هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كل الخلل الذي يصيب السياسي عند أي أمة، يرد إذن إلى هذه المعادلة التي رسمنا شكلها الهرمي المنتج للقدرة السياسية، من حيث هي تمكين؛ أي حيازة الحصة المناسبة من المكان، وتزمين؛ أي حيازة الحصة المناسبة من الزمان.
والحصة المناسبة من المكان هي جغرافية المجال الحيوي لقيام الجماعة العضوي، وهو أصل الثروة الاقتصادية التي ينتجها العمل المادي، والحصة المناسبة من الزمان هي مجال الجماعة الحيوي للقيام الروحي، وهو أصل التراث الثقافي الذي ينتجه العمل الرمزي. والأصلان يحددان طموح الأمة في فعلي الإنسان فردا وجماعة:
1 ـ من حيث هو مستعمر في الأرض لمقامه في العالم كله شاهده وخفيه.
2 ـ من حيث هو مستخلف فيه رمزا لمنزلته في الوجود كله شاهده وغيبه.
فمثلا؛ يقاس يوم انتقال الروح في عروجه بخمسين ألف سنة من أيام الأرض (364 يوما وربعا في 50000 سنة) وبه يقاس الزمان، فتكون الأرض وحدة قياس لأبعاد العالم كله مكانه وزمانه. وتقاس منزلة الإنسان في هذا العالم بمنزلته في ما وراء العالم، التي تعيّر بمدى انشداد عالمه الشاهد بما وراءه؛ لأن ذلك هو معيار أهليته للاستخلاف، الذي يعتبر القرآن أنه خلق له وطبع على ألا يرى نفسه إلا بمعياره إيجابا بالتعلق به أو سلبا بالإخلاد إلى الأرض.
وبهذا المعنى، فالقرآن ليس إلا الاستراتيجية السياسة التي تشمل العالم كله مكانه وزمانه لاستعماره بمعيار قيم الاستخلاف. ولذلك اعتبرته استراتيجية توحيد الإنسانية بمبدأي الأخوة الإنسانية (النساء 1) والمساواة بين البشر (الحجرات 13).
ولا يمكن أن يتحقق ذلك من دون اعتبار التعدد العرقي واللساني والثقافي والديني من آيات الله، التي هي شرط تحقيق الاستعمار والاستخلاف الكونيين؛ لأن هذا التعدد يمثل أساليب العلاج الذي له الأدوات نفسها والغايات نفسها في عالم الشهادة الموجود، وما وراءه المنشود.
ولا يوجد إنسان فردا أو جماعة ليس مجهزا بأدوات شروط قيامه، ولا يوجد إنسان فردا أو جماعة ليس له الشروط نفسها لقيامه العضوي والروحي، سواء كان واعيا بها أو غير واع. والقرآن يعالج هذه الشروط من حيث التجهيز الأداتي والتأهيل الغائي، وتلك هي علاقة سياسة عالم الشهادة بعالم الغيب:
1 ـ فالأدوات الواحدة التي لا يخلو منها إنسان فردا وجماعة، هي ما جهز به الإنسان للنظر والعقد أساسا للمعرفة دنيويا وأخرويا، وما جهز به للعمل والشرع أساسا للقيمة دنيويا وأخرويا.
2 ـ والغايات الواحدة التي لا يخلو منها إنسان فردا وجماعة، هي سد الحاجات العضوية غاية للتعمير، وقد رمزت إليها بحاجات المائدة والسرير. وهي سد الحاجات الروحية غاية للاستخلاف، وقد رمزت إليها بحاجات فنيهما دنيويا وما وراءهما أخرويا.
هذا هو المعنى الذي فقدته الأمة، وبفقدانه فقدت الطموح الكوني فصارت تابعة بعد أن تخلت عما يجعلها متبوعة. وبهذا المعنى صار تعريف السياسة بالإمكان الانفعالي وليس بالإمكان الفعلي؛ لأن الأمر الواقع صار مقدما على الأمر الواجب في تحديد الحصة من المكان، والعاجل على الآجل في الحصة من الزمان.
ولما تبينت لي هذه المعاني، فهمت دلالة قول الرسول عليه السلام؛ إن سورة هود وأخواتها قد شيبته: والثابت أن هذه السور تعطينا الهرم نفسه الذي له قاعدة مربعة وذورة هي القدرة المطلقة التي تنسب إلى الرب، قمة لهذا الهرم في سياسة الكون شاهده وغيبه، موضوعا للرسالة الخاتمة التذكيرية من حيث هي استراتيجية سياسية لتوحيد الإنسانية.
فسورة هود تحدد هذه المعادلة والسور الأربع الباقية تدرس انشداد سياسة الرب للوجود وسياسة الخليفة لعالم الشهادة: هود هي قلب المعادلة التي تتألف منها ومن أخواتها (11 ـ المعادلة) وقبلها سورتان هما الواقعة (56 ـ نبأ الآخرة) والمرسلات (77 ـ علامات الآخرة) وبعدها سورتان هما النبأ (78 ـ نبأ البعث) والتكوير (81 ـ علامات البعث).
ولنبدأ بهود، وكيف اعتبرها الرسول مع أخواتها مشيبة له؟ لا شك أنه قد وجد فيها التحديد الصريح والصارم لما هو مطلوب منه التذكير به، بتعيين مجال تطبيق استراتيجية التوحيد ببيان عقباتها التي هي عين عقبات سياسة عالم الشهادة في علاقته بعالم الغيب. أما أخواتها فهي لبيان هذه العلاقة من خلال ما يفيده ما وراء مجالاتها؛ بوصفه وصلا بين العالمين كما نبين.
فهود فيها سبع رسالات تبدأ برسالة نوح وتنتهي برسالة موسى، وبين الثلاث الأول (نوح وهود وصالح) والثلاث الأواخر (لوط وشعيب وموسى) يوجد إبرهيم. والمخاطب بذلك هو الذي فهمها، فشاب رأسه لهول المطلوب منه.
فالرسالة الخاتمة وظيفتها علاج ما ورد في هذه السورة من إشكالات العلاقة بين عالم الشهادة وعالم الغيب، وعلل عدم تحققه في الرسالات غير الكلية السابقة من حقب التاريخ؛ فكل رسالة تعلقت بواحدة منها، ولم توحد بينها استراتيجية التوحيد الإلهي، ولم تصبح سياسة كونية للعالم الشاهد كله في علاقته بما وراءه من الغيب.
يمكن القول إن البشرية تعيش الآن حالة الانحطاط بهذين المعنيين بسبب الانفصال بين العالمين؛ عالم الشهادة وعالم الغيب، الذي آل إلى التلويثين المادي للعالم والروحي للإنسانية بسبب دين العجل؛ أي ربا الأموال في الاقتصاد وربا الأقوال في الثقافة.
ولنقرأ الآن هذه الرسالات، ولكن من المدخلين النازل من نوح إلى إبراهيم والصاعد من موسى إلى إبراهيم. فالأول يبدأ بنوح وينتهي بإبراهيم، والثاني يبدأ بموسى وينتهي بإبراهيم، وتلك هي وظيفة إبراهيم الذي يمثل قلب المعادلة وذروة الهرم، الذي سنبين طبيعته وطبيعة علاقته بهرم السياسة الذي درسناه في الفصل الأول.
وهذا ما يجعل إبراهيم في استراتيجية السورة التي توحد هذه الإشكاليات حول حل الوحدانية، مثل الرسول الخاتم في استراتيجية تحقيق المشروع الذي تمثله الرسالة الخاتمة، من حيث هي استراتيجية سياسية لعالم الشهادة بمعايير عالم الغيب.
وتلك هي علة اعتبارها قد شيبت رأسه؛ لأنه فهم أنها حددت ما هو مطلوب منه في التذكير بهذه الغاية، من خلال تركيز القرآن على ما جهز به الإنسان لتحقيقها، وما في العالم من مصادر فعلية لتحقيقها إذا عمل الإنسان بما جهز به ليعمره بقيم الاستخلاف، فيحقق مبدأ التوحيد في التاريخ الفعلي؛ لأن إبراهيم اكتشفه، لكنه لم يحقق شروطه السياسية في التاريخ الفعلي.
وكان لا بد أن ينطلق الإسلام لتحقيق هذه الرسالة من رمز بداية التأسيس الإبراهيمي، أي من صحراء خالية من كل شروط تحقيقها؛ فهو ترك إسماعيل وهاجر في مكان أبعد ما يكون عن الحضارة، وذلك رمز لما نعيشه من تحضر تاريخ الإنسانية الذي بدأ مباشرة بعد انحطاط الحضارة التي كانت مسيطرة على العالم في عصر نزول الرسالة، بتصحره المادي والروحي.
ويمكن القول إن البشرية تعيش الآن حالة الانحطاط بهذين المعنيين بسبب الانفصال بين العالمين؛ عالم الشهادة وعالم الغيب، الذي آل إلى التلويثين المادي للعالم والروحي للإنسانية بسبب دين العجل؛ أي ربا الاموال في الاقتصاد، وربا الأقوال في الثقافة.
ومعنى ذلك؛ أن الإسلام مرة أخرى يمكن اعتباره بداية ثانية للتاريخ الإنساني، ولكن هذه المرة بعد اكتمال العولمة المادية، فالانبعاث الثاني المنتظر بفضل الإسلام لم يعد مجرد مشروع يبدأ من الصفر تقريبا كما حدث في المرة الأولى، بل هو ينطلق من اكتمال العولمة المادية والهدف هو بداية التاريخ الكوني المؤسس على مبدأي التوحيد اللذين يعالجان ما فشلت فيه الرسالات الجزئية الموصوفة في هود وأخواتها؛ لأنها لم تكن كونية، وستصبح كذلك بفضل استراتيجية القرآن والإسلام.
المسار الأول:
من نوح إلى إبراهيم ومشكل تحرير الإنسانية من طغيان الطبيعة بفضل التكنولوجيا (صنع الفلك) والزراعة (أخذ زوجين اثنين من كل شيء)، وهما ما كلف به نوح لإنقاذ الإنسانية من استبداد الطبيعة (الطوفان) ومشكل الثروة (أصحاب الثروة) والماء (رافضو توزيع الماء): فمشكل الثروة لسد حاجات الإنسان العضوية (هود)، ومشكل الماء مصدر الحياة الأول (صالح)، يحددان معنى خضوع الإنسان لسلطان الطبيعة والعصبية.
المسار الثاني:
من موسى إلى إبراهيم ومشكل تحرير الإنسانية من طغيان التاريخ بفضل الثورة الدينية (رسالة موسى) والهجرة (خروج بني إسرائيل)، وهما ما كلف به موسى لإنقاذ الإنسانية من استبداد الدولة والثقافة. والمثالان خاصان بجماعة معينة وليس بكل الإنسانية. لكن القرآن اعتبرهما خاصين من حيث التعين وكونيين من حيث الدلالة. فمشكل معايير توزيع الثروة لسد الحاجات العضوية (شعيب)، ومشكل توزيع الجنس مصدر الحياة الثاني لسد الحاجات الروحية (لوط)، يحددان معنى خضوع الإنسان لسلطان التاريخ والدولة.
ملتقى المسارين: إبراهيم رمز التحريرين فهو رمز الثورة الأولى النازلة من نوح إليه، والثورة الثانية الصاعدة من موسى إليه:
1 ـ فقصة الأفول تشير إلى التحرر من عبادة الطبيعة، وتشير إلى ما يعلو عليها، وهو الله الواحد، فوق سلطان الطبيعة على البشر، وفوق سلطان البشر على البشر.
2 ـ وقصة تهديم الأوثان تشير إلى التحرر من عبادة الأوثان، وتشير إلى ما يعلو عليها، هو الله الواحد، فوق سلطان العادة في رؤية الماوراء المحيث في الطبيعة وفي التاريخ.
وهذا اللقاء بين التوجهين من نوح إلى إبراهيم ومن موسى إليه، هو جوهر الرسالة الخاتمة التي هي جمع بين رسالة نوح لتحرير الإنسانية من سلطان الطبيعة والعصبية، ورسالة موسى لتحرير الإنسانية من سلطان التاريخ والدولة، وما بين الثورتين أي ما ترمز إليه رسالة هود ورسالة صالح أولا ثم رسالة شعيب ورسالة لوط ثانيا.
والقمة في الحالتين يمثلها إبراهيم الذي حقق كونية التوحيد في الأذهان والرسول الخاتم مكلف بتحقيقها في الأعيان: وذلك هو معنى القرآن استراتيجية توحيد الإنسانية ودولته عينة من هذا التوحيد: ولذلك فلا يمكن فصل رسالة الإسلام الكونية عن دولتها الكونية، ولا يمكن أن يكون ذلك كله من الصدف أو من التأويل المتعجل.
والسؤال الآن هو: كيف يطابق هذا الهرم ذو القمة الواحدة (وحدانية إبراهيم) والقاعدة المسدسة (نوح وهود وصالح قبل إبراهيم ثم موسى وشعيب ولوط بعد إبراهيم في السورة) بدلا من الهرم ذي القمة الواحدة (القدرة) والقاعدة المربعة (الإرادة والرؤية والعلم والذوق) في معادلة السياسة التي وصفت في الفصل الأول من المحاولة؟
لو لم أكن قد وضعت نظرية المائدة والسرير وفنيهما في محاولات سباقة، لامتنع أن أجد حلا لهذه المعضلة البنيوية التي تجعل من العسير الجمع بين الهرمين بقاعدتين واحدة مربعة والثانية مسدسة:
فهي مربعة لما يتعلق الأمر بالتجهيز الإنساني الذي يمكن ويزمن أو بالمظروف الذي هو تجهيز الإنسان بالقدرة على العلم والعقد، وبالقدرة على العمل والشرع، وبهما يحقق التعمير والاستخلاف.
لكنها مسدسة لما يتعلق الأمر بمصدر قيام الإنسان العضوي والروحي، أو بالظرف أي بالمكان موضوع التمكين أصل طغيان الطبيعة والثروة، وبالزمان موضوع التزمين أصل طغيات التاريخ والتراث.
وما يصل تسديس الظرف وتربيع المظروف، يكون إما بتوحيد الثاني والثالث في حالة التسديس لنكتشف التربيع، أو بتفريقهما في حالة التربيع لنكتشف التسديس:
ولنبدأ برد التسديس إلى التربيع:
1 ـ فالثروة (هود) وتوزيعها (شعيب) وجهان لمشكل واحد؛ الأول اقتصادي، والثاني شرط علاجه الاجتماعي.
2 ـ والماء (صالح) والجنس (لوط) وجهان لمشكل واحد؛ الأول لبقاء الفرد، والثاني لبقاء الجماعة.
وبذلك فالمسدس يصبح مربعا؛ فالحياة شرطها الأول الماء وشرطها الثاني الجنس بفعل الطبيعة. لكن شرطها الأول الاقتصاد والثروة وشرطها الثاني توزيعها. وإذن فالوصل بالطبيعة واحد ذو وجهين والوصل بالتاريخ واحد ذو وجهين : الماء والجنس طبيعيان والثروة وتوزيعها تاريخيان.
علم العمران البشري يعتبره ابن خلدون علم سد حاجات رعاية كيان الإنسان العضوي، وهو ما يقتضي نظام تقسيم العمل والتعاون والتعاوض العادل: الاقتصاد وسياسة الإنتاج المادي التي لا بد فيها من القضاء المتعلق بحماية الملكية، وعدل التعاوض اقتصاديا والحكم سياسيا، وهما أساس الدولة أو الوازع الأجنبي للقانون.
ولنثنّ برد التربيع إلى التسديس:
1 ـ فالعلم نوعان: علم الطبيعة بمنطق الضرورة الشرطية، وعلم التاريخ بمنطق الحرية الشرطية، أو إن شئنا بلغة أبستمولوجية؛ المقابلة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية.
2 ـ والذوق نوعان: ذوق القيام العضوي الشاهد، وذوق القيام الروحي الغائب؛ والأول هو أصل فن المائدة وفن السرير، والثاني هو أصل ما بعد الفنين أي ما يحيل عليه الفن عامة إلى عالم الغيب، وهو موصوف بدقة في القرآن الكريم، وهو معنى الجنة ولا ينقصه إلا الغاية القصوى التي هي رؤية وجه الله.
أما تقديم التربيع على التسديس؛ فلأن النظر الفلسفي يقتضي دائما التقليل من المبادئ بأخذ الأبسط الجامع بين فروعه. فالحياة تجمع بين مقوميها تعيينا في الماء (لبقاء الفرد) والجنس (لبقاء الجماعة)، وفي أصليها الطبيعي والتاريخي. والعلم والذوق يجمعان بين مقومين موضوعه في الطبيعة والتاريخ.
والجامع بين هذه العناصر كلها، هو ما ترمز إليها المائدة والسرير وفنيهما وما بعدهما الذي يضفي عليهما البعد الاستخلافي؛ أي ما يشد عالم الشهادة إلى عالم الغيب المحرر من الطبيعة ومن التاريخ.
فنعود بذلك إلى القدرة على سد حاجات كيان الإنسان العضوي والروحي؛ أي الاقتصاد والثقافة المحررين من عبادة الطبيعة ومن عبادة التاريخ، اللذين هما علة الإخلاد إلى الأرض بعبادة العجل؛ أي معدنه (ربا الأموال) وخواره (ربا الأقوال).
وما يحقق هذه القدرة هو الإرادة والرؤية والعلم والذوق، قاعدة للهرم الذي ذروته القدرة الإبداعية لشروط القيام العضوي (الاقتصاد والثروة)، وشروط القيام الروحي (الثقافة والتراث). فنعود بذلك إلى المعادلة السياسية الأساسية في الجماعة التي تعمل على علم: وهو ما حاولنا شرحه في الفصل الأول من هذه المحاولة أمس.
والتشخيص لن يكون ناجزا بحق لينطلق منه وصف العلاج، إلا بعد أن نكتشف علة الانحراف الذي وقع في تاريخ الأمة بصورة حالت دون فهم هذه المعادلة. فما الذي جعل المسلمين يفصلون بين مهمتي الإنسان أي: مهمة المستعمر في الأرض شرطا في قيام الإنسان العضوي رعاية وحماية وهو مجهز لذلك، والطبيعة فيها ما هو مسخر لسد حاجاته إذا استعمل تجهيزه المعرفي والعقدي في النظر. ومهمة المستخلف فيها شرطا في قيامه الروحي رعاية وحماية وهو مجهز لذلك، والتاريخ فيه ما هو مسخر لسد حاجاته الروحية إذا استعمل تجهيزه القيمي والتشريعي في العمل؟
لماذا توهم المسلمون أنه يمكن أن يحققوا قيم الاستخلاف من دون تعمير، ولماذا صارت البشرية في عصر العولمة تتوهم أنها يمكن ألا تنتهي إلى التهديم من دون قيم الاستخلاف؟ رغم أن ابن خلدون بنى المقدمة على حتمية الترابط بين هذين المعنيين كما هو بيّن من عنوان المقدمة نفسها:
1 ـ فعلم العمران البشري يعتبره ابن خلدون علم سد حاجات رعاية كيان الإنسان العضوي، وهو ما يقتضي نظام تقسيم العمل والتعاون والتعاوض العادل: الاقتصاد وسياسة الإنتاج المادي التي لا بد فيها من القضاء المتعلق بحماية الملكية، وعدل التعاوض اقتصاديا والحكم سياسيا، وهما أساس الدولة أو الوازع الأجنبي للقانون.
2 ـ وعلم الاجتماع الإنساني يعتبره ابن خلدون علم سد حاجات رعاية كيان الإنسان الروحي، وهو ما يقتضي تنظيم الحياة الاجتماعية لتحقيق غاية الأنس بالعشير وسياسة الإنتاج الرمزي، التي لا بد فيها من القضاء المتعلق بحماية المنازل والتراث وعدل التراتب ثقافيا والحكم تربويا، وهما أساس الدين أو الوازع الذاتي للضمير.
ولما فقد الأول بوهم الاكتفاء بالاستخلاف في الأرض والاستغناء عن الاستعمار في الأرض، صار الدين عبادات شكلية لا علاقة لها بثمراتها. وفقد الثاني لأنه لم يبق ذا وجود؛ لأن الضمير يفقد فاعليته فلا يعمل في مجتمع ليس فيه سلطان للقانون العادل، وعوضه سلطان قانون العادة والعنف، وهو ما أدى بالتدريج إلى النكوص إلى الجاهلية أو ما يسميه ابن خلدون العصبية الخبيثة المفضية للهرج، وهي نقيض العصبية الحميدة التي تبني الدول.
والعصبية الخبية هي التي تفضي إلى الهرج:
1 ـ فهي تحول دون التمكين؛ لأنها تفقد القوة المادية التي تمكنها من حصة من المكان أصلا لثروة كافية لشروط عيش الكرام.
2 ـ وهي تحول دون التزمين؛ لأنها تفقد القوة الروحية التي تمكنها من حصة من الزمان أصلا لتراث كاف لشروط عش الأحرار.
3 ـ وذلك لأن فقدان التمكين يمنع الإنسان من أن يكون قادرا على استعمال تجهيزه المعرفي والعقدي للتحرر من سلطان الطبيعة عليه.
4 ـ ولأن فقدان التزمين يمنع الإنسان من أن يكون قادرا على استعمال تجهيزه القيمي والتشريعي للتحرر من سلطان التاريخ عليه.
5 ـ فاكتفي بسياسة الانفعال التي انطلاقا منها صارت السياسية فن الممكن الحاصل، وليس فن تحصيل الإمكان، كما حاولت بيان ذلك في الفصل الأول.
والسياسة الانفعالية تجعل معنى الاستخلاف مجرد عادات تعبدية عديمة الأثر في عالم الشهادة، ويصبح عالم الغيب مجال الثرثرة الدائمة لما يسمى علماء، وهم مجرد مسجلات لمحفوظات لا تتجاوز لغو الكلام.
وتلك هي علة فساد كل علوم الملة التي ذكرته فصلت 53 التي تأمر بتبين حقيقة القرآن من خلال البحث في آيات الله في الآفاق وفي الأنفس، وانشغلت بآل عمران 7 التي تنهى عن تأويل المتشابه لأن محاولته ممتنعة؛ إذ المتشابه يتعلق بالغيب، ومن يحاوله لا يؤسس علوما بل هو يعبر عن زيغ في قلبه وابتغاء الفتنة: تلك هي العلة التي أبحث عنها لفهم مآل الحضارة الإسلامية إلى أشباه العلوم وأشباه الأعمال.
وهو ما أدى إلى ربا الأقوال وغياب الأفعال والاقتصار على ربا الأموال، التي تنتجها الطبيعة (العيش ببيع الثروات الطبيعية) في غياب الأموال التي ينتجها الإنسان (عقم الإبداع الإنساني): وذلك عين ما يصفه ابن خلدون بالتحول إلى عالة على الغير في كل شروط القيام العضوي والروحي.
اقرأ أيضا: لماذا تراجع العرب والمسلمون؟ أبو يعرب المرزوقي يجيب