سياسة دولية

قصة حزب العدالة والتنمية التركي وأردوغان

الصديقان والصعود الكبير - أرشيفية
الصديقان والصعود الكبير - أرشيفية

"تركيا بلد الألوان المختلطة والمتناقضات الشديدة".. هكذا يصف زعيم حزب النهضة التونسي راشد الغنوشي هذا البلد، الذي حوله انقلاب "نخبة الدونمة"، أي اليهود المتأسلمون بعد طردهم من الأندلس، والتجائهم إلى حاضرة الخلافة، بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، من عاصمة الأمة الإسلامية المترامية الأطراف، عبر القارات الثلاث، إلى دولة قومية شوفينية، في تعصبها للعنصر التركي، وعلمانية متطرفة حاربت الإسلام بكل ما ملكت من وسائل، وراهنت على استبدال الهوية الإسلامية العثمانية بهوية قومية علمانية أوروبية، عبر حملة شاملة على كل مؤسسات الإسلام التعليمية والوقفية والشعائرية، بل التشريعية والدولية.

ويضيف أن الدولة غيّرت قبلتها بالكامل، ولم تدخر جهدا في حمل الشعب على ذلك، رغم أن تجربة ثلاثة أرباع قرن أثبتت أن تغيير هويّات الشعوب أمر بالغ العسر، بسبب ما أبداه الشعب من مقاومة متعددة الأشكال، كان من بينها صعود حزب من داخل النخبة العلمانية العسكرية في الخمسينيات، بقيادة عدنان مندريس، وفتح ثغرة محدودة في جدار العلمانية المتطرفة في عدائها للإسلام، التي أرساها مؤسس الجمهورية.

وتمثلت هذه الثغرة البسيطة في الاتجاه إلى الاعتراف بالهوية الإسلامية لتركيا، عبر السماح بأداء الأذان بالعربية، ما جعل الناس يخرون سجدا ويبكون فرحا، وكذا الإذن بفتح معاهد لتخريج الأئمة والخطباء.

ولم تستمر هذه السياسة لأطول من الفترة بين 1950 و1960، إذ تم التصدي لها بكل عنف، من قبل حراس المعبد العلماني، الذين انقلبوا على الديمقراطية، بعد أن كانوا قد بدأوا بالانقلاب على الإسلام، فعلّقوا رئيس الوزراء المنتخب عدنان مندريس، ورئيس الجمهورية جلال بايار على المشنقة..

وبعد أن أعادوا ترتيب الأوضاع، وبضغط من الشركاء الأوروبيين، من أجل الحفاظ على مستوى من الانسجام مع الوجه الأوروبي، الذي تحرص عليه النخبة، أو المفروض عليها، تمت العودة إلى الديمقراطية، غير أنها أفرزت مرة أخرى حزباً علمانياً معتدلاً بزعامة شخصية معتدلة قريبة من الجماعات الصوفية هو سليمان ديميريل، الذي استأنف على نحو ما سياسة مندريس من جهة السماح بالممارسة الدينية، وهو نفسه كان معروفا بأداء الصلاة.

وفي عهده استأنفت الحركة الإسلامية بزعامة البروفيسور نجم الدين أربكان عملها، ضمن حزب جديد هو حزب السلامة الوطني، الذي ظهر على أثر ما شهدته الساحة من صراعات اليمين واليسار وتشتت الأحزاب، ما أتاح لأربكان فرصة التحالف مع مختلف الأحزاب العلمانية لتشكيل الحكومة مرة مع اليسار بزعامة أجاويد رئيسا للوزراء، ومرتين مع حزب العدالة بزعامة ديميريل.

غير أنه أمام صعود الإسلاميين واشتداد حمى الصدام بين المتطرفين من اليمين واليسار، تدخلت المؤسسة العسكرية الوصي على تراث أتاتورك لتضع حدا لصعود الإسلاميين المتزايد.

ورغم أن أداء أربكان الاقتصادي كان عظيما في النزول بالتضخم والبطالة والدين الخارجي إلى أدنى نسبة، بالقياس إلى الحكومات السابقة، ورغم أدائه المتميز غير المسبوق للبلديات، التي تديرها جماعة الرفاه، إلا أن ذلك وبقدر ما رفع مكانة الإسلاميين لدى الشعب، بقدر ما رفع مستوى نقمة الباب العالي (الهيئة العليا لرجال الأعمال والصحافة وقادة العسكر)، فصعّدوا الضغط عليه حتى حملوه على الاستقالة، وحركوا أداة أخرى من أدوات سيطرتهم (المحكمة العليا) فحلت حزبا في أوج عطائه، بنفس الاتهام الثقافي المعتاد: النيل من هوية الدولة العلمانية.

واستمرت هذه المرحلة العصيبة، التي عرفت بمرحلة "28 فبراير"، ولم تنته إلا بانهيار الطبقة السياسية بيمينها ويسارها، وجملة أحزابها تقريبا، ليعود التيار الإسلامي بعد خمس سنوات في ثوب جديد بزعامة شابة، تربت في أحضان المعاهد الدينية، ثم في الحركة الإسلامية خلال عقدين، وشملتها موجة الاضطهاد.

وتمثّلت هذه الزعامة بشخصية الطيب رجب أردوغان، الذي أطيح به من رئاسة بلدية من أكبر البلديات في العالم، حيث تجلت فيها عبقريته، إذ توصّل إلى حل مشكلات حياتية فشل فيها كل من سبقه، فأحاطه الناس بحب عظيم.

قد يكون من الطبيعي التساؤل عن إمكان استمرار وتواصل هذا المشروع الجديد، الذي بدأه مندريس واستأنفه ديميريل ثم تورغت أزال، ووصل إلى أوجه مع أربكان، أي مشروع مصالحة تركيا الحديثة مع تاريخها وهويتها، من خلال الحد من التطرف العلماني للدولة في عدائها للدين، في مسعى لاستبدال علمانية متطرفة بأخرى معتدلة، هي أقرب إلى النوع الأوروبي، الذي يغلب عليه الحياد، إزاء المسألة الدينية، وذلك بالإفادة من التجارب السابقة، باعتماد مرونة أكبر في خدمة المشروع نفسه، بما يحفظ جوهره، ويتخلى ولو ظرفياً عن بعض مظاهره، من أجل فتح أبواب التطور في وجهه بعيداً عن أسباب التصادم مع "الباب العالي".

ما حقيقة مشروع‏ العدالة والتنمية؟

وتأتي أهمية هذا التساؤل مع اعتبار البعض أن مشروع «العدالة والتنمية» هو تنازل عن مشروع الحركة الإسلامية بل خيانة له. وفي أفضل الأحوال الرهان على ما سماه هذا البعض بالعلمانية الإسلامية. أو هو ما اعتبره أنصار مؤسس المشروع البروفيسور نجم الدين أربكان إيثارا لملاذ السلطة، والعيش تحت الأضواء، وإرضاء العسكر ومؤسسة المال والإعلام والأمريكان؟ تنازل عن جوهر المشروع الإسلامي، واستسلام للعلمانية، وانتصار ساحق لها، كما روج لذلك بعض عتاة العلمانية في بلادنا، مبدين فرحة صفراء بانتصار العدالة والتنمية؟

الثابت أن حزب العدالة والتنمية بزعامة النجم الصاعد الشاب رجب أردوغان، رئيس بلدية إسطنبول، (وهو إلى جانب غول أبرز الشباب، الذين أعدهم أربكان لخلافته)، قد نجح إلى جانب احتفاظه بشعبية واسعة داخل التيار الإسلامي في استقطاب قطاع واسع من اليمين العلماني المحافظ، الذي تخلى عن أحزابه التقليدية، وتركها تنهار بسبب فسادها وعجزها عن تقديم حلول لمشاكل البلاد الكبرى، كما استقطب فئات أقل من ذلك من اليسار، الذي تراجع بنسبة الثلث لنفس الأسباب.

واستقطب كذلك حوالي ثلث الناخبين الأكراد، فضلاً عن استقطابه للقاعدة الإسلامية (حوالي 23%)، عدا نسبة ضئيلة (2%) ذهبت إلى "السعادة".

وكل هذه الفئات الواسعة رأت في "العدالة والتنمية" وزعامته الشابة منقذا للبلاد من كارثة الفساد الاقتصادي، أو من الحرب الأهلية في كردستان، أو من التصادم مع العسكر.

وكلها رأت فيه، رغم التباين الثقافي، الأمل في إنقاذ تركيا من الفساد الاقتصادي، بما عرف عن زعمائه من فعالية ونظافة خلال ممارستهم لإدارة البلديات.

صعود أردوغان مع "العدالة والتنمية"


انضم أردغان لحزب الرفاه السياسي عام 1984 كرئيس لفرعه الجديد بعد عودة الحياة الحزبية فى تركيا من جديد بعدما أغلقت كل الأحزاب فى تركيا عام 1980 جراء انقلاب عسكري، وما لبث أن سطع نجمه حتى أصبح رئيسا لفرع الحزب فى إسطنبول عام 1985.. وبعدها بعام واحد أصبح عضوا فى اللجنة المركزية للحزب.

وعقب توليه مقاليد بلدية إسطنبول استطاع أن يحررها من طائلة الديون التى بلغت ملياري دولار وحولها إلى أرباح واستثمارات، واتسمت فترة رئاسته بالنزاهة والتواصل مع الشعب، وبخاصة العمال حيث اهتم برفع أجورهم ورعايتهم صحيا واجتماعيا.

وحارب أردوغان العلمانية ومن يتخذها منهجا له.. قائلا إن العلمانية والإسلام لا يجتمعان فى شخص واحد. وعلى أثر ذلك تم توجيه اتهام له بالتحريض على الكراهية الدينية عام 1998، ما تسبب فى منعه من العمل في الوظائف الحكومية وبالتالي الترشح للانتخابات العامة.

ولم يتمكن أردوغان من خوض الانتخابات عقب خروجه من السجن، خاصة بعد حل المحكمة الدستورية لحزب الفضيلة الذي قام بديلا عنه حزب الرفاه الذي انقسم إلى قسمين، هما المحافظون والشباب المجددون بقيادة أردوغان وعبدالله غول، مؤسسين بعدها حزب التنمية والعدالة عام 2001.
وخاض أردوغان بعدها تجربة الانتخابات التشريعية عام 2002 وفاز بـ 363 صوتا مشكلا بذلك أغلبية ساحقة ومحيلا أحزابا عريقة إلى المعاش، ولم يستطع ترأس حكومته بسبب تبعات سجنه، وأناب عنه صديقه عبد الله غول، وتمكن أردوغان بعد ذلك من تولي رئاسة الحكومة بعد إسقاط الحكم عنه في آذار/ مارس 2002.

وحاول أردوغان بعد توليه رئاسة الحكومة إصلاح ما أفسده العلمانيون.. فتصالح مع الأرمن بعد عداء تاريخى وفعل ذات الشيء مع أذربيجان، وأرسى تعاونا مع العراق وسوريا، ولم ينس أبناء شعبه من الأكراد، فأعاد لمدنهم وقراهم أسماءها الكردية بعدما كان ذلك محظورا.. وسمح رسميا بالخطبة باللغة الكردية، وافتتح تليفزيونا رسميا ناطقا بالكردية.. 

وأصبحت تركيا فى عهده صاحبة واحد من أسرع اقتصادات العالم نموا.. كما أنها حاليا مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي فضلا عن أنها باتت قوة إقليمية لا يستهان بها.

واستطاع أردوغان أن يبدل مكانة تركيا فى العالم.. حيث عمقت تركيا (بصفتها عضو حلف شمال الأطلسي وحليفة الولايات المتحدة) علاقاتها مع الشرق الأوسط لفترة طويلة لتشمل بذلك إيران.. إلى جانب فتح أسواق جديدة فى آسيا وأفريقيا.

وظلت العلاقات السياسية بين تركيا و"إسرائيل" مستمرة فى التدهور منذ تولى أردوغان رئاسة الحكومة التركية خاصة بعد إلغائه مناورات "نسور الأناضول" التي كان مقررا إقامتها مع "إسرائيل" وإقامة المناورة مع سوريا التى علق عليها أردوغان بأن قرار الإلغاء جاء احتراما لمشاعر شعبه. 

ويستذكر التاريخ هنا، النقاش الحاد بينه وبين شيمون بيريز بسبب حرب غزة، حيث خرج بعدها من القاعة محتجا، بعد أن ألقى كلمة حق وصفه بها بأنه "قاتل الأطفال" وأن دم أردوغان المسلم يغلي حتى في صقيع دافوس، واستقبله آلاف الأتراك في المطار عند عودته بالورود والتصفيق والدعوات.

أردوغان من بائع للخبز إلي"هداف التنمية"

لم أتغير؛ ولكنني تطورت"، بهذه الكلمات الموجزة دشَّن "رجب طيب أردوغان" مرحلة جديدة في مسار حركة الإسلام السياسي، وارتاد تيارا وسطا بين ثنائية (العلمانية والإسلام)، عُرف بتيار "الأردوغانية".

بالرغم من نشأته فى أفقر أحياء إسطنبول (قائم باشا) وتلقيه تعليما بمدرسة شعبية بسيطة.. إلا أن سياسة حزبه ونجاح حكومته داخليا وخارجيا في المجالات الاقتصادية والاجتماعية جعل الشعب التركي يجدد الثقة في زعيمه رجب طيب أردوغان، ليقود حزبه للفوز مرة أخرى بأغلبية البرلمان، بعد أن حقق الحزب الحاكم خلال تسع سنوات خطوات واسعة على طريق الديمقراطية.

رئيس الوزراء أردوغان سياسي عصامي كان في صغره بائعا للفافات الخبز بشوارع إسطنبول القديمة، حيث كانت تركيا دولة محاصرة بسلسلة من انقلابات الجيش.. وكان أبناؤها المتدينون مضطهدين في المجتمع.

واستطاع أن يصل إلى منصب سياسي مرموق في زمن قياسي في عمر صغير (15 عاما).. فضلا عن تعرضه لكثير من العوائق والاعتقالات التي كادت أن تبطئ من مسيرته السياسية.

ولد أردوغان فى 26 شباط/ فبراير عام 1954 لأب من منطقة البحر الأسود يعمل ربان زورق، وهاجر إلى إسطنبول حين كان أردوغان طفلا، وشغف قلب أردوغان بحب كرة القدم بالرغم من اهتمامه المبكر بالسياسة فأمضى 10 سنوات من حياته لاعبا بعدة أندية، حتى التحق بالجيش وطرد منه بسبب رفضه حلق شاربه، تبعا لما كان مطبقا في قواعد الجيش التركي آنذاك.

يشار إلى أن البداية الفعلية لممارسة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الحياة السياسة كانت من خلال قيادة الجناح الشبابي المحلي لحزب السلامة أو الخلاص الوطنى.. الذى أسسه نجم الدين أربكان.
التعليقات (0)