كتاب عربي 21

أوقفوا الرشا إن أردتم صحافة محترمة

1300x600
1300x600
خلال عملي في أحد الصحف المحلية اتفقت مع الزملاء الصحفيين على إعلامي بالهدايا التي يستلمونها من الهيئات والوزارات التي يغطون أنشطتها، وكان القصد هو معرفة المؤسسات التي تدفع للصحفيين بشكل مباشر أو غير مباشر، حتى نكون على علم بخريطة التغطية الصحفية وملابساتها، وسأستخدم كلمة مؤسسات عند الحديث عن الوزارات والهيئات اختصارا.

كان تعاون الزملاء الصحفيين طيبا، فلم يخل يوما من دخول أحدهم إلى مكتبي حاملا شيكا أو ساعة أو قلما أو هدية ثمينة من المؤسسة التي يعمل على تغطية أنشطتها، وبدأت تصل رسائل تطلب السماح بإرسال صحفيينا لمرافقة وفود هذه المؤسسات إلى الخارج لتغطية اجتماعاتهم وتسجيل كمية عرقهم وجهدهم ونشره ليعلم القاصي والداني به، رسائل لا تكاد تنتهي، وهدايا لا تنقطع، فهل هي رشوة للصحافة حتى تعمل على تلميع هذه المؤسسات والتغاضي عن أخطائها وتجاوزاتها وترهلها؟

نشر الرئيس التونسي مؤخرا الكتاب الأسود، الذي يحوي أسماء الصحفيين والمجلات والفضائيات والصحف التي كانت تستلم مبالغ مالية من الرئيس المعزول بن علي لتلميع صورته وإخفاء فضائحه والسكوت على جرائمه، والكتاب لم تحتفل به وسائل الإعلام العربية لأن بعضها تلوث بقذر المال الذي كان بن علي يدفعه لها، صحف غربية تتغنى بالحرية، ومناضلون لندنيون نفخوا رؤوسنا بالقضية الفلسطينية وفساد مسؤوليها، ومراسلو قنوات عالمية وفضائيات عربية وطبالين وزمارين ومعارضين وثوريين وخطباء، وقنوات تدعي الممانعة مثل المنار وتلك التابعة لرئيس البرلمان اللبناني نبيه بري، وصحفيون يعملون في صحف خليجية سيتم السكوت عنهم لأن الهدايا أصبحت جزءا من العمل المهني الذي يزاولونه، فالكل يأخذ هدايا على خدماته التي يقدمها!!

أنصح الزملاء رؤساء تحرير الصحف المحلية والمسؤولين في القنوات الفضائية بقراءة الكتاب حتى يعرفوا إن كانت مؤسساتهم قد تم اختراقها أم لا، ولن يخسروا شيئا، على الأقل سيتثقفوا وسيعلموا مالم يعلموا، ولكن ليكن في حسبانهم أن مسألة بن علي انتهت وبقي الكثير من أمثال بن علي الذين مازالوا يدفعون كثيرا.

عندما كنت رئيسا لتحرير صحيفة الشرق في أواخر التسعينيات، جاءني صحفي ببيان وصل من السفارة التونسية في قطر يطلب نشره، والبيان عبارة عن خبر صحفي يقول إن بن علي زار مؤسسة للأيتام ومسح على رؤوسهم وتحدث معهم وأنه الراعي الرسمي لهؤلاء الأيتام المساكين وهو سيدخل الجنة لأنه قام بما لم تأت به الأوائل، والبيان مرفق بمجموعة من صوره وهو مبتسم ابتسامة باهتة لغرض النشر فقط، رفضت نشر الخبر، فهو لايعني القارئ في شيء، فكل المسؤولين يحتاجون لأن يقولوا لشعوبهم إن لهم قلوبا رحيمة مع أن سجونهم مليئة بالبؤساء والمعذبين والمظلومين، وبعدها جاءني نفس الصحفي قائلا: إن السفير التونسي يطلب مقابلتك – مضيفا – أن عدم نشر البيان قد يكون السبب.

جاء السفير التونسي إلى مكتبي، وبعد المجاملات المعهودة سأل إن كان لي موقف مسبق من رئيسه بن علي، وعندما أجبته بالنفي (اعترف أني كذبت هنا) قال ولماذا لم تنشر البيان الصحفي؟ قلت له: ولماذا أنافق بن علي؟ وهل صحيفتي مجلة حائط ألصق عليها كل بيان يصلني من سفارة ما؟

طال بنا الحديث عن الصحافة وتشعباتها، وعلي أن أعترف بأن الرجل تفهم موقفي وأنا أيضاً تفهمت موقفة، فالعمل مع نظام بشع المعالم مثل نظام بن علي يتطلب من السفير أن يخرج خارج العرف الدبلوماسي أحيانا. وقبل أن يقوم من كرسيه، قال لي هامسا: سأرسل لك البيانات وإن لم تعجبك أرمها في سلة القمامة.

تود الحكومات لو أن الصحافة إدارة من إداراتها تتحكم فيها كيف تشاء ولكنها لا تستطيع أن تعلن عن ذلك لأن هذا خارج نطاق المتعارف عليه وسيكرس دكتاتوريتها علنا، إذن، فليس أفضل من شراء الصحفيين وإغراء أقلامهم بجميل التحف والهدايا والسفرات، ولهذا السبب أيضاً فإن مؤسساتنا أمطرت نرجسا ولؤلؤا على الصحفيين حتى أصبحت صحفنا كالأرض التي لا تنبت سوى الاحتفالات والإنجازات والبيانات أو أنها أصبحت منبرا للانتقام والتهجم غير الأخلاقي أحيانا.

أتمنى من كل قلبي وإن أغضبت الكثير من قدماء زملاء المهنة أن يتم إصدار قانون يمنع المؤسسات من دفع الهدايا للصحفيين حتى نحافظ على شعرة معاوية، فلن تستطيع أي مؤسسة إعلامية منع أو مراقبة هذا الكم الهائل من الهدايا المتدفقة التي أحالت صحفنا إلى ماهي عليه الآن.

أما بالنسبة لعالمنا العربي الكبير، فدون أمر كهذا خرط القتاد، وللعلم فإن القتاد شجر كثير الشوك، وخرطها أي نزع لحائها، فنزع لحاء شجرة كثيرة الشوك أهون من منع تدفق الهدايا وشراء الولاءات وتحويل العملات، فأصحاب الألسنة الطويلة والقلوب المتحجرة الشرهين للمال والمتخمين بالعفن لن يوقفهم شيء.
التعليقات (0)