كتاب عربي 21

الدولة الاجتماعية هي مستقبل الربيع العربي

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
إما أن يكون الربيع العربي اجتماعيا، أو فإنه يظل مفتوحا على كل احتمالات الفوضى، ومن هذه البداهة ننظر إلى النخب السياسية  التي تملأ المشهد السياسي العربي ونراها تائهة، ما لم تعدل بوصلتها على الثورة الاجتماعية المؤدية إلى الدولة الاجتماعية، فإنها ستهلك وتأخذ في مهلكها الحرث والنسل. 

إنها ملزمة باتفاق حول مشروع وطني  وحودوي تحرري شامل، أي مشروع اجتماعي منتج للعدالة الدائمة يرتقي بالجميع فوق الأنانيات الفردية والحزبية،  والإيديولوجيات التمامية الفاشلة. 

وحتى إذا بدا هذا حكما عاما أقرب إلى المصادرة فإنه قابل للتبسيط والشرح في  محرقة البحث عن أفق فعال لا يضيع ثورة تهيأت في ألم هادئ ولمعت كبرق خلب ولم  تنطفئ بعد. 
سهولة اتهام النخب وشرعيته

الخطاب الأكثر رواجا والأسهل انتشارا  الآن وهنا، هو نقد النخبة وترديد الشعار نكبتنا في نخبتنا، وهو نقد يخفف  العبء على المتكلم، إذ يتخفف به من ذنب التقصير في مهمة يحسها ولا يعرف كنهها فيرميها على النخبة، دون أن يحدد معالم النخبة وشخصياتها ، واحتمالات  أن تكون النخبة بدورها فاقدة للبوصلة السياسية. 

نفس هذا الناقد يقول إن تحقيق أهداف الثورة محليا وعربيا،  ليس مهمة النخبة وحدها بل هي مهمة جماعية لكنه يظل يرمي العبء ويقصر في المشاركة، ولن تكون هذا الورقة إعادة رمي الكرة على من يصنف نفسه خارج النخبة، ولا هي دفاع عن نخبة غير محددة المعالم، ولكنها محاولة في إعادة تأطير مسائل سياسية تتعلق ،ولا بمصداقية القول بالانتماء الوطني، لدى الكثير من النخب السياسية التي تستبق كل نقد لموقفها بوسمه بالتخوين. 

نعم النخب متهمة منذ البداية، فهي التي تصدرت المشهد وقدمت نفسها قيادة للشارع، الذي ثار بدونها، وما كان للشارع أن يظل هائجا أبدا، ولذلك كان القبول بقيادة ما أمرا طبيعيا في سياق الفعل الثوري،  لكن متصدري المشهد اتجهوا إلى خدمة أشخاصهم وأحزابهم، ولم يقترحوا أبعد من حلول قصيرة وغير ذات أفق ثوري، بل وظفت كل جهدها لإعادة بلورة صورها وزعاماتها، وتشويه منافسيها بما تيسر من وسائل الإعلام وأجهزة الدولة، فحصل لدى الكثير أن فقر النخب الفكري والسياسي عضوي بنيوي، وليس مجرد أمر حادث أرغمت عليه  تحت الدكتاتورية. 

إنها شخصيات سياسية  أنانية متمركزة على ذواتها، وعاجزة عن التحول إلى كاريزما قيادية إيثارية متعالية عن الأناني والمكسب.  

إن هذا النموذج مقتسم بين جميع الوجوه السياسية، بدرجات مختلفة وإن لم يتح لجميعها أن يتعرى أمام الناس، وهو نفس المرض العضال الذي نجده في النخب الفكرية، التي أمكن لها التسرب داخل الأجهزة، فأثبت سعيها إلى المكسب الشخصي قبل التأثير في السياق لصالح الثورة. 

وتعتبر استقالات المثقفين (الجامعيين) من الأحزاب في انتخابات 23 أكتوبر، علامة على سعي لمصلحة منصب أو موقع في التأسيسي، فلما انعدمت الفرصة قدمت الاستقالة. 

إنها نخب بقيت في حرفية بيت المعري المشهور، إنما هذه المذاهب أسباب لجلب الدنيا إلى الرؤساء، وقد أرادت أن تكون من الرؤساء فلم تفلح، وفي المدى المنظور لا يبدو أن هناك صناعة نخبة بديلة لدى هذه الأحزاب، إلا على نفس الشاكلة من الطماعين المتكالبين بلا ضمير على الاستحواذ على الغنيمة المادية دون مشروع بناءه وطني.

هل هو مزاج خاص مرحلي أم هي الثقافة السياسية العربية السائدة منذ  معاوية، أم هي الطبيعة البشرية نفسها دون إدانة أو تأثيم؟ نفتقد هنا إلى دراسات عميقة في الشخصية الأساسية التونسية والعربية  في مواقعها الاجتماعية، ونميل إلى الاعتقاد بأن التفكير من داخل الأيديولوجية هو باب للتبرير الكسول والاختصارات الأنانية. 

مسلسل التخوين الايديولوجي 

يبدأ التكفير من داخل الأيديولوجية والفكر المتكلس بوسم الآخرين بالخيانة، وهو عمل مريح فكريا كمثل اعتماد نظرية المؤامرة  في تفسير ما يجري، وهي التي أراحت الكثيرين من الانتماء إلى اللحظة التاريخية، والركون إلى التفسير بالعامل الخارجي، والمؤامرة المدبرة التي تعفي من كل  مشاركة في فعل تغييري لا يثمر مصلحة خاصة، وتوسيعا للتبرير فإن كل طرف يرى في كل شريك وطني  خائنا لا يستثاق، ما لم يكن في صفه وهكذا حكمت الأحزاب والجماعات السياسية على نفسها بالفرقة، ولم تتقدم إلى حوار داخلي  يفكك الغام الاختلافات و يقرب وجهات النظر  حول المسائل الوطنية والمصيرية. 

وهو الاتفاق (المفقود) الذي قد يفتح المجال لمشاركة واسعة، تقلل فرص الجميع في الغنيمة وتوزعها بأقساط قليلة على كثرين بحيث ينتفي سبب السعي إليها.

إن القول بصواب الرأي الخاص (الموقف الإقصائي للآخرين)  ضمن الايدولوجيا المبنية منذ زمن الإيديولوجيات التمامية، هو في جوهره بحث عن قسط أكبر من الغنيمة المحتملة من السلطة ( في صورة الفوز بها)، ولذلك فإن الموقف من الانتخابات يتحدد من هذه الزاوية، فكل انتخاب هو بالضرورة قسمة للفوائد المحتملة، والذين يتواضعون للانتخابات يبنون التحالفات ضمن هذا الأفق، فيقال للناخب صوتك مقابل الأعطيات بعد الفوز، ويقال للحليف كن ورائي ولا تسبقني حتى أفوز بقوتك.

هذا النمط من التفكير والعمل، أدى إلى تلاشي الصف الذي انتظره الشارع لقيادة الثورة، وقدم صورة النخبة النكبة، بل إن الصراع أنتج ممارسات خيانية فعلية، تمثلت في طلب التدخل الخارجي، وفي التحريض على الانقلابات العسكرية على المسار الديمقراطي، والنتيجة هي أن النظام القديم تسلل من بين شقوق المواقف النخبوية، فاجتذب البعض واشترى آخرين، وحيّد البقية ومر إلى موقع متقدم في إعادة نفسه بأجهزة الحكم، كما كان الأمر منذ تأسيس الدولة، وإذا كان الموقف الحزبي والنخبوي بهذه الرداءة والسوء، فهل يمكن فصل الحزبي عن الوطني أم يجب النظر إلى الوطن أولا؟

الموقف الوطني  والموقف الحزبي

التحليل بلو  أو  بينبغي يقدم نتائج افتراضية باهرة، ولكنها غير واقعية، الكل يقول الوطني مقدم  على الحزبي، لكن الممارسة تثبت خلاف ذلك بل تحاربه، العودة إلى الوطني هي العودة إلى الثورة وشارعها، وذلك بوضع خطة متفق عليها، تجعل جملة من القضايا التأسيسية خارج الجدال الحزبي، وتكون مسلمات بناء وطني لا خلاف حولها، ولا مزايدة فيها ومن هذه الأعمدة.

• السيادة الوطنية التي لا يمكن المناورة عليها مع صديق أو عدو بغية تحصيل مكسب داخلي مؤقت( كمعاداة التطبيع مبدئيا).

• فك ارتباط الاقتصاد الوطني عن  تبعيته للاقتصاد الأوروبي، بتنويع مصادره ومخارجه تصديرا واستيرادا)، في أفق بناء اقتصاد اجتماعي.

• إعادة بناء المدرسة التونسية (العربية إذا وسعنا وجهة النظر) على أسس جديدة  

•  وضع خطة طويلة الأمد، لإعادة بناء البني التحتية طبقا لمبادئ العدالة الاجتماعية.

•  الاتفاق على حزمة مقاييس اجتماعية (طب وصحة وتعليم) تنتج  عدالة ومساواة  شاملة و تغلق قوس التفاوت الجهوي نهائيا.
المطالب واضحة لكن الفاعلين يراوغون

ما ذكرناه آنفا يمكن أن يكون برنامج عمل سياسي طويل الأمد بعد أن كان  مطالب ثورة سريعة وغير مؤدلجة، (وقد نضجت المطالب في زمن طويل ردا على بؤس عمل الدولة منذ الاستقلال)، لكن برغم وضوح المطالب الثورية، فإن المكلفين بها حتى الآن يراوغون في تنفيذها رغم فلاحهم في وضع دستور ينص على مفاصلها الكبرى .

ومصدر التردد هو ما تقترحه الثورة على الأحزاب نفسها من إعادة رسكلة نفسها ضمن الثورة لا ضدها، الأحزاب القائمة الآن  التي تزعم قيادة الثورة من موقع الحكم، أو من موقع المعارضة، على السواء بنت نفسها ضمن عصر الأيدلوجيات التمامية، ولذلك فهي تنتج أفكارا وممارسات كليانية وإقصائية تمنعها فعلا من إدارة حوار حقيقي بينها. 

إنها لا تحترب بشكل يومي في الشارع، لكن احتمالات الحرب الأهلية مؤجلة وغير ملغاة (يلعب الخارج المراقب دور الحكم غير البريء في منعها خوفا على حدوده أكثر من خوفه على  المتحاربين)، لكن تأجيل الحرب هو أيضا تأجيل الحوار البناء على أساس برنامج اجتماعي وضعته الثورة على الطاولة.

 إن انكشاف البرنامج الاجتماعي ثم تبنيه ينهي كل فكر تمامي أصولي، (يساري و إسلامي ووحدوي)، ويعيد  ترتيب المشهد السياسي على أساس المشروع الاجتماعي، فتنتفي عمليا أسباب الفرقة القائمة (أصالة ضد حداثة أو إيمان ضد كفر أو قطرية ضد قومية)، ليحل محلها فرز اجتماعي بين مدافع عن المجتمع الهامشي الطرفي وبين برجوازية غير وطنية، لم تنخرط في بناء الوطني بل بنت ذواتها مستحوذة على قدرات الدولة والمجتمع في آن واحد، (يمكن أن نعدد إلى ما لا نهاية الصفقات المشبوهة، التي سمحت بثروات غير محدودة متخلية عن الحد الأدنى الوطني وهو دفع الضريبة المستوجبة).

إن الثورة التونسية خاصة والربيع العربي عامة، يدعو ويفرض نهاية الأفكار الخلاصية والتمامية ويجعل الخلاص الجديد غير خلاصي (نبوي) بل عملي عبر مسار مراجعة فكرية  عميقة لقواعد الانتماء للوطن عبر الانتماء للمجتمع أولا.

لقد عملت دولة الاستقلال عبر مشروع الوحدة الوطنية، كمقولة جامعة ذوبت داخلها الخلافات الاجتماعية، وكان ذك مبررا بمطالب الاستقلال  لكن مطالب الاستقلال لم تنجز  على جثة المطلب الاجتماعي، الذي ظل ينتعش من فشل الدولة، ويربو عن قدراتها على علاجها ضمن مقولات الوحدة الوطنية، ولما فرض مشروع بناء حداثة فكرية على حساب  أطراف سياسية  شعبية، وإن كانت تجهل المشروع الاجتماعي المطلوب لم يزد المطلب الاجتماعي إلا الحاحا، حتى انفجر في ثورة  تطلب أولا إنهاء فكرة الوحدة الزائفة  لصالح طبقة، بل وحدة وطنية على أساس الدولة الاجتماعية، يتحمل فيها الأقوى مسؤولية تتربت عن قوته ويدفع كلفتها.

الثورة تنهي تمتع طبقة واحدة بالدولة وانجازاتها وأعطياتها، وتلح على العدل الاجتماعي والأحزاب، ملزمة بالعودة إلى الشارع الاجتماعي، وهذه بداية الحل ومساره ومستقبله أنها في اللحظة الراهنة نقطة ضعفها لكنها نقطة قوتها، إذا راجعت فكرها ودورها ومواقعها.

إن الثورة الشعبية تنادي الأحزاب إليها وهي ملزمة باللحاق بها أو بالموت، وكل فلاح في تأجيل الاستحقاق هو تنفس اصطناعي يؤجل موت الأحزاب والمنظمات ولا يحييها.
التعليقات (0)