مقالات مختارة

"سوما" قبل أن تجف الدموع

سمير صالحة
1300x600
1300x600

أعطى إردوغان تعليماته باعتبار ضحايا فاجعة سوما «شهداء مدنيين» سقطوا خلال تأدية الواجب، وهو مصطلح يطلق على الضحايا الأتراك الذين يسقطون خلال العمليات الإرهابية، مع أن التحقيقات ما زالت في بدايتها لنعرف إذا ما كان إشعال الحرائق في المنجم عملا إرهابيا أم لا؟

نواب «العدالة والتنمية» سارعوا لتقديم طلب فتح تحقيق برلماني بعد الحادثة، لكنهم يعرفون جيدا أن المعارضة في تركيا ستطلب أكثر من ذلك بكثير، فهي تعد نفسها ومنذ الآن لمواجهة سياسية شاملة ومركزة أبعد من «صوما» تصل إلى لعب ورقة الخطأ المميت باستخدام مصفحات «توما» ضد المتظاهرين والمحتجين وأسر العمال الذين احتشدوا يهتفون مطالبين برحيل الحكومة وتحميلها مسؤولية الفاجعة.

المدعي العام التركي بدأ حملات التوقيف والاعتقالات سريعا هذه المرة ضد عشرات المشتبه بهم في التسبب بمقتل 301 شخص في فاجعة منجم الفحم في قضاء «صوما» بينهم كبار المسؤولين في الشركة المستثمرة هناك، لكن هذا لن يقطع الطريق على احتمالات استمرار الاحتجاجات والمظاهرات في المدن والشوارع، وتحرك المعارضة للعب بكل الأوراق التي تملكها للضغط على رجب طيب إردوغان وحكومته سياسيا ومحاولة قلب المعادلات قبل دخول البلاد أجواء معركة الانتخابات الرئاسية المقررة في مطلع آب/ أغسطس المقبل.

الامتحان الذي ينتظر قيادات «العدالة والتنمية» التي وصلت إلى سدة الحكم قبل 12 عاما، يختلف هذه المرة عن كثير من الظروف والحالات السابقة التي شهدتها. تحميل الحكومة المسؤولية والمطالبة برحيلها هو السقف الأعلى ونقطة البداية، لكن المحتجين والمعارضة قد يقبلون بتراجع إردوغان عن رغبته في الوصول إلى قصر الرئاسة في «شنقايا».. ربما.

تصريحات ومواقف صاحب الشركة المستثمرة في منجم الفحم أغضبت الجميع عندما قدم معلومات متناقضة مع ما قاله قبل عام، فنفى هذه المرة وجود غرف الطوارئ لاستخدامها عند الضرورة، وقال إنه «لا يوجد شرط قانوني يفرض ذلك.. الشركة كانت تعد لتجهيز المنجم بهذه الغرف خلال ثلاثة أشهر، ربما لو وقعت الحادثة حينها لما سقط هذا العدد من الضحايا»!

لكن هدف المعارضة هو محاولة البحث عن الخيط التجاري والسياسي الذي يربط بين أصحاب الشركة والسلطة السياسية، في محاولة لتصفية الحسابات مع فريق العمل المحيط برئيس الوزراء، الذي لم يكن ناجحا في إدارة الأزمة، حيث فشل في تزويد إردوغان بالمعلومات اللازمة والاقتراحات والتوصيات التي تساهم في تهدئة الأجواء وامتصاص غضب الشارع التركي. كتابات كثيرة بين أقلام مؤيدة ومعارضة، تدعو إلى إزاحة وزراء وتغيير قائمة المستشارين، خصوصا بعدما أقدم أحدهم على مهاجمة شاب أهانه، كما قال، فطرحه أرضا ووجه له الركلات غير عابئ بأنه كان وقتها يرافق إردوغان في جولة سوما، وأن الجميع على أعصابه في موقف من هذا النوع.

السياسي المخضرم وأقرب أعوان إردوغان الوزير حسين شليك يقول إن البعض سيحاول استغلال مثل هذه الأحداث لتصفية حساباته السياسية مع الحكومة، لكن الأصوات المتعالية في أكثر من مكان تقول إن تركيا ستشهد هبات سياسية جديدة وموجات عاصفة في الأيام المقبلة بعد انتهاء أيام الحداد الوطني ودفن الضحايا، وإن حكومة «العدالة والتنمية» التي خرجت قوية متماسكة في الانتخابات البلدية الأخيرة هي اليوم أمام امتحان جديد، يختلف عن حالات كثيرة سابقة ويتجاوز محاولة التعبير عن موقف أو تسجيل احتجاج ثم التراجع والنسيان.

فاجعة سوما ستكون في جميع الأحوال امتحانا جديدا لحكومة إردوغان، لأن المعارضة سيكون عندها كثير مما تقوله حول الحادثة وملابساتها والوضع القانوني والمهني لعمل المناجم في البلاد. باختصار، المعارضة تملك اليوم كثيرا من الأوراق السياسية التي ستلعب بها ضد الحكومة حول وضع منجم سوما وظروف تشغيل العمال والمحسوبيات السياسية هناك، كما تقول، لكن التركيز سيكون على تحميل الحكومة مسؤولية قطع الطريق أمام البرلمان أكثر من مرة ومنعه من طرح موضوع أوضاع المناجم في تركيا، وإقرار التشريعات اللازمة، والعقود الدولية الموقعة تحت سقف منظمة العمل الدولية التي لم توافق أنقرة عليها حتى الآن.

إردوغان وفريق عمله وبإجماع كثيرين أخطأوا في اختيار مضمون الكلمة التي وجهها من قضاء صوما خلال جولته التفقدية لأعمال الإنقاذ وتحدث فيها عن أحداث مماثلة وقعت عام 1872 في إنجلترا وعام 1907 في أميركا، وإعلانه أنه من الطبيعي في مهن من هذا النوع أن تقع أحداث مشابهة ويكون هناك سقوط ضحايا. «الأسطى» إردوغان وقع هذه المرة في ورطة الدفاع عن نفسه بشن هجومه السياسي على الآخرين قبل أن تقول المعارضة أي شيء وقبل أن ينتقده أحد.. اختار التصعيد لقطع الطريق على تحركات المعارضة التي كانت أكثر براعة في إدارة ملف الأزمة هذه المرة، فتجنبت الاحتكاك المباشر بإردوغان ورجحت الإشادة بجهود وزير الطاقة في عمليات الإنقاذ، وانتقدت التظاهر والاحتجاج قبل السماع إلى التحقيقات الأولية وانتهاء أيام الحداد العام في البلاد، وكلها رسائل سياسية توجز حقيقة أن المعركة المقبلة ستكون صعبة على «العدالة والتنمية» في ملف يملك «الشعب الجمهوري» فيه كثيرا من الأوراق التي ستخوله المقاتلة بشراسة.

حكومة «العدالة والتنمية» نجحت في امتحان إثبات قوتها وتفوقها فوق سطح الأرض سياسيا واقتصاديا، لكنها فشلت في امتحان ما تحت سطح الأرض على ما يبدو، فهي تواصل دفع الثمن الباهظ نتيجة الكوارث في قطاع المناجم. كثير من العواصم الأوروبية نجحت في «تصفير» عدد ضحاياها باستخدام التكنولوجيا المتطورة وتوفير الحماية اللازمة للعمال هناك، لكن تركيا تدفع الثمن من خلال سقوط أكثر من 3000 قتيل منذ مطلع الأربعينات وحتى اليوم. ألمانيا أيضا تستفيد من مناجم فحمها، لكنها لم تقدم ضحايا منذ الأربعينات.. هي اليوم جزء من الاتحاد الأوروبي الذي تطارد تركيا مسألة العضوية فيه منذ أواخر الخمسينات، لكن المجموعة الأوروبية ستسألها حتما عن المعايير والتشريعات التي تستخدمها لحماية أرواح من يعملون على عمق مئات الأمتار تحت الأرض. الخطأ الأكبر هو تحريك مصفحات رجال الشرطة في قضاء «سوما» وضد شبانه الذين صدموا أمام مشهد سيارات «توما» التي تعودوا على مشاهدتها في التلفزيون وهي توجه خراطيم مياهها نحو المتظاهرين في المدن الكبرى، تقطع الطريق عليهم هذه المرة، لأنهم هتفوا ضد الحكومة التي صوتوا لها قبل شهرين في مدينة كانت تعد من قلاع اليسار العلماني فنجح إردوغان في ضمها إلى لائحة أنصار حزبه.

أنباء تقول إن أصحاب الشركة المستثمرة في صوما لا يبحثون عن مكتب محاماة ضليع ينقذهم من مأزقهم، بل عن مكتب علاقات عامة يجمل من صورتهم أمام الرأي العام التركي، فما الذي ستفعله الحكومة؟

عن الشرق الأوسط
التعليقات (0)