قضايا وآراء

الولايات الشرعية والواجبات العملية لتحرير المعتقلين

جمال عبد الستار
1300x600
1300x600
ينتظر البعض لتحريك قضية الأسرى والمعتقلين حلاً آنياً، أو عصا سحرية، أو "سوبرمان" خارقا، وتلك والله طفولة فكرية، وتهافت عقلي!!

الحل يكمن في أن تتعرف مكونات الأمة على واجباتها الشرعية وتنطلق منها، الحل يبدأ بالتعرف على حجم تلك الولاية، والمسؤولية الشرعية الناتجة عنها، ثم التحرك وفق هذه الولايات، وبقدر تلك المسؤوليات. وساعتها أضمن لكم - يقينا في الله - فتحاً لكل الأبواب المغلقة، وكسراً لكل الدوائر المحكمة، وأضمن للحق تأييداً وللمظلومين نصرا. فعقيدتنا في الله يقينية وليست مجرد نظريات وتطلعات، والله تعالى هو القائل في كتابه العزيز: "ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز"؛ لذا كان أول الواجبات لمن يسأل عن واجباته نحو إخوانه وأخواته: أن يضطلع بولايته الشرعية، ويتحملها اعتقاداً وأمانةً وحركةً وبذلاً.

وسأذكر بعضها اليوم لنستبصر الطريق وننطلق راشدين.

ولاية العلماء:

فقد جعل الله تعالى للعلماء ولاية على الأمة بعد الله ورسوله، وأوجب لهم بتلك الولاية طاعة شرعية تفوق الكثير من الطاعات الأخرى، حزبية كانت أو قبلية أو عرفية، أو تنظيمية أو مهنية.. أو غير ذلك. قال تعالى: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُوا۟ ٱلرَّسُولَ وَأُو۟لِی ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ" (النساء: 59).

قال الإمام الرازي رحمه الله: إنَّ أعْمالَ الأُمَراءِ والسَّلاطِينِ مَوْقُوفَةٌ عَلى فَتاوى العُلَماءِ، والعُلَماءُ في الحَقِيقَةِ أُمَراءُ الأُمَراءِ، فَكانَ حَمْلُ لَفْظِ أُولِي الأمْرِ عَلَيْهِمْ أوْلى .

وهذه ليست ولاية تشريف بل ولاية تكليف ومسؤولية: ولا أعلم مسؤولية أعظم من العمل على حماية الضرورات الخمس: حفظ الدين والنفس والمال والعرض والعقل. وقد أهدر الطغاة تلك الضرورات كلها بحق المعتقلين والمعتقلات، فأضحت المسؤولية كاملة على المنتسبين للعلم أن يتركوا التشاغل ببعض القضايا الخلافية والمماحكات التفريعية، والمناوشات التنظيرية، وأن يعلنوها بيعة لله تعالى قياماً بالواجب، وتحملا للمسؤولية. فعلى أهل العلم والمنتسبين إليه، كل في مكانه ومجاله، أن يجعلوا من قضية تحرير الأسرى مرتكزاً لعملهم، ومنهجية لحركتهم، عملا بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فُكُّوا العَانِيَ، يَعْنِي: الأَسِيرَ، وَأَطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا المَرِيضَ" (رواه البخاري).

الواجب العملي

على العلماء أن يؤسسوا منصة خاصة بتلك القضية المقدسة، لتنسيق الجهود وتفعيلها، ودراسة المسارات وإعلانها، وأن يمدوا الأمة بالآفاق العلمية، والأحكام الشرعية المتعلقة بسبل تحريرهم.

وقد غُرست بالفعل فكرة هذه المنصة وتنامت مقوماتها، وانقدحت شعلتها، وبدت معالمها ولله الفضل والمنة، ويعكفون الآن على دراسة الآفاق الشرعية لمسارات التحرير، وما يترتب عليها من أحكام، ويتأهبون للتنسيق مع كل أصحاب الولايات الشرعية للاتفاق على المسار وتوحيد الجهود.

البرلمانيون والسياسيون:

لقد ائتمنت الجماهير الأعضاء الذين اختارتهم ليكونوا وكلاء شرعيين عنها، فأضحت في رقابهم أمانة لم تنزعها الجماهير بعد. وتلك أمانة شرعية لا يُسقطها حزب، ولا يُوقفها توجه، ولا تخضع للمساومة، أو للمزاج الشخصي، فمعكم توكيل شرعي بالدفاع عنهم، والعمل على تحريرهم بصفتكم الشرعية وليس بانتمائكم الفكري، أو انتسابكم الحزبي، أو ولائكم التنظيمي. ومن أعظم تداعيات تلك الأمانة أن تعكفوا على دراسة الواقع السياسي وأن تتصدروا المشهد عملاً وحركة، وإغاثة سياسية، ورؤية ميدانية، وامتلاكاً لأوراق، وصناعة أوراق لاستثمارها في تحرير المأسورين.

واجبكم اليوم

واجبكم اليوم أن تتداعوا لاجتماع تشاوري عاجل، وورشة عمل فائقة الجودة، لتُخرجوا للأمة ورقة بالمسار الذين ترونه مناسباً للانطلاق فيه، وتحددوا ملامحه وغايته. وإن منصة العلماء على استعداد لمشاركتكم بالرؤية الشرعية لما تطرحونه، وحكم الإسلام في ما تختارونه، ليكونوا سنداً لرؤيتكم تأصيلاً وترشيداً ودعماً، وعليكم أن تجعلوا تحرير المعتقلين قضيتكم المباشرة، ومسؤوليتكم العاجلة، وأن تُدركوا أن الله تعالى سيوقفكم للسؤال، ويسألكم عن الأمانة فرادى، دون أي اعتبار لانتماء حزبي، أو انتساب أيديولوجي، فأيكم أدى وأيكم ضيع!!

القوى والرموز السياسية

لا يُنكر أحد قيادة القوى والرموز السياسية للمشهد لفترة من أصعب الفترات، وقد استجابت لهم الجماهير، وتفاعلت مع بياناتهم الحشود، وتحرك بناء على طلبهم الثوار، فأضحت مسؤوليتهم عن تحريرهم قائمة، وباتت عودتهم لحمل هذا الأمانة واجباً شرعياً. فليس مقبولاً منك أن تزعم الآن اعتزالك العمل السياسي، أو التنازل عن موقعك الحزبي، أو انفكاكك التنظيمي، بل عليك أن تؤدي أمانتك الشرعية بالتصدي لتحرير من وثقوا في إدارتك، واستجابوا لدعوتك.

الواجب العملي:

واجبكم الشرعي اليوم أن تتنادوا لتخليص إخوانكم، وحمل أمانتكم، والتعالي على خلافاتكم، وترميم علاقتكم وتحديد أهدافكم بدقة. فليست هناك قضية أولى ولا أقدس من قضية المعتقلين، فعليكم التعاون مع البرلمانيين للاتفاق على مسار الانطلاق ومنهجية التحرير والاضطلاع بواجبكم فيها وخطة عملكم لتحقيقها، ولا تنشغلوا عنها بأنفسكم، فالأمانة لم تؤد بعد، والمسؤولية لم تُنزع بعد، وإخوانكم أسرى ينتظرونكم لتفتحوا لهم الأبواب، وتنزعوا عنهم الأصفاد، فهل أنتم فاعلون؟!

الإعلاميون ومنصاتهم

لا شك أن للإعلاميين الأثر البالغ في توجيه الجماهير، وصناعة الوعي، والتأثير في الرأي العام، ومن منطلق ما مكنهم الله تعالى فيه من أسباب، وجعل لهم من تأثير، فإن عملهم ليس مجرد مهنة يرتزقون منها، أو مساحة يشتهرون بها، ولكنها مسؤولية شرعية. فإحياء قضية المعتقلين واجبهم الشرعي، ومداومة الحديث عنهم صدعاً بالحق، ومجابهة للباطل، ودحراً للظلم والطغيان.

الواجب العملي

أن تسارعوا بالاجتماع حملا للأمانة ونهوضا بالرسالة واضطلاعا بالمسؤولية، وتدعموا البرلمانيين في اختيارهم، والتحالف في خطته، والعلماء في جهودهم، وأن تُدشنوا خريطة إعلامية لجعل قضية المعتقلين في صدارة القضايا، وحديث العالم كله، وهذا العمل هو مهمتكم المقدسة، وميدان جهادكم المبارك، في أي أرض كنتم، وتحت أي مظلة عملتم، فواجبكم الشرعي يصحبكم ويصاحبكم، يلزمكم ويلتزمكم.

العائدون من "30 يونيه"

لا شك أن عودتكم إلى الحق فضيلة، وبراءتكم من الطغيان مكرمة، ولكن تبقى عليكم تلك المسؤولية الشرعية عن الدماء التي سفكها، والأعراض التي اغتصبها، والأموال التي انتهبها، والأسرى الذين اختطفهم، فبسلطان تأييدكم، قليلاً كان أو كثيراً، اقترف كل تلك الجرائم، فأضحى الواجب الشرعي أن تنهضوا تكفيراً عن تأييدكم، وتبرئة لذمتكم أمام الله تعالى.

الواجب العملي

أن تنسقوا جهودكم كل في تخصصه، وأن تتواصلوا مع الهيئات العاملة في مجال تحرير الأسرى، اتفقتم معهم سياسيا أو اختلفتم، وأن تشاركوهم اختيار المسار ودعم تنفيذه بما تملكون من إمكانات، وما لكم من علاقات، وأن تبذلوا لتحريرهم كل قوتكم، وتُسخروا كل إمكاناتكم لتحرير من اختطفهم، وتخليص من أسرهم.

ولا أقصد هنا سجناء فصيل دون غيره، وإنما كل المأسورين على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم، فالواجب الشرعي فوق كل الاعتبارات، والسعي في تحرير المعتقلين يمثل حتمية سياسية ومهمة أخلاقية، وواجباً إنسانياً.

جماعة الإخوان

لقد أخرتُ ذكرها لنهاية المقال، ليس تقليلاً من شأنها، ولكن ليٌكمل الكثير من الإخوة قراءة بقية المقال، حيث ستظل جماعة الإخوان قيادة وأفراداً تتحمل مسؤولية شرعية كاملة عن أبنائها وغيرهم ممن اقتنعوا بمنهجها، وسلكوا مسلكها، ووثقوا في قيادتها، فحصدتهم يد البغي، وقيدتهم سلاسل الطغيان.. مسؤولية تُوجب عليها نقل ملف المعتقلين إلى أعلى درجات الاهتمام والعمل والبذل.

الواجب العملي

واجب اليوم لا ينحصر في الجانب الإغاثي فحسب، بل عليها أن تشارك الهيئات المتخصصة علمائياً وسياسياً وميدانياً وإعلامياً وحقوقياً دون وصاية أو مغالبة، وأن تكون معهم في اختيار أحد المسارات المطروحة، والتترس خلفه، وبذل الجهود لدعمه، وأن تصطفوا للقيام بهذا الواجب الشرعي بإدارة سياسية متخصصة، وحقوقية متمرسة، وإعلامية محترفة، وأن تُعدوا خطة تجمع شتاتكم، وتتعالى على خلافاتكم، وتوحد صفكم، وأن تحشدوا جهودكم خلف تلك القضية المقدسة، وأن تنطلق كل اللجان للقيام بواجبها كل في تخصصه.

كما أن عليكم أن تدركوا أن قضية الستينات مختلفة، فلا تنتظروا السادات أن يُبعث، ولا السيسي أن يهلك، فواجبنا الشرعي والأخلاقي هو السعي وبذل غاية الوسع، والأخذ بأقوم الأسباب، وليس الانتظار والتواكل على القدر.

ولا ريب أن نجاح الجماعة في تحريك هذا الملف سيفتح لها أبواباً للنجاح في كل مجالاتها، وفرصاً للفلاح في نشر فكرتها. ولا ينبغي أن ينشغل بعض المنتسبين لها بتهوين الأمور، وتبرير القصور، وتسكين النفوس، وإن كنت أعلم أن جهوداً كثيرة بُذلت، لكني أؤكد أنها ليست بقدر الواجب الشرعي، ولا تتناسب والأمانة التي تحملها الجماعة، والمكانة التي تتبوأها، والإمكانيات التي تملكها.

وأخيرا أقول: لا يعني تخلي أحد عن واجبه أن القضية ستسقط، ولكن أبشركم بأنه هو من سيسقط كائناً من كان.

أبشركم بأن جهوداً تُبذل في الدنيا بأسرها وفيها خير كثير، ومهمة التنسيق بينها وترشيد بعضها، واستثمار البعض الآخر، والإفادة من تجارب دول أخرى نجحت في إدارة مثل هذه الملفات بدأت بالفعل، ولن تتوقف بإذن الله تعالى حتى تُؤدى الأمانة كما أراد الله تعالى.

وهنا يظل السؤال مطروحاً: ما واجب الأفراد وما مسؤولية الشعوب؟ هذا ما نجيب عنه في المقال القادم بإذن الله تعالى.
التعليقات (3)
منير جمعة
الأربعاء، 14-07-2021 06:10 م
جزاكم الله خيرا حمّلت الجميع الهم وهذا واجب الوقت شرعيا وعمليا
الكاتب المقدام
الأربعاء، 14-07-2021 02:20 م
*** دون التقليل من أهمية قضية المعتقلين في مصر، ومع الإدراك لمدى معاناتهم الشخصية ومعاناة أسرهم وأسر من استشهد منهم، والثمن الفادح الذي دفعوه، ووجوب الوقوف بجانبهم، ومع الاعتراف بحسن نية الكاتب وقيمة اجتهاده في وضع الأسس النظرية والشرعية، وتحديد مسئوليات كل بقدره، فإن الاستغراق في نظر قضية المعتقلين والمزايدة عليها باعتبارها موضوعاً مستقلاً، والظن بأنه يمكن حلها بمعزل عن المواجهة الجادة للقائمين بأعمال الاعتقال ومن ورائهم، هو مجهود لا طائل من ورائه، وإضاعة للوقت وتشتيت للاهتمام عن إدراك حقيقة الموقف، وتأجيل وتسويف عن مواجهة الأمر الواقع ككل متكامل، وما يفرضه من واجبات شرعية، هي فرض عين على كل مواطن وليست فرض كفاية، الواقع الذي يعرفه الجميع، وإن كان البعض يتعامى عنه، هو أن القضية ليست قضية المعتقلين وحدهم، ولكنها قضية أخطر تمس الأمة بأسرها وعقيدتها ووجودها، فالحقيقة التي يغفلها البعض عن حسن نية، ويتغافل عنها آخرين عامدين، وآخرين من المخادعين الذين يدعون للاستسلام والتصالح والتعاون مع ما يسمونه بسلطة الأمر الواقع، فنحن نواجه حكومات مستبدة، وهي لم تستبد إلا لأنها حكومات فاسدة ما جاءت إلا لتنهب شعوبها، وهي حكومات مفتقدة للشرعية الشعبية، ولذلك فهي تلجأ لجهات أجنبية لكي تكتسب منها الدعم والتأييد، وهي حكومات عميلة وتعمل كأذرع للمحور الصهيوني الصليبي الجديد، الذي مكن لها ويعمل على استمرارها وضمان عمالتها، وتلك الحكومات المستبدة العميلة الفاقدة للشرعية تعمل ضد عقيدة شعوبها وهويتها ومصالح أوطانها وشعوبها، وهي حكومات فاشلة، تعمل على السيطرة على شعوبها باستذلال مواطنيها وتركيعهم، وتخويفهم بالقتل والاعتقال ومصادرة الأموال، وسيدفع نتيجة فشلها الشعب بأسره بكامل أفراده، من قصر منهم في مواجهة الظلم والفساد، ومن قام بواجبه في حدود مستطاعه، وإن كان قد أبرأ ذمته، وثورات الربيع العربي قد قامت وما زالت لمواجهة ظلم حكومات فاسدة عميلة فاشلة تدعم بعضها بعضاً في مواجهة شعوبها، ولا سبيل لإصلاحها، بل يجب العمل بكل الوسائل على إسقاطها، ومحاسبة المسئولين فيها عما اقترفت إيديهم، ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب، وموازين القوى هي في صالح الشعوب الواعية بحقوقها، المكافحة من أجل نيلها، ومهماُ دفعت الشعوب من ثمن في مواجهة الفساد، فهو ثمن أقل من ترك تلك الحكومات العميلة تتحكم في مصائرنا ومستقبل ابناءنا، واستصعاب المواجهة لا يكون إلا من ذوي النفوس الوضيعة التي هانت عليها أنفسها وعقيدتها وهويتها وكينونتها، والله ينصر الثابتين على الحق، والمجاهدين في سبيل إقراره، والله أعلم بعباده.
أحمد مهنا
الأربعاء، 14-07-2021 10:34 ص
رائع .. سلمت يداك يا دكتور