قضايا وآراء

الأقصى ومنع الترميم: تفريغ ما تبقى من دور الأوقاف

زياد ابحيص
الأناضول
الأناضول
في يوم 2 تموز/ يوليو 2023، وفي أول يوم عملٍ بعد انقضاء عيد الأضحى المبارك، ضجت المواقع والشبكات المتابعة لأخبار القدس بقرار قوات الاحتلال بمنع موظفي لجنة الإعمار في المسجد الأقصى المبارك من العمل، موضحة أن رفع هذا المنع مشروط بإغلاق مصلى باب الرحمة، في ابتزازٍ علني للهيئة الإسلامية التي يفترض أن تكون المخولة حصراً بكل شؤون المسجد الأقصى المبارك. واليوم إذ مضى أكثر من شهر على هذا المنع فلا بد من الوقوف عند هذا المنع وموقعه في السلسلة المتدرجة لإنهاء دور الأوقاف في إعمار المسجد الأقصى المبارك، أو جره لأن يصبح بالقوة تحت وصاية بلدية الاحتلال وسلطة آثاره.

ورغم أن العنوان الأبرز الذي علق في الأذهان هو أن المسجد الأقصى بلا إعمار لمدة شهرٍ من الزمن؛ إلا أن الواقع على الأرض أخطر من ذلك بكثير، فالمسجد الأقصى بلا أي مشروع إعمار جديد منذ ثلاثة عشر عاماً، وبلا صيانة تقريباً منذ أربع سنوات، أما المنع الحالي فهو منع لموظفي لجنة الأوقاف من القيام بأي عمل في مشاغلهم ومراسمهم من الأساس، وهو الحلقة الثالثة في التجريف الإجمالي لدور الأوقاف الأردنية في القدس في مجال الإعمار، وهي سياسة تستهدف من خلالها سلطات الاحتلال استحداث ثغرات في المسجد تجعلها هي الطرف المخول بأعمال الإعمار مباشرة، كما سبق أن فعلت في السور الجنوبي الغربي للمسجد الأقصى عام 2019، والذي تحتكر إعماره حتى الآن دون مشاركة أو حتى اطلاع من الأوقاف الأردنية على طبيعة الأعمال التي تجريها هناك.

وهذا التدرج في تجريف دور الأوقاف الأردنية في إعمار المسجد الأقصى المبارك وثق تدرجه عبر السنين تقرير "عين على الأقصى" الصادر عن مؤسسة القدس الدولية؛ يمكن إدراكه عبر المحطات الثلاث الآتية:

الواقع على الأرض أخطر من ذلك بكثير، فالمسجد الأقصى بلا أي مشروع إعمار جديد منذ ثلاثة عشر عاماً، وبلا صيانة تقريباً منذ أربع سنوات، أما المنع الحالي فهو منع لموظفي لجنة الأوقاف من القيام بأي عمل في مشاغلهم ومراسمهم من الأساس، وهو الحلقة الثالثة في التجريف الإجمالي لدور الأوقاف الأردنية في القدس في مجال الإعمار، وهي سياسة تستهدف من خلالها سلطات الاحتلال استحداث ثغرات في المسجد تجعلها هي الطرف المخول بأعمال الإعمار مباشرة

المحطة الأولى: في 4 آب/ أغسطس 2010 ناقشت لجنة الرقابة في كنيست الاحتلال تقريراً قدمه "مراقب عام الدولة" في حينه ميكا لندنستراوس حول "فرض السياسة الإسرائيلية في جبل الهيكل"، وقد قال التقرير بالنص: "إن الأعمال التي نفذتها الأوقاف الإسلامية في إسطبلات سليمان تمت دون تنسيق مع السلطات المعنية بتطبيق القانون في جبل الهيكل، ودون الحصوص على الموافقات والتراخيص اللازمة.. وإن استخدام المعدات الميكانيكية خلال بعض مراحل العمل دمر وبكل أسف بعض الأدلة الآثارية"، في إشارة إلى عملية الإعمار الواسعة للمصلى المرواني عام 1995 ثم فتح البوابات الكبيرة المفضية إليه في 1999.

بناء على هذه المناقشة فقد تبنى الكنيست توصيات تقرير مراقب عام الدولة، ومن بينها إلزام الأوقاف الأردنية بتقديم مخططات الترميم وطلب الموافقات عليها من بلدية الاحتلال وسلطة الآثار الصهيونية، وهو ما رفضته في حينه الأوقاف الأردنية لكونه يشكل اعترافاً بسيادة الاحتلال على المسجد الأقصى المبارك. انطلاقاً من ذلك التاريخ فقد استطاعت الأوقاف استكمال المشروعات القائمة أساساً، أو تلك التي كانت مخططاتها مستكملة ومحالة للتنفيذ، لكنها لم تتمكن من بدء أي مشروع ترميم جديد في المسجد الأقصى المبارك منذ ذلك التاريخ، أي منذ ثلاثة عشر عاماً كاملة، واستمرت محاولات تعطيل تلك الأعمال واعتقال القائمين عليها باعتبارها أعمال صيانة لم تحصل على موافقة سلطات الاحتلال.

المحطة الثانية: ويمكن التأريخ لها من بعد هبة باب الأسباط التي انتهت إلى تفكيك البوابات الإليكترونية وفتح الأقصى بشروط الجماهير في 27 تموز/ يوليو 2017، فشكلت عقدة مركزية في فشل الاحتلال بفرض إرادته على المسجد الأقصى المبارك في مواجهة الإرادة الشعبية التي تحميه.

وقد بدأ الاحتلال بعدها باعتقال رئيس لجنة الإعمار ومهندسيها بشكل متكرر عند كل تطور في مشروع الإعمار الداخلي لقبة الصخرة، وقد تعززت تلك العقدة مع فتح مصلى باب الرحمة بالإرادة الشعبية في 22 شباط/ فبراير 2019، وهو الذي كان مغلقاً تحت وطأة قرار من محاكم الاحتلال يجدد منذ شهر كانون الثاني/ يناير 2003، فبات هذا المصلى عنوان معركة السيادة والقرار في الأقصى من جهة، وعنوان فشل المحاولة الثانية للتقسيم المكاني على التوالي، بعد أن أفشل الرباط المنظم طويل النفس محاولة القضم الأولى للساحة الجنوبية الغربية للمسجد الأقصى المبارك.

هذا الضغط ستوظفه سلطات الاحتلال في اتجاهات عديدة، فهذا الدور الذي ستتمسك به إدارة الأوقاف ولن تقبل التخلي عنه بسهولة؛ يمكن أن يؤدي التضييق عليه إلى جرها نحو التكيف الذي تريده سلطات الاحتلال

تطور التعطيل ليشمل أعمال الصيانة، ففي 7 تشرين الثاني/ يناير 2018 أوقفت سلطات الاحتلال أعمال صيانة الممر المفضي إلى مصلى باب الرحمة من جهة الجنوب، ومنعت استبدال بلاطاته التالفة لمدة خمس سنوات، حتى تمكن المرابطون من استبدالها وترميم الممر وجواره بمبادرة شعبية في رمضان الفائت في شهر أيار/ مايو 2023، بل وصل الأمر إلى حد اعتقال رئيس لجنة الإعمار وثلاثة من مهندسيها لأنهم استبدلوا بلاطة كسرت عند باب القطانين في 13 حزيران/ يونيو 2019، فباتت يد لجنة الإعمار مكبلة عن تصليح أي ضرر أو تلف يحصل في المباني المسجد وتجهيزاته؛ وهو الشيء الذي كبّل يدها شهوراً طويلة عن استبدال نظام الصوتيات الذي أتلفته قوات الاحتلال العام الماضي في 15 نيسان/ أبريل 2022، واضطرها لأن تعود لاستخدام القطع القديمة التي كانت قد أخرجت من الخدمة كحل مؤقت.

المحطة الثالثة: هي تلك التي افتتحها قرار منع مهندسي لجنة الإعمار من الالتحاق بمشاغلهم بدءاً من 2 تموز/ يوليو 2023، بحيث لم يعودوا قادرين حتى على إنتاج النوافذ الجصية والقطع الخشبية ومستلزمات ترميم الفسيفساء، فضلاً عن تركيبها، وهو ما يعني عملياً شطب عنوان الصيانة والإعمار من دور الأوقاف الأردنية في الأقصى، ليستكمل تفريغ ما تبقى لها من دور أمام التغول الصهيوني المتصاعد الذي يتطلع إلى إلغاء أي إدارة إسلامية للمسجد بصفته مقدساً للمسلمين.

هذا الضغط ستوظفه سلطات الاحتلال في اتجاهات عديدة، فهذا الدور الذي ستتمسك به إدارة الأوقاف ولن تقبل التخلي عنه بسهولة؛ يمكن أن يؤدي التضييق عليه إلى جرها نحو التكيف الذي تريده سلطات الاحتلال، مثل أن تبدأ بإحالة أعمال الإعمار في الأقصى لمقاولين خارجيين، وأن تكلف هؤلاء المقاولين بأن يتحصلوا هم على موافقات بلدية الاحتلال وسلطة الآثار الصهيونية، وبذلك تنجح سلطات الاحتلال بوضع أعمال الترميم والصيانة في الأقصى تحت وصايتها المباشرة، وهو ما ينبغي الحذر كل الحذر من الانجرار إليه.
التعليقات (0)