تقارير

ما هي انعكاسات جرائم العدوان ضد غزة على السردية الإسرائيلية في الغرب؟

مشاهد أشلاء الأطفال والنساء المقطعة، وصور التدمير الجنوني الذي طال البيوت والمجمعات السكنية، ودور العبادة والمستشفيات ومراكز إيواء النازحين أثرت على الرواية الإسرائيلية في العالم..
مشاهد أشلاء الأطفال والنساء المقطعة، وصور التدمير الجنوني الذي طال البيوت والمجمعات السكنية، ودور العبادة والمستشفيات ومراكز إيواء النازحين أثرت على الرواية الإسرائيلية في العالم..
أثارت مشاهد العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة، وصور المجازر اليومية التي تقترفها قوات الاحتلال الإسرائيلي هناك، بدمويتها ووحشيتها وتدميرها المرعب، موجة احتجاجات واسعة في أمريكا وبريطانيا ودول أوروبية عديدة، للتنديد بالعدوان والمطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار.

مشاهد أشلاء الأطفال والنساء المقطعة، وصور التدمير الجنوني الذي طال البيوت والمجمعات السكنية، ودور العبادة والمستشفيات ومراكز إيواء النازحين، وممارسات جيش الاحتلال في امتهان الإنسان الفلسطيني وإهدار كرامته، حركت مشاعر السخط والاستنكار والشجب لدى نشطاء كثيرين في أمريكا وأوروبا.

ووفقا لمراقبين فإن تلك المشاهد والصور والممارسات أثرت على صورة إسرائيل في الغرب، وانعكست انعكاسا سلبيا على روايتها للصراع، ما دفع الكثيرين ممن شاهدوها في العالم الغربي لتقصي الحقائق ومعرفة خلفيات ما يجري، ومحاولة فهم أسباب ودوافع إسرائيل في ارتكاب المجازر اليومية في قطاع غزة.

السردية الإسرائيلية التي تم ترويجها في الغرب صورت ما يجري على أنه صراع بين (دولة) إسرائيل المتحضرة، التي تمثل واحة الديمقراطية في المنطقة، وبين مجموعات ومنظمات من الإرهابيين والمخربين، الذين لا يعترفون بحقها في الوجود، ويهددون أمنها واستقرارها، ويعتدون عليها وعلى مواطنيها، ويسعون لإزالتها والقضاء عليها.

وفي ظل شيوع الرواية الإسرائيلية ورسوخها في المجتمعات الغربية، فإن أي خطاب أو تصريح يخرج عن تلك السردية تتم مهاجمته بشدة، تماما كما حدث مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بعد كلمته التي ألقاها أمام جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي لبحث الوضع في الشرق الأوسط، والتي قال فيها "من المهم أن ندرك أن هجمات حماس لم تحدث من فراغ، وأن هذه الهجمات لا تبرر لإسرائيل القتل الجماعي الذي تشهده غزة".

أثارت تصريحات غوتيريش التي قُرئت إسرائيليا على أنها خروج عن السردية الإسرائيلية المندوب الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة جلعاد إردان، الذي هاجم الأمين العام بالقول "لقد فقدت بوصلتك الأخلاقية، ولا يمكنك أن تظل أمينا عاما، ولو لدقيقة أخرى"، كما رفض وزير خارجية إسرائيل، إيلي كوهين لقاءه بعد تصريحاته آنفة الذكر.

إن تواصل المظاهرات والاحتجاجات في العديد من المدن الأمريكية، والعواصم والمدن الغربية، المنددة بالعدوان الإسرائيلي على غزة، يفتح باب التساؤل حول دوافع تلك الاحتجاجات، وتفاعلات تعاطفها مع أهل غزة، ومطالبتها بوقف فوري لإطلاق النار، ومدى تأثرها بالرواية الفلسطينية، وتراجع السردية الإسرائيلية في ظل تداعيات العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة.

في رصده لأسباب ودوافع التعاطف الشعبي الأمريكي والأوروبي مع الرواية الفلسطينية ذكر الباحث في مركز الجزيرة للدراسات، الدكتور شفيق شقير عدة أسباب من أبرزها وأهمها "شراسة العدوان الإسرائيلي، وعنفه الشديد، والذي بدا لاحقا تطهيرا عرقيا، وتهجيرا قسريا، واحتلالا عسكريا لغزة في القرن الواحد والعشرين".


                                         شفيق شقير.. باحث في مركز الجزيرة للدراسات

وأضاف: "أما السبب الثاني فيرجع إلى تاريخية القضية الفلسطينية، إذ تمتد مظلوميتها إلى سبعين سنة، وباتت معظم المنظمات غير الرسمية والحقوقية وسواها تعرف عدالة هذه القضية، وكذلك الناشطون، حتى باتت معظم المجتمعات الغربية ـ بصفة نسبية ـ أقرب إلى الرواية الفلسطينية مع مرور الوقت، وجاء هذا العنف الإسرائيلي غير المسبوق ليعزز الانحياز الشعبي للرواية الفلسطينية بتفاعل أوسع وأشد".

وتابع: "ولا ينبغي هنا إغفال الدور الهام الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، في تعزير الرواية الفلسطينية، بما تحظى به تلك الوسائل من حضور وتأثير وهيمنة، ومزاحمتها في الوقت نفسه لوسائل الإعلام الغربية التقليدية المنحازة دائما للرواية الإسرائيلية، وقد ساهمت بشكل فعال في فضح السلوك الإسرائيلي الدموي، ووثقت عدوانه الغاشم، ونقلت جرائمه على الهواء مباشرة".

ولاحظ شقير في حديثه لـ"عربي21" أن مشاهد وصور العدوان الإسرائيلي على غزة، أثرّت تأثيرا كبيرا على صورة إسرائيل التي كانت تقدم نفسها على أنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، لكنها وبممارستها للعنف الشديد في عدوانها الأخير على غزة، اهتزت صورتها تلك بعد أن بات نقل ما ترتكبه من مجازر دموية، وقتل جماعي أمرا ميسورا بواسطة عدسات الهواتف النقالة المنتشرة في كل مكان، والأقرب للحدث".

وردا على السؤال الذي بات يتردد مؤخرا لماذا لم تستطع المظاهرات والاحتجاجات الشعبية، غير المسبوقة في الغرب، المتعاطفة مع غزة اختراق جدران السياسة الغربية، والتأثير على مواقفها المنحازة دائما لإسرائيل، أرجع شقير ذلك إلى كون "إسرائيل صنيعة الغرب لتحقيق مصالحه، حتى باتت إسرائيل اليوم بذاتها رواية غربية، وقبل أن يكون لإسرائيل نفسها رواية ضد الفلسطينيين وضد العرب، وضد الإنسانية ومعاييرها الأخلاقية".

وأكمل إجابته بالقول: "وعد بلفور المرتبط بنشأة إسرائيل منذ عام 1917 كان طموحا غربيا لتمركز الغرب في المنطقة، وبعد مرحلة استقلال دول المنطقة عن الغرب، لم يتبق له إلا إسرائيل فازداد تمسكا بها وبروايتها، لتستمر ويستمر نفوذه وتمركزه معها، لذلك لا زالت إسرائيل بهذا المعنى تمثل مصالح الغرب بالمنطقة أكثر مما تمثل نفسها بالنسبة إليه".

وأردف: "لهذا مهما تغيرت آراء الجمهور في الغرب، لا سيما الشباب فإن الطبقة السياسية الحاكمة، ـ وقد يكون التوصيف هنا ليس دقيقا، لكن يوصل المراد ـ والأنتلجنسيا الثقافية ـ إذا جاز وصفها بذلك، يتمسكان بشدة أكثر من قبل بإسرائيل وبروايتها، لكن في المقابل فإن طوفان الأقصى أثبت أن هناك إمكانية لاختمار متكون آخر على صعيد الرواية الفلسطينية في الغرب، وربما تصبح تداعيات الحرب الحالية على غزة إحدى العلامات التاريخية المهمة الدالة عليها، بصرف النظر عما ستؤول عنه الحرب".

من جهته أعدّ الباحث والأكاديمي، وأستاذ العلوم السياسية في جامعة اليرموك الأردنية سابقا، الدكتور وليد عبد الحي ورقة علمية بعنوان "تحولات الرأي العام الدولي وطوفان الأقصى" خاص بمركز الزيتونة، رصد فيها "مدى التحول في موقف الرأي العام الدولي بعد عملية (طوفان الأقصى) التي بدأت يوم 7/10/2023، وما تزال متواصلة حتى الآن".


وليد عبد الحي، باحث وأستاذ العلوم السياسية سابقا في جامعة اليرموك الأردنية

وكان من أبرز التداعيات المستقبلية للنتائج التي خلص إليها في دراسته التنبيه إلى أن "الاتجاه الأكبر في الصحافة الغربية وغير الغربية يشير إلى أن إسرائيل خسرت معركة الحرب الإعلامية في معركة طوفان الأقصى، بل إن أغلب تقارير المنظمات الدولية، أو ما تنقله وسائل الإعلام المختلفة بدأت تأخذ الروايات الإسرائيلية بقدر كبير من التشكك، خصوصا موضوعات المستشفيات وتبرير قتل المدنيين من الأطفال والنساء".

وتابع: "إن الصورة (الإرهابية) التي تقدمها إسرائيل للعرب أصبحت أقل قابلية للتصديق مع الارتفاع المتواصل في عدد الضحايا المدنيين من الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، وهو ما يعني أن إسرائيل ستواجه في كل مرة تحاول تقديم نفسها بشكل إيجابي أو تقارن الطرف الفلسطيني بجهات متطرفة بالتشكك في رواياتها، في ظل الصورة الحالية للسلوك الإسرائيلي في غزة والتي أصبحت مرجعية في ذهن المتلقي".

ولفت عبد الحي في خلاصاته البحثية إلى أن "عودة أي مسؤول إسرائيلي للحديث عن الهولوكوست (Holocaust)، أو معاداة السامية سيتم تذكيره بما فعلته حكومته في غزة، وهو ما سيجعل إسرائيل أقل ميلا لتكرار الحديث عن الهولوكوست لأنها مارست الممارسة نفسها، أي أن هذه الفكرة (الهولوكوست) لم تعد مجدية بالقدر الذي كانت عليه سابقا، وهو ما بدأ الإعلام الغربي يشير إليه".

بدوره قال أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية بروكسل ـ غرب إفريقيا، الدكتور عاطف حماد "ليس جديدا على الشعوب الأوروبية تضامنها مع قضايا الحق والحرية، وهذا ما لمسته خلال معايشتي للمجتمع الأوروبي لأكثر من 25 سنة، وقد عشنا ذلك في إيطاليا تحديدا عام 2003 ضد الحرب على العراق، فقد كانوا يسبقوننا لأخذ التصاريح للمظاهرات".


      عاطف حماد، أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية بروكسل ـ غرب أفريقيا

وأردف: "وكذلك كانوا في قوافل الحرية 1 و2 إلى فلسطين لفك الحصار، وكان على متن سفينة مرمرة صحفيون إيطاليون، فهم إذا اتضحت لهم الصورة يتبنون مواقف إيجابية، فليس عند العرب ما ينافقونهم من أجله، ولا عند أنظمة بلادهم ما يجعلهم يرهبونهم، إذ إن حق التعبير مكفول للجميع، وكذلك الاعتراض على مواقف الحكومات المرتبطة بالنظام العالمي".

وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول "فمن الطبيعي أن يقفوا مع العزل من أبناء فلسطين في غزة" مضيفا "لم يعد هناك إعلام موحد ينقل للناس ما تريده الأنظمة، فعامة الناس يرون ويشاهدون ما يحدث في غزة مما تنشره وسائل الإعلام المختلفة على مدار الساعة، ولم يعد للإعلام الغربي مصداقية عند الكثيرين لأنه يعيش حالة من البلبلة، فهو يقول الرأي ثم يعدل عنه".

وعن تأثير الاحتجاجات الشعبية الواسعة على مواقف الساسة في الغرب، رأى حماد أنها بالفعل "ستشكل تغيرا في مواقف كثير من الساسة على المدى البعيد، وقد رأينا تحولا واضحا في السياسة الفرنسية، كما تحدى الساسة في بلجيكا وإسبانيا الولايات المتحدة الأمريكية، وإن كان على استحياء".

ولفت حماد الانتباه في ختام كلامه إلى "وجود تغير في الرأي والمواقف، والدور الآن على الجاليات الإسلامية والعربية لتوضيح الصورة، واحتواء هؤلاء الساسة في مشاريع لدعم قضايا الحرية في العالم العربي والإسلامي".
التعليقات (0)