قضايا وآراء

ثورة الضواحي في فرنسا

امحمد مالكي
تعاملت الشرطة بعنف مع المحتجين- جيتي
تعاملت الشرطة بعنف مع المحتجين- جيتي
فتح حادثُ مقتل الفتى "نائل المرزوقي"، الجزائري الأصل والفرنسي الجنسية، الطريق أمام اشتعال الغضب، وتصاعد موجة العنف والعنف المضاد، وانخراط أكبر الحواضر الفرنسية ومدنها في حركة التمرد التي جرفت كل ما وجد نشطاؤها أمامهم من واجهات متاجر، ومركبات، ومحلات للبيع والشراء، ودور الترفيه والرياضة، والقائمة طويلة من المنشآت التي طالتها أيادي المتظاهرين والمتمردين.

فبقدر ما شكل قتل الفتى الذي لم يتجاوز سبعة عشر عاما برصاص الشرطة؛ ألما وحزنا في نفوس المتظاهرين، وتعاطفا مع أهله، وأمه المكلومة تحديدا، بالقدر نفسه، ذهبت تعليقات وتحليلات عديدة، ذات علاقة بما يجري في فرنسا منذ مقتل "نائل المرزوقي"، أي السابع والعشرين من حزيران/ يونيو الماضي، بأن الحدث مجرد حلقة في سلسلة حلقات سنوات الغضب التي شهدتها وتشهدها فرنسا منذ العهدة الأولى لتولي "ماكرون" رئاسة الجمهورية الخامسة (2017).

عبّرت الأحداث الجارية في فرنسا عن استمرار مصادر الأزمة العميقة التي اخترقت النسيج العام للمجتمع الفرنسي، والتي لم تستطع السياسات المُبتكرة من قبل الرئيس ماكرون وفريق حكومته، من معالجتها، وخلق مناخ ثقة بين المعترضين عليها والمتظاهرين ضدها. ولأن الاستعصاء لازَم ولايتي الرئيس ماكرون، فقد ترسخ وعي واسع بأن فرنسا تعيش شروخا اجتماعية، وأن روح العيش المشترك التي بناها الفرنسيون على امتداد قرون من تاريخهم، بدأت تهتز، ويضعف تماسكها، وأن الخطر قادم من حصول قطيعة حقيقية بين الدولة بمؤسساتها، والمجتمع بروافده ومكوناته المتنوعة والمتعددة.

ثم إن قيم الديمقراطية والحرية، والتسامح، وحقوق الإنسان، التي بُنيت بالتدريج، وتمّ توطينها في الثقافة الجمعية على مدار زمن طويل، قد تتعرض للإضعاف والتبديد والتراجع غير منظور العواقب. لذلك، كثرت الأدبيات الساعية إلى فهم ما يجري في فرنسا وفي أبنيتها العميقة، وقد وُظفت مفاهيم ومصطلحات لتأطير مسالك فهم ما يحصل في فرنسا، من قبيل: مفهوم الأزمة، ومصطلح الانكسار، وما يتشابه معهما من تسميات ونعوت.

أرجع عدد من الفرنسيين مصادر تقديرهم لما يجري في بلادهم إلى خطابات الكراهية، و"الإسلاموفوبيا" التي روّجها اليمين الفرنسي بكل أطيافه خلال حملاته الانتخابية، لا سيما بالنسبة لموضوعي الهجرة والإسلام. والحال أن ما تعيشه فرنسا من انكسارات عبرت عنها التظاهرات الكبيرة والمتكررة، يحتاج إلى قدر كبير من الرصانة والموضوعية في التقدير والتحليل واستخلاص النتائج

لا شك أن السلطات الفرنسية ذات الصلة بما يجري من أحداث داخل الحواضر والمدن الكبرى تُدرك جيدا حجم الخسائر التي تعرضت لها البلاد، كما أنها قادرة على جرد حصيلة ما ألمّ بالمؤسسات الاقتصادية والتجارية العامة والخاصة، وتعي الطبقة السياسية الفرنسية ونُخبتها الحاكمة خطورة ما تتعرض له قيم الديمقراطية، والحرية وحقوق الإنسان، التي صدعت صورة فرنسا في العالم الديمقراطي الحر. ومع ذلك، أجمعت مؤسسة الرئاسة وفريقها الحكومي على أن ما يحصل في فرنسا من فعل "شباب طائش"، يميل إلى التخريب والسلبية، ضعيف الولاء للوطن، وغير قادر على امتلاك روح الإيجابية في التعامل مع القضايا والمشاكل المحدقة به.

وقد أرجع عدد من الفرنسيين مصادر تقديرهم لما يجري في بلادهم إلى خطابات الكراهية، و"الإسلاموفوبيا" التي روّجها اليمين الفرنسي بكل أطيافه خلال حملاته الانتخابية، لا سيما بالنسبة لموضوعي الهجرة والإسلام. والحال أن ما تعيشه فرنسا من انكسارات عبرت عنها التظاهرات الكبيرة والمتكررة، يحتاج إلى قدر كبير من الرصانة والموضوعية في التقدير والتحليل واستخلاص النتائج، بُغية صناعة السياسات الكفيلة بتقديم علاجات وبدائل ناجعة.

ليس خافيا عن أي متابع موضوعي للشأن الفرنسي أن المجتمع الفرنسي ظل منذ عقود يعاني من اختلالات مجالية عميقة بين جهاته وحواضره ومدنه الكبرى، وبداخل أطراف المدينة الواحدة بين الوسط والضواحي. وتعرف وزارات الداخلية وأقسامها أن أزمة ضواحي مدن فرنسا ظلت باستمرار من أعقد المشاكل المهددة للأمن والاستقرار، ومن الأسباب المسؤولة عن عدم نجاعة سياسات المدينة في فرنسا. ومن يقوم بزيارة ميدانية لضواحي مدن مثل باريس ومرسيليا وليون وغيرها يقف بجلاء على مسببات أزمة الضواحي، بل لا يحتاج إلى برهان للاقتناع بأن واقع الهشاشة بكل أشكالها، في السكن والصحة والتعليم والنقل، والبطالة، والاكتظاظ السكاني، هي المسؤولة عن الشعور المتحكم في سكان الضواحي، ووعيهم المتزايد بأن مؤسسات دولتهم لا توفر لهم ما هو متاح لأقرانهم من الفرنسيين الذين يقتسمون وإياهم قيم الجمهورية وحقوقها وحرياتها.

المجتمع الفرنسي ظل منذ عقود يعاني من اختلالات مجالية عميقة بين جهاته وحواضره ومدنه الكبرى، وبداخل أطراف المدينة الواحدة بين الوسط والضواحي. وتعرف وزارات الداخلية وأقسامها أن أزمة ضواحي مدن فرنسا ظلت باستمرار من أعقد المشاكل المهددة للأمن والاستقرار، ومن الأسباب المسؤولة عن عدم نجاعة سياسات المدينة في فرنسا

فعلى الرغم من التواصل المستمر للرئيس ماكرون مع الفرنسيين، إما مباشرة عبر الخطب، أو من خلال لقاءاته مع السكان في الحواضر والمدن والأرياف، لم يستطع إقناع الرأي العام بنجاعة سياساته، وسلامة قراراته، سواء في المشاريع الاجتماعية التي ركز عليها في الولاية الأولى وما انتهى من عمر الولاية الثانية، أو بالنسبة لإعادة بناء أوروبا الموحدة، التي تعد الرهان الأساس للرئاسة، أو بخصوص التوازنات المالية التي عمل على إقامتها طيلة سنوات حكمه، أو حتى بالنسبة لسياساته الدولية، في مضمار المحافظة على مكانة فرنسا في كوكبة الدول الكبرى القائدة للعالم، أو بالنسبة لمجالات بلاده التقليدية، من قبيل أفريقيا جنوب الصحراء، وبلدان المغرب الكبير.

فهكذا، مثّل الرئيس "ماكرون" أو "الماكرونية" أضعف الحلقات التي عرفتها فرنسا في تاريخ التعاقب على المؤسسة الرئاسية، والحال لا يُعرف على وجه الدقة كيف ستؤول الأمور خلال ما تبقى من هذه العُهدة الرئاسية الثانية (2022-2027).

يُشير الكثير من الباحثين والمتابعين للشأن الفرنسي إلى أن عهد الرجالات السياسية الكبرى في فرنسا قد ولّى، وأن آخر هؤلاء كان الرئيس الراحل "جاك شيراك"، وأن ما بعد هذا الرجل، سليل الديغولية، لم تعد هناك أسماء سياسية وازنة، تستعيد شرعية الرؤساء الذين تعاقبوا على السلطة خلال عقود الجمهورية الخامسة، بل يُضيف البعض أن السياسة في فرنسا دخلت زمن الموت البطيء، وربما سيكون القادم من السنوات أسوأ مما هو حاصل.. فليس غريبا أن يعبر باحث مرموق في العلوم الاجتماعية مثل "بيير روزنفالون (Pierre Rosanvalon- 1948)، في آخر تصريحاته عن حزنه العميق عما آلت إليه بلاده من أزمات ومآس وانكسارات.
التعليقات (0)