كتاب عربي 21

أشعر الرؤساء وشعر السياسة

أحمد عمر
جيتي
جيتي
لن تجد بين زعمائنا من أوتي حظا من البلاغة أو نصيبا من الفصاحة، فحسبنا منهم أن نفهم ما فهمه عنترة من رسم الدار، الذي عندما نطق تكلم كالأصم الأعجم!

قلَّ من انقادت له أعنّة الخيال الأدبي من السياسيين المعاصرين، وندر أن يعثر الباحث على بلاغة من تشبيه أو كناية في مقالات الكتاب المحترفين، وفي خطب الساسة التي يكتبها لهم كتّاب متضلعون في العلم، فمعظم خطب القادة، ومقالات المنظرين وأدباء السياسة؛ معلومات يابسة، وآراء جافة، وعبارات أكل عليها الدهر وشرب ونام و"طرح"، خالية من أثر الوجدان، ورونق البيان. لكن الدنيا لا تخلو من بليغ مثال الرئيس المصري الشاعر الذي قال أبلغ عباراته بلغة ما قبل الكلام: "الحالة كانت وبقت كده"، وله قصائد أخرى للصم والبكم.

وكنت أجمع ما صادفني من عبارات حسنة قراءة أو سماعا، وفي نيتي تأليف كتاب في بلاغات الساسة والعاملين في "الحبل" الدبلوماسي، وأخبار ذوي الرأي منهم، على "حسب ما بلغته الطاقة واقتضته الرواية واقتصرت عليه النهاية"، كما يقول ابن طيفور في كتابه بلاغات النساء، ثم قنعت أن أقتصر على حواضر الأخبار، وشائع الأقوال؛ خذ على سبيل المثال "العبارات الشعرية" التي تكثر في نثر السياسة هذه الأيام مثل:

الأحزمة النارية، والقبة الحديدية، والسلام البارد (وهي عبارة لبطرس غالي في وصف السلام المصري الإسرائيلي)، وعبارة "حكومة إشارة المرور" في ألمانيا، ولو حملنا اسم حكومة مصر على هذ المحمل، لكان اسمها "حكومة البلح"، أما نظام سوريا فهو نظام "الشحاطة"، أو نظام: ممنوع المرور، الطريق مسدود.

ومن العبارات الشعرية السياسية الشهيرة قولهم: "إنها معركة عضِّ أصابع"، وإنها معركة "كسر عظم" التي أجهل من قالها أول مرة، وإنّ إسرائيل تقوم بعمل دوري هو "جزِّ العشب"، ومن ذلك: وصف أدبيات المقاومة للجيش الجزّاز، بأنه "نمر من ورق"، وليس كذلك، فهو نمر، لكن حتى النمر - وهو أخبث السباع- يمكن صيده وقتله وتدبيغ جلده، فراشا في الشتاء، أو زيّا للحِسان المفترسات. وكذلك قولهم: إنها لعبة "حافة الهاوية".

وأغلبها تعابير مترجمة من الأدبيات اللاتينية، مع أنَّ العرب هم أرباب البلاغة وأمراء الكلام، لكن من لا يحارب يصاب بالعجمة، ومن يخذِّل الله يُخذل.

سنعرض أمثلة أخرى:

إن ما وتسي تونغ زعيم كبير وشاعر أيضا، ومنظر لحرب التحرير، وتظهر لغته الشعرية في رأيه في حروب التحرير الشعبية بقوله:

إنها حربُ كرٍّ وفرٍّ
حين يتقدم العدو ننسحب
حين يستقر ندغدغه
وحين يتعب نضربه
وحين ينسحب نطرده

الحرب سياسة بالسلاح، والسياسة حرب بغير سلاح.

وما أجمل عبارته: "الشعب بحر والثوار سمك، ولا حياة للثوار من غير بحر الشعب".

وسحرني التعبير العسكري الذي سمعته من المحلل فايز الدويري عندما قال: إنَّ مقاتلي القسام يحاربون على طريقة "سمكة الصحراء"، وهو تعبير يدرس في المدارس العسكرية لا يعرف قائله، بل إن الجيوش غالبا ما تختار عناوين شعرية مؤثرة، جلّها مأخوذ من الأساطير أو النصوص الدينية. والنصوص الدينية غنية بالمجاز والبيان، والمجاز قناع الغيب، وقد ندم نتنياهو على عنوانه المختار لمعركة طوفان الأقصى، وهو "السيوف الحديدية"، ولا خيال فيه، فالسيوف حديدية، وليست كرتونية. ونقلت الصحافة محاولته تصويب العنوان واختيار اسم توراتي، إما مغازلة للتيار الديني، أو على سبيل الفأل، لكن: فاته القطار، فاته القطار.

أما عنوان القسام للمعركة فهو طوفان الأقصى، وفيه توفيق كريم، ويظن أنه سيكون طوفان مثل طوفان نوح، ما بعده خليقة جديدة عندما ترسو السفينة على الجودي.

ومن أشهر عبارات السياسيين والمشتغلين بالتحليل السياسي عبارة "بالونات اختبار"، كالمبادرة المصرية لوقف إطلاق النار، وهي كناية فرنسية لطيفة تعني نوعا من أنواع استطلاع الآراء عبر بثِّ أخبار اختبار تُرسل إلى وسائل الإعلام لقياس ردود الفعل العامة حولها، وجسّ نبض الجمهور، وأشهر منها عبارة وصف بها جيش جزّ العشب ونصب الحواجز و"شوك جهنم"، هو قولهم؛ مثل ثور في مستودع خزف.

سررت وأنا أقرأ كتاب "خريف الغضب" قديما بعبارة بديعة تكررت كثيرا في الكتاب؛ وهي أن الإسلاميين "اختفوا تحت الأرض من جديد"، وأتذكر فرحة المذيعة المصرية زاعقة الصوت بالأمس وهي تسأل جذلة محمد حسنين هيكل عن هيبة مرسي المسفوحة، فقال: "دي مش هيبة دي خيبة".

وأذكر أنَّ مصطفى طلاس الذي قلما يظهر على التلفزيون، خطب حشدا من العسكر السوري، فشبّه ياسر عرفات براقصة "الستربتيز" -يمكن القارئ نطق التاء طاء- وزعموا أنَّ طلاس كان ينظم شعرا ويكتب في شؤون الحياة كلها؛ الطبخ ورعاية الزهور وفن الزخرفة وحياكة الصوف، الفن الوحيد الذي لم يكتب فيه هو فنُّ التجميل النسائي، وصناعة المخلل.

ومن بلاغات صدام حسين أنَّ مذيعا سأله باللهجة العراقية اللطيفة، وهو سؤال معدٌّ لإظهار بداهة الرئيس وقوة سليقته:

سيادة الرئيس، أنتم تحضّون الشعب على استهلاك البضاعة الوطنية، فلمَ تدخنون سيكارا كوبيا؟

وكان يمكن للرئيس أن يجيب قائلا إنَّ العراق لا ينتج السيكار، فهو صناعة كوبية جبلية، إنما ينتج الأبطال، أو أنَّ السيكار ضار بالصحة ولا أنصحكم بالتدخين، كما يجدر برئيس يحرص على بلح شعبه وتمر صحته، لكنه أجاب جوابا لطيفا مفحما: بس آني أشعله بشخاط عراقي!

ولحافظ الأسد خطبة بعد القضاء على ثورة الإخوان المسلمين التي جاء في أولها قوله وهو ينظر إلى الشعب وقد أُخرج للاحتفال بنصره عليه: الله أكبر ماذا أرى بحرا أرى، هديرا أرى (الهدير يسمع). لاحقا حقد على رائد الفضاء محمد فارس حقد الجمل العقور بسبب قوله: الله أكبر، من الفضاء، وهو يرى سوريا بجبالها وسهولها. وشاعت أغنية "الكمساري" اليمني علي عبد الله صالح للثورة غير الملحنّة: فاتكم القطار فاتكم القطار، فسقط رحمه الله تحت أغنيته الحديدية.

وكنت شديد الإعجاب بتعبير جمال حمدان "الدولة العميقة" ولي نية كتاب مقال عن الشعب العميق، وذكر الإسرائيلي موشيه ساسون في مذكراته "سبع سنوات في مصر"، أنه قال لأنيس منصور إنه يتعجب من معاداة المصريين للصهيونية، فقد صُنعت في مصر! برهان ذلك أنَّ موسى (عليه السلام وهذه من عندي وليس من عند موشيه) رُبيَّ في بيت فرعون، فغضب أنيس منصور وركبه شيطان كما يقول: لا تذكر هذا الكلام مرة ثانية، فلكل مقام مقال.

وقد تكرر كثيرا تعبير روسي وهو طمع روسيا في "المياه الدافئة"، وهو تعبير لبطرس الأكبر، قاله عنده موته موصيا بالاستحمام فيها، وقد أمسى لروسيا ميناء سوري تستحم سفنها فيه. ولحافظ الأسد بلاغة شهيرة هي قوله: إنَّ خلافنا مع تركيا خلاف حدود، أما خلافنا مع إسرائيل فهو خلاف وجود، وقد كذّب، وكان كذّابا أشر، على بلاغة القول وتناغم قافيتيه.

وبرز معلق سياسي سوري إبّان انتقال وراثة الجمهورية من الأسد الأب إلى الابن بسلاسة، قوله إنَّ الماكنة السياسية السورية تعمل. واختفى صاحب الجملة فيما بعد وتعطلت الماكنة، وخسرنا رؤية صلعته الجميلة، وكان المعلق مهندسا ميكانيكيا التحق بالعلوم السياسية! لقد اختفى مثل علي عبد الله صالح تحت أغنية القطار الحديدية، أو مضغته مكنة العولمة.

أما أشعر الرؤساء العرب عند كاتب السطور: فهو الشاعر الرئيس، بلحة البر والبحر، "كيكي وكيكي"، فأقواله كلها بلاغات، خذ مثال قوله في يوم المرأة: الرجالة زعلانين جدا، وخذ قصيدته التي يضرب فيها الأمثال:

"يا (إما) قناية مية وممكن نعيش، ولو سيبناها مش تبقى قناية، تبقى بحر، ومش ممكن نعيش.. مش ممكن إيه؟ نعيش"..

كانت إحدى أمنيات الرئيس الأمريكي كينيدي، الذي اشتهر بحبّه للكنايات والشعر، أمله في مستقبل زاهر، وشرطه عنده: "أن يجيد الساسة الشعر وأن يجيد الشعراء السياسة".

ونختم هذا المقال، بقولتهم الشعرية: إن نتنياهو قد صعد على الشجرة عاليا، يقول المثل الشعبي: ما في شجرة عِليَت علينا إلا وصارت حَطَب.

twitter.com/OmarImaromar
التعليقات (0)