير عن ذاتها وطموحها وأهدافها في اطار سياسي واضح عبر آلية منضبطة، يضطر هؤلاء في مرحلة من المراحل الى التعبير عن انفسهم خارج الاطار الرسمي الذي عزلهم بالأساس ودفعهم بهذا الاتجاه.

وعندما لا تستطيع شريحة واسعة من الشباب أن تجد عملا لتثبت نفسها من خلاله وتحقق الاستقلالية وتعيل أهلها وتبقى لسنوات تبحث عن عمل دون جدوى، يصبح الهرب من الواقع الأليم الطريق الاسهل.

وعندما يتم الضغط على شريحة واسعة من الناس عبر ظلمها وقهرها بالقوة بعيدا عن القانون والعدل وتغلق أمامها كل فرص استرداد كرامتها ومحاسبة جلاّديها، يلجأ البعض الى السلاح لياخذ به ثأره ويتمرد على واقعه.

وعندما يتقاعس المسؤول عن القيام بواجبه (رئسيا أو ملكا أو أميرا أو قاضيا أو رجل دين) ويترك شريحة واسعة من الناس تتحمّل الاعباء والتداعيات لوحدها وتعيش الاذلال يوميا، تنشأ نزعات تبحث عن الاستقلال واستردد الذات وملئ الفراغ وتعبر عن نفسها في الغالب بمثل هذه الجماعات. 

هذه الجماعات المسلّحة المتطرفة التي تدّعي تمثيلها لله أو مشروعه أو حزبه أو جنده المنشترة في العالم العربي والتي تعيث في الأرض فسادا وتقتل النفس التي حرّم الله، هي ظاهرة مركّبة ومعقدّة وتعدّ الأنظمة في العالم العربي هي المسؤول الأول والأساسي والرئيسي عن وجودها، بل وفي كثير من الأحيان هي المصّنع المباشر لها ، والمسوّق المباشر لها، وبالتالي المتاجر الرئيسي بها، وهناك عدد من الخصائص التي لا يمكن للمرء أن يتجاهلها أثناء تشريحه لتركيبة هذه الجماعات، ومنها على سبيل المثال:
 
معظم المنضمين الى هذه الجماعات هم من الجهلة و/أالأمّيين وهي الوصفة التي ينتمي اليها حوالي ثلث سكّان العالم العربي وفق تقارير المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألسكو) .من المسؤول عن ذلك ؟ الأنظمة بطبيعة الحال، فالجهل والأميّة ظلّ سلاحها الأوّل في السيطرة على المجتمع وتعزيزه لعقود طويلة وكان عنصرا اساسيا في سياساتها، وقد خرج في بعض الاحيان على ما يبدو عن سيطرتها.

نسبة البطالة في العالم العربي حوالي 16% أي ثلاثة أضعاف المعدّل العالمي وهناك جيش من العاطلين عن العمل من الشباب يقدّر بخمسين مليون ، من المسؤول عن هذا تشكيل هذا الجيش وأن يذهب هؤلاء؟ وماذا يفعلون وكيف يعيشون؟ لا شك ان جزءً منهم يتسرب الى هذه الجماعات، فجماعة مثل حزب الله على سبيل المثال يعتبر أكبر رب عمل في لبنان!  

ظاهرة الجماعات الراديكالية المسلّحة تنطوي على أمراض اجتماعية خطيرة، وهو أمر طبيعي اذا ما عرفنا ان عددا من أعضاء مثل هذه التنظيمات لديهم أمراض نفسيّة ناجمة عن كونهم أو اقاربهم أو احبابهم ضحايا في الأساس، وقد خضعوا لظلم عظيم لم يردّه احد، او نتيجة كبت نظرا لإغلاق أبواب الأمل بالتغيير وانسداد الأفق السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهي كلها عوامل مسؤلولة عنها الانظمة. وبهذا المعنى غالبا ما يتحوّل الضحيّة الى جلاد يحب ان يمارس على ضحيّته ما مارسه الظالم عليه. كثير من اعضاء هذه التنظيمات سُجن وعذّب واعزل عن المجتمع وكثير منهم فقد أهله أو أحبته أو اقربائه.

غياب الفهم الصحيح للدين والتدين لدى هؤلاء علامة فارقة وهو ما يقود الى التطرف والطائفية، ولا عجب في ذلك اذا ما أخذنا بعين الاعتبار كل العناصر سابقة الذكر وأضفنا اليها ان معظم المؤسسات الدينية التي من المفترض بها ان ترعى جيل الشباب وتحصنه هي صنيعة الانظمة، كما ان شريحة المتجهين لتعلم الدين في اغلبهم (وفق النظام التعليمي في كثير من الدول العربية ) هم من يحصلون على أدنى تحصيل العلمي وأقل الدرجات، او من يسعون الى المال والمتعة بحسب المذهب وحسب الجماعة. وكل ما يحتاجه من يخضع لهذه المعطيات هو  نصف الآخر الطائفي أو الجاهل أو المتطرف أو الظالم حتى يكون ذلك بمثابة الشرارة التي تقدحه باستمرار .

باختصار، لا يجب علينا ان نضيع البوصلة او نخلط الاوراق، ما نعاني منه اليوم من انتشار لظاهرة الجماعات الراديكالية المسلحة ليس نتيجة الثورات العربية، وانما نتيجة عقود من سياسات مبرمجة نفذتها الانظمة العربية وتعد مسؤولة عنها وعن نتائجها، وبهذا المعنى ايضا فان التخيير بينهما مرفوض على اعتبار ان العملة واحدة وان اختلفت الوجوه او كان الثاني سببا والاول نتيجة له.
التعليقات (0)