مقالات مختارة

تحذير للمصفقين

فهمي هويدي
1300x600
1300x600
كتب فهمي هويدي: زعيم كوريا الشمالية قرر إعدام الرجل الثاني في النظام ــ زوج عمته في ذات الوقت ــ لعدة أسباب، كان من بينها أن الرجل لم يكن يصفق بحماسة أثناء اجتماعات القيادة. استوقفتني هذه الإشارة في الخبر الذي بثته وكالة الأنباء الفرنسية (في 13/12/2013) متعلقا بإعدام الرجل (جانج سونج ثايك ــ 67 سنة).

إذ وقعت عليها حين رجعت إلى بعض المصادر قبل كتابة العامود الذي نشر أمس عن الانتخابات «النيابية» الكورية، التي أسفرت عن فوز الزعيم الشاب بنسبة 100? من الأصوات. احتفظت بالمعلومة التي دفعتني إلى محاولة التعرف على شخصية ذلك الشاب كيم جونج أون الذي تولى السلطة وعمره 27 عاما، خلفا لأبيه الذي كان قد ورثها بدوره عن جده كيم ايل سونج. كنت أعرف شيئا عن زمن الجد حين كانت سفارة بلاده في القاهرة تنشر ملاحق إعلانية من خلال مؤسسة الأهرام، تمجد الرجل وترفعه إلى مصاف آلهة الزمان.

وبحكم وجودي في سكرتارية تحرير الجريدة آنذاك ــ في السبعينيات ــ كنت مضطرا لقراءة ما تنشره تلك الملاحق من أوصاف لشخصية الرفيق الرائع الذي تغرد له العصافير حيثما ذهب وتصفق له الأجنة في بطون الأمهات (لا تسألني كيف). ومنذ ذلك الحين أدركت أن كوريا الشمالية لم تتجاوز سياسيا ــ عصر الفراعنة الذي عرفته مصر قبل خمسة آلاف سنة، حين كان الفرعون يوصف بأنه الملك الإله، لم أستغرب حين ورث الابن هالة الأب وقدسيته، وسار الحفيد على ذات الدرب، وصدق ــ رغم أنه تلقى تعليمه في سويسرا ــ أن العصافير تغرد له وأن الأجنة تصفق في بطون الأمهات، شغلتني قصة الرجل الثاني في النظام الذي كان من بين أسباب إعدامه ليس أنه لم يصفق، ولكن لأنه فعلها ولكن تصفيقه لم تتوفر له الحماسة اللائقة بمكانة الملك الإله.

ذلك أنه كان من أركان النظام، ولم يكن هناك شك في ولائه للرفيق الرائع وأبيه، فضلا عن أنه ظل مرشدا للزعيم الشاب حين تولى السلطة في عام 2011. وكان في موقف يسمح له بأن يدرك عاقبة التمرد عليه، هذا إذا لم يكن قد أسهم في تصفية الذين ساورتهم مثل هذه الفكرة. ولأنه كان زوج عمته فإن ذلك وفر له قدرا إضافيا من الثقة والاطمئنان باعتباره جزءا من الأسرة «الملكية» الحاكمة. إلا أن ذلك لم يحل دون قتل الرجل في نهاية المطاف واتهامه بالخيانة وإثارة الدسائس ضد الحزب والثورة والنظام الاشتراكي.

 ظلت ترن في أذني حكاية عدم التصفيق بحماسة التي بدرت عن الرجل، وأسهمت في هلاكه في نهاية المطاف. ذلك أنني وجدتها دليلا يؤيد رأيا أقنعتني التجربة به خلاصته أن المستبدين لا يريدون أعوانا مؤيدين، ولكنهم يريدون خدما طيعين. وكنت قد عبرت عن ذلك في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، حين وجدته يختار في بعض المواقع أناسا من الفرز الثالث والرابع.

وقلت آنذاك إن أمامه كثيرين من المؤيدين الذين يقبلون الأيادي، لكنه ــ أو أجهزته ــ يفضل استخدام الذين يلعقون الأحذية، كانت في ذهني وقائع عدة، من بينها قصة اجتماعه مع بعض وزرائه وأعوانه لمناقشة عدة أمور، بينها اعتزامه إلغاء التمثيل التجاري في السفارات، بعدما وجد أنه يحمل الموازنة العامة أعباء مالية كبيرة في حين أن مردوده ضعيف، وإزاء حماسه لفكرة الإلغاء فإن أحد الصناعيين الكبار من رجاله وأعوانه زلت لسانه أثناء الكلام، وقال إن ذلك قرار خاطئ، وهو ما لم يتوقعه مبارك من الرجل، فتجاهله، ولم يصافحه حين غادر الاجتماع، عقابا له على جرأته التي دفعته إلى تخطئة رأي أبداه الرئيس، وحين تجاهله فإن الدولة كلها قاطعت الصناعي الكبير، ولم يسوَّ الأمر إلا بعد توسط آخر من أعوان مبارك الذي استطاع أن يستعيد رضاه عن الرجل.

 المستبد يعتبر الرعية خادمة، ويتعامل مع أعوانه باعتبارهم من طبقة كبار الخدم. هذه فكرة أوردها عبد الرحمن الكواكبي قبل أكثر من قرن في كتابه الذي ألفه عن طبائع الاستبداد. ولأن الأمر كذلك فإن المستبد يتوقع من أعوانه الذين شملهم برضاه أن يكونوا دائمي التمجيد والتصفيق له. ويفاجئه ويغضبه أن يقصر أحدهم في ذلك، الأمر الذي يفسر لنا لماذا لجأ الرفيق الكوري الرائع إلى اتهامه لمرشده بالخيانة وإعدامه، لأن حرارة تصفيقه كانت دون ما توقعه منه.

 لأن تلك من صفات الحاكم المستبد فإن الإمام أبو حامد الغزالي حذر في كتابه «إحياء علوم الدين» من مخالطة السلاطين الظلمة، إذ أفرد في مؤلفه بابا خصصه لما يحل من مخالطتهم وما يحرم. ونقل فيه حديثا نبويا قال عن أولئك الظلمة إن «من نابذهم نجا ومن اعتزلهم سلم أو كاد يسلم ومن وقع معهم في دنياهم فهو منهم». واستشهد بحديث آخر يقول: أبغض القراء (الفقهاء) إلى الله تعالى الذين يزورون الأمراء. (الظلمة). كما نقل على لسان فقيه المغرب سحنون بن سعيد قوله: ما أسمج بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد، فيسأل عنه فيقال عند الأمير. واستشهد بقول الصحابي أبي ذر الغفاري: لا تغش أبواب السلاطين، فإنك لا تصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينك أفضل منه.
اعتبر الإمام الغزالي أن مخالطة الحكام الظلمة من المنكرات التي يتعين أن ينأى أهل العلم والرشد بأنفسهم عنها. 

 وثمة كلام آخر كثير في كيفية ومراتب تغيير أمثال تلك المنكرات، لا مجال للتفصيل فيه الآن، لأننا بصدد سياق آخر، جرنا إليه مصير الرجل الذي لم يصفق كما يجب للرفيق الرائع. فاحذر يا رعاك الله من أن تنضم إلى جوقة المصفقين للظلمة، تجنبا للهلاك، إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة.

(بوابة الشرق)
التعليقات (0)