قضايا وآراء

العزلة في زمن كورونا

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
أجبر تفشي جائحة كورونا مئات الملايين من الناس حول العالم على التزام بيوتهم وعدم مخالطة الأصدقاء والأقارب، بما يمثل انقطاعاً مفاجئاً عن أسلوب الحياة الذي ألفوه منذ نشأتهم. ومن الطبيعي أن هذا الواقع الاضطراري الجديد قد غذى مشاعر الضيق والاكتئاب والفراغ في نفوس كثير من الناس، حتى إن لاعبة تنس روسيةً شهيرةً وزعت رقم هاتفها على الملأ سائلةً متابعيها أن يتواصلوا معها، في محاولة منها لملء أوقات الفراغ.

ينظر أكثر الناس إلى الاعتزال بأنه عقوبة ثقيلة على النفس، لكنها في الحقيقة نعمة عظيمة، بل هي ضرورة وجودية.

في قصة الرهان للأديب الروسي الكبير أنطون تشيخوف في القرن التاسع عشر، والتي ترجمها الفنان ياسر العظمة إلى عمل درامي، فإن مصرفياً يملك ثروةً طائلةً راهن محامياً بأن يدفع له مليوني روبل إذا استطاعَ أن يَعيش مُنعزلاً في حبس انفرادي خمسة عشر عاماً. وقد سجن المُحامي في غُرفة صغيرة وكان يشعر في أيامه الأولى بالوحدة الشديدة والاكتئاب، لكنه مع مرور الوقت بدأ يلج إلى عالم الكتب ويسبح في بحار العلم، فدرس اللغات والأدب والفيزياء، ثم قرأ الإنجيل وتاريخ الدين والفلسفة، وقرأ روايات شكسبير وبايرون .

ولما اقترب موعد انتهاء المدة وشارف المصرفي على خسارة ثروته ذهب إلى غرفة السجن فوجد السجين قد غادر عزلته قبل انتهاء المدة بوقت قصير وترك له رسالة كتب فيها: "حين قبلت الرهان كان هدفي الحصول على المال، لكني قبل انقضاء الوقت بقليل قررت الانعتاق من سجني والانطلاق إلى الحياة فقيراً.

خلال سجني لم أجد مؤنساً لي إلا الكتاب فأقبلت ألتهم الكتب التهاما وكأنها غذائي وكسائي، حلقت في قراءاتي في غياهب الكون وفي مجاهل الطبيعة، قرأت التاريخ والجغرافيا والفلسفة والطب، تبحرت في التاريخ قديمه وحديثه وعجبت من مصائر الدول، استغرقتني كتب الجغرافيا فإذا بي أطوف حول العالم وأصعد الجبال وأهبط الوديان وأتأمل صنع الله وأنا ساكن في مكاني، تعلمت سبع لغات أجنبية وقرأت بواسطتها كثيراً مما أنتجه العقل والخيال الإنساني، عشت الحياة بكل تفاصيلها ولم أشعر يوماً أني مسجون بل حر طليق أتجول كيف أشاء وأطير في أي سماء، قرأت الأديان وعرفت الإله وتوحدت معه وسبحت بحمده. أنا لم أخسر بل ربحت كنوز المعرفة، وليهنأ كل منا بثروته".

إن أكثر الناس لم يعتادوا العيش في خلوة مع أنفسهم، مع أن الإنسان لن يعرف نفسه إلا إذا تجردت من العوالق الخارجية واعتزلت ضوضاء الحياة وضجيجها، وبذلك فإن أكثر الناس يمرون على هذه الحياة ويغادرونها دون أن يعرفوا أنفسهم: "نسوا الله فأنساهم أنفسهم".

يخشى الإنسان مواجهة نفسه لأنه لا يريد الإنصات إلى النداء الداخلي المنبعث من روحه، ذلك النداء هو القول الثقيل الذي يلح عليه باتباع الحق، وإن الحق يورث الشعور بالغربة لأن أكثر الناس للحق كارهون. العزلة تجلي للإنسان ذاته الحقيقية بينما تطمس الخُلطة هذه الذات، والذات الحقيقية وحدها التي تبقى مع الإنسان لأنها جوهره: "وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً".

يهرب الإنسان من ذاته بالإشغال، فيشغلها بمجالس السمر والرحلات واللهو واللغو، فإذا انفض عنه الأصحاب شغلها بالأفلام والمسلسلات ووسائل التواصل والدردشة، فإن عدم كل ذلك شغلها بالاستماع للأغاني أو النوم والطعام، وهو في كل ذلك يسعى جاهداً للتشويش على صوته الداخلي ويأبى أن يسمعه.

العزلة تهدي الإنسان إلى الحق لأنه يتفكر متجرداً من ضغط الثقافة ويتحرر من الحرص على مهادنة الملأ، لذلك دعا القرآن المكذبين به إلى الانسحاب من ضغط المجموع: "قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا".

العزلة هي أن ينسحب الإنسان من الأشياء وأن يبقى مع جوهر ذاته، لذلك ليس كل عزلة جسدية هي عزلة روحية، ففي زمن الإنترنت يمكن للمرء أن ينعزل جسداً لكنه لا يغادر ضجيج الحياة ويبقى في لغو الناس ولهوهم، وقد يصمت المرء بلسانه لكن قلبه يموج بالخواطر والصراعات، فهذا لم يبلغ السكون أيضاً، إنما السكون أن يصمت المرء من الخارج وأن تصمت أفكاره في داخل عقله وأن تسبح روحه في الملكوت، وهي درجة ليست يسيرةً على نفوسنا، لكن من ذاق عرف، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم.

ذاق كثير من المتصوفة والعارفين هذه الحالة بعد مجاهدة أنفسهم بالاعتزال، فعبروا عن حالة الفرح والسلام التي غمرتهم بأنها الجنة ولم يعد يغريهم في الجنة فاكهة ولحم طير مما يشتهون، بل يجذبهم إليها حالة السلام والرضوان وتذوق حضور الله. وقال أحدهم لو علم الملوك السعادة التي في قلوبنا لجالدونا عليها بالسيوف، وهي حالة معايشة لا يبلغها المرء بجدل الأفكار بل بالسياحة في أعماق روحه، وهي حالة عابرة، لها أمثال في كل الأمم والشرائع.

هل فهمنا لماذا اعتكف النبي محمد في غار حراء قبل تنزل الرسالة؟ ولماذا واعد الله موسى أربعين ليلةً؟ ولماذا نظر إبراهيم في ملكوت السماوات والأرض؟ ولماذا جلس بوذا تحت شجرة التين قبل أن ينقدح فيه التنوير؟

في القرآن أيضاً قصة فتية الكهف: "فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً"، لقد عجز الفتية عن إصلاح العالم الخارجي فألهمهم الله أن ينقذوا عالمهم الداخلي: "إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذاً أبداً". في الكهف يمتلئ المؤمن بالنور وتتنزل عليه رحمات الله إذ اعتزل الظلم والطغيان.

في بداية سورة الكهف قصة فتية الكهف المستضعفين المطاردين، وفي نهايتها قصة ذي القرنين الذي مكن له في الأرض حتى بلغ مغرب الشمس ومشرقها، والمعنيان متكاملان، فامتلاء العالم الداخلي في كهف التأمل في زمان الضعف هو الذي يفيض على العالم الخارجي العدل والإصلاح في زمن القوة، وكل امرئ لا بد له من كهف من العزلة الروحية يأوي إليها حيناً من الوقت، مثل الاعتكاف في رمضان وغيره، كي لا يشغله ضجيج الحياة عن نفسه فيكون براقاً من الخارج فارغاً من الداخل.
التعليقات (0)