كتاب عربي 21

حول مونديال كان وآخر سيكون

جعفر عباس
مضت وقائع المونديال القطري بسلاسة مذهلة، وشيئا فشيئا تحول العواء إلى غناء، والنباح إلى أفراح.. (الأناضول)
مضت وقائع المونديال القطري بسلاسة مذهلة، وشيئا فشيئا تحول العواء إلى غناء، والنباح إلى أفراح.. (الأناضول)
شهد يوم الخميس الموافق 26 تشرين أول/ أكتوبر أمطارا غزيرة، وغير مسبوقة في قطر، جاءت بمصاحبة رعود راعدة وبروق خاطفة فارتوت الأرض، وظل فائض الماء يجري يمينا ويسارا، حتى تمكنت شبكة المجاري من شفطه بعد سويعات، انسابت بعدها حركة مرور السيارات في سلاسة تشهد بكفاءة التحسينات والتوسعات التي شهدتها الطرق والجسور والأنفاق في العاصمة (الدوحة الكبرى)، وأثار كل ذلك شجون مونديال 2022، وما سبقه من عويل إعلامي، منشأ معظمه غربي وبعضه عربي، لإسناد تلك البطولة لدولة قيل إنه لا خبرة ولا طاقة لها لمثل تلك الفعاليات (قطر)، ثم لأن تلك الدولة حسب زعمهم "أهدرت" عشرات المليارات لتؤهل نفسها للاستضافة.

وكل من زار قطر خلال المونديال أو بعده يستطيع أن يرى تلك المليارات مرصوصة فوق بعضها البعض أينما وجّه بصره، لأنها عماد مشاريع بنى تحتية يراد لها أن تستوعب التوسع العمراني والحضري والتزايد البشري لعشرات السنين، وما لم يكن يدركه من ذرفوا دموع التماسيح، لإيكال أمر المونديال لـ "بلد بلا خبرة في هذا المضمار"، هو أن شهية قطر لتكون بلد استضافة ذلك الحدث الكروي الكبير، انفتحت بعد أن نجحت دورة الألعاب الآسيوية الخامسة عشر في الشهر الأخير من عام 2006، وقبلها أيضا ارتفع عويل بأن قطر "أهدرت الملايين" بإنشاء قرية أولمبية في سياق استضافة الدورة، فإذا بتلك القرية تتحول إلى قرية طبية تستضيف عدة مستشفيات متخصصة، واتضح أن تشييد القرية الأولمبية قبالة مستشفى حمد المركزي في الدوحة، وتصميم مبانيها وغرفها، كان مخططا له أن يحيل القرية من رياضية إلى طبية.

كل من زار قطر خلال المونديال أو بعده يستطيع أن يرى تلك المليارات مرصوصة فوق بعضها البعض أينما وجّه بصره، لأنها عماد مشاريع بنى تحتية يراد لها أن تستوعب التوسع العمراني والحضري والتزايد البشري لعشرات السنين،
بدأ الأمريكان في الترويج المكثف للنسخة الثالثة والعشرين لبطولة كأس العالم لكرة القدم، والتي ستدور وقائعها في حزيران/ يونيو- تموز/ يوليو من عام 2026، في ثلاث دول، هي الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، موزعة على ملاعب مدن سياتل، وسان فرانسيسكو، وميامي، وبوسطن في الولايات المتحدة؛ وفانكوفر، وتورنتو في كندا؛ ومونتيري، وغوادالخارا في المكسيك؛ وقد تعاقدت اللجنة المنظمة للمونديال الموزع على ثلاث دول سلفا مع شركات البيرة وعرق التاكيلا المكسيكي، ومن يعش سيرى كيف أن جريان المسكرات أنهارا، ومواكب الشواذ جنسيا تهدر طوفانا، سيؤدي إلى مونديال أمريكاني ـ شمالي ينال استحسان الإعلام الغربي، الذي كان كالثعلب الذي عجز عن الوصول إلى عنقود العنب فرماه بالحموضة، ولم يجد مطعنا في تنظيم قطر لمونديال 2022، فعاب عليها تحريم المسكرات.

قبل بداية وقائع بطولة النسخة القطرية من كأس العالم لكرة القدم نبح الإعلام الغربي وعوى زاعما أن تذاكر مباريات البطولة لم تجد من يشتريها، فاضطرت قطر لاستضافة عشرات الآلاف في فنادقها، وتحملت نفقات تذاكر حضورهم المباريات، وأنها حشدت العمال الآسيويين قسرا في الساحات لإعطاء الانطباع بأن المونديال اجتذب أعدادا هائلة من البشر.

ومضت وقائع المونديال القطري بسلاسة مذهلة، وشيئا فشيئا تحول العواء إلى غناء، والنباح إلى أفراح، فأمام بهاء المشهد العام الفرائحي، لم يكن أمام الإعلامي الغربي الشامت من قبل إلا أن يغني للدوحة معزوفة الدرويش المتجول للشاعر محمد الفيتوري:

في حضرة من أهوى / عبثت بي الأشواق/ حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق/ وزحمت براياتي وطبولي الآفاق/ عشقي يفني عشقي وفنائي استغراق.

قلت في مقال لي هنا في عربي21 في تزامن من مونديال قطر أنني سعدت بكوني شاهدا "شاف كل حاجة" قبل وخلال مونديال قطر، وأنني أحس بأعراض الانسحاب التي يعاني منها من تنقطع عنهم مواد معينة دأبوا على استخدامها أو تعاطيها، فأن تعيش طوال شهر كامل وعلى مدار الساعة في أجواء تعج بالأضواء والبشاشة والموسيقى، وكأنك تعيش في حلم لا تريد له نهاية، ثم يعقب ذلك سكون وتعود الحياة إلى رتابتها المعتادة، أمر يسبب بعض الضيق، فقد كانت شوارع وساحات الدوحة الكبرى وعلى مدى شهر كامل تموج بشلالات من الوجوه الباسمة، وكان البشر باديا على وجوه آلاف النساء القادمات من وراء البحار، وهن يتجولن في الأماكن العامة حتى ساعات الصباح الأولى دون خوف من تحرش أو عدوان، بل إن وحوش الملاعب الأوروبية الذين ياما حولوا ملاعب الكرة ومحيطها خلال مونديالات سابقة إلى سوح معارك، حلت بهم سكينة فلم تعرف مضامير المباريات ولا خارجها حوادث العنف الأهوج التي اعتاد عليها أولئك.

كان من بين المقولات التي رددتها الثعالب التي فشلت في أن "تطول العنب"، إن قطر أنفقت قرابة مائة مليار دولار على المونديال، والرقم صحيح أو قريب من الصحة، ولكن وكما قلت أعلاه، بالإمكان رؤية تلك المليارات شامخة وباسقة بالعين المجردة اليوم ولعقود مقبلة، لأنها موزعة على شبكة ضخمة من مشاريع البني التحتية: طرق وجسور وأنفاق وشوارع مستقيمة وافعوانية تبدو للرائي من عَلٍ كأنها نوتة موسيقية محكمة التوزيع.

وفي المقابل فإن وسائل الإعلام الأمريكية بدأت في الصياح والتحذير من ان كارتيلات المخدرات في كولمبيا، بدأت تصب مئات الآلاف من الأطنان من الهيروين والكوكايين على المكسيك، لتتولى عصاباتها رفع كفاءة شبكات التهريب والتوزيع داخل الأراضي الأمريكية، حتى يكون هناك مخزون استراتيجي من المخدرات لجماهير مونديال 2026، بينما التعويل في توزيع المخدرات في كندا تتولاه المافيا، وملائكة الجحيم Hells Angels، وعصابة الطرف الغربي West End Gang وجميعها بدأت في النشاط العلني في مونتريال في مقاطعة كيبيك.

ومن يعش سيرى العجب العجاب في المونديال الأمريكي الشمالي.
التعليقات (2)