قضايا وآراء

الدولة العبريّة والثورات العربية.. من وحي الحرب على غزّة

نور الدين الغيلوفي
1300x600
1300x600
الدولة العبريّة دولة وظيفيّة:

 يذهب د. عبد الوهاب المسير إلى اعتبار دولة إسرائيل نمطا إمبرياليا أمريكيا.. وهي دولة ذات فائدة للاستعمار الغربي.. وليس لتلك الدولة، في رأيه، قوّة ذاتية.. ولكنّها إنّما تستمدّ قوّتها ممّا تقدّمه من خدمة للاستعمار الغربي.. لأجل ذلك يسمّيها "دولة وظيفيّة".. ولقد دخلت دولة إسرائيل الوظيفيّة في تعاقد مع الغرب: تقوم لأجله بمهامّ قتالية واستخباراتية، وفي مقابل ذلك يدعمها ماليّا وسياسيّا وعسكريّا... 

ويشبّه الدكتور المسيري "إسرائيل" في كتاباته بالموظَّف الذي يعرف ما يريد مديرُه فينجز ما يوافق أجندته، ويحقّق مصلحته.. بل يذهب إلى حدّ تشبيه الدولة العبرية بغانية صغيرة جميلة لها سيّد عجوز صاحب نفوذ واسع ومال وفير، فهي تسهر على إسعاده وتحقيق طلباته.. ولكن إذا عجزت تلك الغانية في يوم من الأيام عن إمتاع سيّدها قد يرمي بها إلى سلّة النفايات.. وينتهي د. المسيري إلى القول بأنّ الصهيونية حركة استعمارية وجزء لا يتجزّأ من التشكيل الاستعماري الغربيّ...

والدولة العربيّة، الوطنيّة ؟: 

ومثلما نجح الاستعمار الغربيّ في زرع دولة الكيان الصهيونيّ في الأرض العربية، لتكون طليعة له متقدّمة تدافع عن مصالحه، تمكّن من صناعة دول وطنيّة خادمة لأجندته تشترك مع دولة إسرائيل في الوظيفة ولكنّها تتكلّم اللغة العربيّة.. ومن وظائفها أن يأخذ الاستعمار الغربيّ منها ليعطيَ للدولة العبريّة الحامية المحميّة... 

وقد ظلّ الاستعمار الغربيّ يدعم الدولة الوطنية في البلاد العربيّة لتؤدّيَ وظيفتها وتسهر على مصالحه ولتكون كلبَ حراسة على الشعب الذي تحكمه وتراقب الكلب المجاور لها.. واستمر على دعمه للنظام العربيّ الموالي له حتى آخر لحظة.. وكلّنا يذكر موقف فرنسا من الثورة التونسية ووقوفها إلى جانب نظام بن علي، حتّى لحظة فراره، لأنّها إنّما كانت ترى فيه الحصن المنيع في وجه التطرّف الإسلاميّ... 

الثورة على الاستبداد قرينة الثورة على الاحتلال:

  فاجأت الثورة في تونس مختلف الدوائر العالميّة، إذ لم تستطع أن تتنبّأ بها قبل وقوعها.. وظلت التفاعلات الوطنيّة طوال أيام الاحتجاج منذ 17 ديسمبر 2010 خارج مدار الاهتمام العالمي حتى أُعلن فرار المخلوع من تونس يوم الجمعة 14 جانفي 2011 ، وعند ذلك حصلت المفاجأة المدوّية...

   لقد كانت الدوائر المتنفّذة في العالم تتصوّر الشعوب العربية قطعانا تستحقّ أن تساق بالحديد والنار، ولم تكن تتوقّع أنّ تلك الشعوب يكمن أن تنجز ثورة أو تسقط نظاما حاكما حتى حصل في تونس ما حصل.. عند ذلك أيقن هؤلاء بأنّ ما بعد يوم 14 جانفي 2011 لا بدّ أن يكون مختلفا عمّا كان قبله.. وقد فهمت أنّ التحرّر من الاستبداد إنّما هو تحقيق لكرامة وطنيّة تتجاوز الخلاص من النظام الحاكم إلى فكّ الارتباط مع حاضنته الاستعمارية التي تسنده.. ولم يكن ليخفى على الدوائر الاستعمارية أنّ الثورة في بلاد العرب فعلٌ متعدٍّ وأنّ أشواق الشعوب العربية واحدة وجمّاعها شعار "الشعب يريد تحرير فلسطين"...

من الثورة إلى الثورة المضادّة:

 ولما انتقلت الاحتجاجات إلى الأقطار العربية الأخرى وتعانقت شعارات الشعوب بلغة واحدة موحّدة وتداعت أشواقها زاد قلق الدوائر الأجنبية المهيمنة، وقد بدأت على يقين من خطورة ما يجري بالمنطقة.. فشرعت في بناء برنامجها لمصادرة الانتفاضات وإفشال الثورات بالتعاون مع أزلام النظام البائد في كلّ قطر من أقطار ما بات يُعرف ببلدان الربيع العربيّ، وامتدّ تعاونها إلى بعض القوى الأخرى التي طالما عُرفت بخطاباتها الثورية، وقد علمت من خبرتها بها أنّ ثوريتها حبيسة الكتب والتنظيرات المجرّدة لا تتجاوزها.. لقد ظلّ مفهوم الثورة لدى تلك القوى مفهوما نظريّا مجرّدا لا معنى له خارج الورق والأذهان، لأجل ذلك رضيت بأن تكون، في هذا الزمن الثوريّ، حليفة لأزلام النظام البائد يستعملها أعداء الثورة في شقّ الصف الوطنيّ وإرباك المسار الانتقاليّ كما تُستعمل أرحام الإيجار...  
  في مصر دفعت الدوائر المتضرّرة من الثورة بدعم من الاستعمار بالمؤسسة العسكرية إلى الواجهة وأسندتها لتخوض حربا وجودية ضدّ الفصيل الذي فاز بالانتخابات في ما لا يقلّ عن خمس مناسبات..

وحسمت قيادة الجيش المصريّ المعركة بمشهد دمويّ لم يعرف له التاريخ مثيلا في ميداني رابعة العدويّة والنهضة، الغاية منه تأديب الشعب المصريّ، ومن ورائه الشعوب الأخرى التائقة إلى الحرية والكرامة وصرفها نهائيا عن حديث الثورة الممكن.. لقد حسم الجيش المصريّ المعركة بعمليات قتل للمتظاهرين العزّل وبحرق أجسادهم في مشهد رعب لم يخطر على خيال أكبر مخرجي السينما في العالم...

  أمّا في تونس فقد روعي فارق الجغرافيا وما بينها وبين مصر من اختلافات التاريخ.. فاشتغلت الثورة المضادّة الموَجّهة من دوائر القرار الأجنبيّ بتكتيك مغاير، وقد علمت تلك الدوائر أنّ المؤسسة العسكرية التونسية لا يمكنها أن تتحمّل أعباء الدمّ الذي تجرّأت عليه قيادة الجيش المصريّ.. وإذن فقد عملت بدلا من ذلك على توتير الأجواء وتسميم المناخات عبر إحكام استغلال الظروف التي تتّسم بالهشاشة.. فأضرموا الحرائق في كلّ ناحية من نواحي البلاد ونشروا أسباب التوتّر مستغلّين مطالب مشروعة لكثير من القطاعات ومستثمرين لإحساس شرائح اجتماعية متعددة باتصال الغبن وباستمرار ما كان بها من عناء ولرغبتها في الانعتاق من الفقر والخلاص النهائي من الواقع الأليم.. ولقد استثمروا واقعة السفارة الأمريكية واستغلوا الأحداث الإرهابية ليعلنوا فشل حكومتي الترويكا في الملفّ الأمنيّ.. ووظّفوا المنظّمة الشغيلة لتعطيل مختلف المرافق العامّة والخاصّة حتّى يسوّقوا لفشلها في الملف الاقتصادي... ولم يدّخروا جهدا في إعلان حربهم على منظومة 23 أكتوبر 2011.. بل وصل بهم الأمر في غير مرّة إلى إعلان حكومة إنقاذ ضبطوا أسماء وزرائها...

وجاء دور الدولة العبرية الوظيفيّة:

  استمرّ رافضو الانقلاب العسكريّ في مصر في فعالياتهم السلمية أكثر من عام يصلون ليلهم بنهارهم دون كلل أو ملل.. ورغم ما كان من عناد العسكر ومكابرتهم إلاّ أنّ الإحباط بدأ يتسلّل إليهم وأصابتهم سلميّة الثورة بنزيف منع تقدّمهم في سبيل فرض أمر واقع أرادوا استدراج المصريين إليه وفرضه عليهم.. واستمرّت مناورات أنصار الثورة في تونس من أجل إنقاذ التجربة وإنفاذ الانتقال الديمقراطيّ وقطع طريق العودة على منظومة الفساد والاستبداد حليفة الدوائر الاستعمارية المتنفّذة.. 

  لقد ظلّت الثورة العربيّة تقاوم عوامل الإحباط وتعانق شروط الإمكان ولم تستسلم الشعوب للجلاّدين.. وبدا أنّ الانقلاب العسكريّ بمصر يعيش حالة موت سريريّ مع واقع الاستنزاف الذي فرضه عليه أنصار الثورة الذين ودّعوا الخوف لكثرة ما شهدوا من الدماء والأشلاء من حولهم وقد زالت غواية إعلام الانقلاب بعد انكشاف أكاذيبه.. عند ذلك جاء دور الدولة العبرية الوظيفية الحليف الأقوى للثورة المضادّة ليوكل إليها الإجهاز على الحلم الثوريّ في المنطقة.. أمام حالة الانسداد التي آلت إليها الثورة المضادّة كان لا بدّ من عملية إنقاذ خارجية عاجلة تنتهي إلى فاجعة تحوّل الربيع العربيّ إلى مأساة بعد أن كان ملحمة سطرتها الشعوب.. وليكن قطاع غزّة المحاصَر ساحة للمعركة.. ففي غزّة حركة مقاومة ذات نسب إخوانيّ.. والإخوان هم شياطين المرحلة.. يباح قتلهم وحقوق الإنسان لا تنطبق عليهم ورحمة القيم الكونية لا تشملهم...

الحرب على غزّة فصل من الثورة المضادّة: 

  لقد شنّت الدولة العبرية حربا على غزّة سنة 2012 في ظلّ حكم الدكتور محمّد مرسي، وخرجت المقاومة من تلك الحرب مرفوعة الرأس بفضل الدعم المصريّ لها وبفعل ما كان من فكّ للحصار عنها من خلال فتح معبر رفح وقدوم مختلف الوفود الرسمية والشعبية في حركة تضامن لا تُنسى.. وجاءت الحرب الثانية على غزة في 2014 وحماس تعاني من العزلة بعد أن شرّد النظام الانقلابي في مصر ما كان لها من ظهير شعبي وسياسيّ واختطف الرئيس المصريّ المنتَخب الذي آزرها في حرب 2012.. شنّ الكيان الصهيوني هذه المرّة حربه على غزّة من أجل القضاء نهائيا على المقاومة والخلاص ممّا يمكن أن ينشأ عنها من خطر ومن أجل تسديد الضربة القاضية للثورات في دول المنطقة...

قادت دولة الكيان الصهيونيّ المعركة يسندها ظهير خرج من السرّ إلى العلن، تمثل في جبهة تشكلت من الانظمة السياسية العربية المعادية للثورات العربية: السعودية والإمارات والأردن والكويت والبحرين ونظام الانقلاب في مصر المساند الرسميّ لجيش الاحتلال في حربه على غزّة.. كلّ ذلك تحت رعاية موصولة من الدولة المارقة الكبرى: الولايات المتحدة الأمريكية الراعي الرسميّ للإرهاب الدوليّ وعرّاب الحرب الإجراميّة على الآمنين في غزّة... 

تحالف أوهن من بيت العنكبوت:

تدرك إسرائيل جيدا أن الإسلام السياسي بصيغته الإخوانية هو عدوّها الأول منذ حرب 1948 ومشاركة تنظيم الإخوان فيها.. وقد وافقت مصلحتها في القضاء على الإسلام السياسي الذي بات أمل الأمّة في التحرّر.. وافقت مخاوفَ الدول العربية الحليفة فاصطفّوا خلفها بكلّ قوتهم من أجل القضاء المبرَم على هذا الأمل.. واختارت غزّة لتكون ساحة لمعركتها: يقتل جيش الاحتلال أهل غزة ويسحقهم سحقا بتمويل خليجيّ وبدعم سياسي مصريّ أردني وبرعاية أمريكية لا لبس فيها.. كلّ ذلك أمام صمت دولي مخيف...

ولكنّ الدولة الوظيفية لم تنجز وظيفتها على الوجه الأكمل ومرّغت المقاومة رأسها في التراب وكذلك فعلت برؤوس جميع حلفائها من العرب والعجم.. ومُني الحلف الشيطانيّ بفشل ذريع بفضل ما أبدته المقاومة من بلاء حسن عندما أبدعت في دحر العدوان عسكريا وفضحه إعلاميا وتعريته إنسانيا وتجريد الأنظمة الداعمة له من ورقة التوت التي تستر عوراتها وباتت مفضوحة أمام شعوبها التي لن تتأخر في محاسبتها الحساب الذي تستحقّ...

لقد أبدعت المقاومة حين حملت على صهاينة اليهود فلاذوا بجحورهم وكشفت صهاينة العربان إذ أخرجتهم من جحورهم وعرّتهم أمام شعوبهم.. وبذلك أماطت المقاومة الباسلة الأذى عن طريق الثورة وفرشت الإمكان للربيع العربيّ.
التعليقات (0)