مقالات مختارة

أزمة "كورونا" وإمكانية التغيير للأفضل

مروان المعشر
1300x600
1300x600

كشفت أزمة «كورونا» عن اختلالات كبيرة في نظم الحوكمة الصحية والاقتصادية، بل والسياسية أيضاً في كثير من دول العالم، ولم تنجُ دول صناعية غنية بمواردها المالية ومتقدمة علميا وطبيا من هذا الوباء سريع الانتشار، بسبب عدم استعداد نظمها للتعامل مع مثل هذه الأزمات، بينما أثبتت دول فقيرة لديها بنية تحتية متواضعة، مهارتها في التنسيق واستنفار طاقاتها البشرية لمواجهة خطر انتشار هذا الوباء.
ستنحسر الأزمة الصحية بعد أسابيع طالت أم قصرت كغيرها من الأزمات السابقة، لكن آثارها الاقتصادية ستبقى معنا إلى وقت أطول. فالعالم بعد «كورونا» لن يكون كالعالم قبله. ستتعافى اقتصاديات الدول بدرجات وسرعات متفاوتة، يحددها حجم الإصابة والأضرار والقدرة على التجاوب مع احتياجات المرحلة المقبلة. وستتغير فيها أولويات الإنفاق والاستثمار ونظرة الأفراد لنظم حياتية تم الاعتياد عليها، تلونت بشعور من اليأس وانعدام الثقة بقدرة الحكومات المتغيرة على التنمية، ومواكبة تطورات العصر واحتياجات الناس. هناك من سيحاول العودة إلى ممارسة الحوكمة الاقتصادية والسياسية القديمة كأن شيئا لم يكن، إلا أن حليمة - وإن كانت قادرة - لن تستطيع الرجوع لعادتها القديمة، لأنها ستكتشف أن الدنيا قد تغيرت من حولها، وستبقى متخلفة عن ركب الحضارة الإنسانية إن أصرت على ممارسة تلك العادات.
من المفيد هنا استذكار بعض الدروس التاريخية. فالحرب العالمية الثانية دمَّرت اقتصاديات الكثير من الدول على بكرة أبيها. ولكن دولا انهزمت في الحرب كاليابان وألمانيا، هي اليوم في مقدمة الدول الصناعية الغنية جمعاء. وإن كان صحيحا أن هذه الدول (ومنها من يعاني حاليا) حصلت على مساعدات مهمة من الولايات المتحدة، فإنه صحيح أيضا أن حكومات هذه الدول اعتمدت نظم حوكمة مختلفة قوامها الديمقراطية والتركيز على الإنتاجية، وتضحيات الناس الجمّة الممتزجة بشعورهم أنهم شركاء في عملية صنع القرار الذي سيحدد مستقبلهم. لم يمنع الدمار الشامل الذي حلَّ بألمانيا واليابان مواطني هذه الدول من النهوض من الرماد، وبناء دولهم من جديد، حتى باتت في وضع أفضل بكثير مما كانت عليه سابقا.
من غير المتوقع أن يؤدي فيروس «كورونا» إلى مثل ما انتهت إليه الحرب العالمية الثانية، لكن الاقتصاد العالمي يتعرض حاليا لأزمة كبيرة ستنهار على إثرها شركات عديدة، وترتفع البطالة، وسيفلس أفراد كثيرون، وستتعرض دول كثيرة لهزات اقتصادية واجتماعية عميقة. فلا يظن أحد أن الأزمة عابرة أو قصيرة المدى. لكن كل أزمة تحمل في طياتها بذور انطلاقة جديدة نحو فضاء أوسع، إن تم استيعاب الدروس المناسبة وإعادة النظر في الأولويات التي لا يحددها الوضع الاقتصادي فقط، وإنما أيضا تغيير النهج غير القادر على التعامل مع الأزمات. كما أن في وسع الأزمات أن تقود للهلاك، إن أصرت الدول أو الأفراد على نهجها السابق في إدارة الحكم والموارد. فإن استطاعت دولة شحيحة الموارد كالأردن إدارة الأزمة بفاعلية أكبر من دول أخرى أكثر ثراء، فهو درس صارخ على أن نظم الحوكمة أهم بكثير من الموارد المالية أحيانا، وأنَّ نظم الحوكمة الاقتصادية والسياسية في العالم العربي غالبا ما هي عليه من الضعف، بحيث تجعل الاستجابة لأي أزمة، صحية كانت أم اقتصادية أم سياسية، ضعيفة وغير فاعلة.
لقد تعرض العالم العربي للعديد من الأزمات التي سبقت أزمة «كورونا» في العقد الأخير، فالثورات العربية التي بدأت في عام 2011، كانت سببا مباشرا لضعف نظم الحوكمة السياسية، كما كان انخفاض أسعار النفط ابتداء من عام 2014، سببا مباشرا لطرح تحديات أمام العديد من نظم الحوكمة الاقتصادية، وضرورة الاعتماد على الإنتاجية. وها هي «كورونا» تكشف محدودية العديد من نظم الحوكمة الصحية، ونظم البنية التحتية والإدارة في المنطقة.
فما الطريق لبداية جديدة؟
أولا: العولمة لن تنتهي ولكنها ستتبدل. هناك كثيرون ممن يتوقعون انتهاء العولمة، باعتبار أن دول العالم بدأت بالانكفاء على نفسها بدلا من انفتاحها على العالم. لا شك أن العولمة بمفهوم سيطرة اقتصاديات السوق الحرة قد انتهت إلى غير رجعة، بل إن نهاية اقتصاديات السوق الحرة لم تنتهِ على يد «كورونا» فحسب، وإنما بدأت بالأفول بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008. من الواضح اليوم، أن تدخل الدولة ضروري في بعض القطاعات كالصحة والتعليم والنقل، في حين يجب ابتعادها عن نشاطات أخرى كالتوظيف وإدارة الأنشطة الاقتصادية. لكن الثورة المعرفية وثورة التكنولوجيا ربطت العالم بشكل لا يمكن تفكيكه، وإنما من الضروري أن تمتد وتتبدل العولمة لتشمل التعاون في مجالات كالوقاية الصحية ومكافحة الأوبئة، وأن تخصص الموارد الكافية لذلك بدلا من تخصيصها لمجالات كالتسلح مثلا. لم يخلق فيروس «كورونا» بسبب العولمة، لكن العولمة هي من ستنجح في محاربته من خلال بلورة رؤية فاعلة، مبنية على انعدام الأنانية والتفاف الأفراد نحو العمل الجماعي وتشارك المعلومة والمعرفة، تماما كما نجحت في الخروج من أزمات مشابهة شهدناها في العقود الماضية.
ثانيا: قد تنتج عن أزمة «كورونا» سلوكيات اجتماعية جديدة مبنية على التباعد الاجتماعي، والإقلال من الحركة الحيوية وتفعيل التواصل الإلكتروني، والاستعاضة عن النشاطات الاجتماعية التقليدية باجتماعات افتراضية عبر الإنترنت وغيرها من وسائل التكنولوجيا. كما قد يبدو للبعض أن المرحلة المقبلة ستشهد انحسارا في العمل السياسي وتقوقع المنادين بالإصلاح السياسي، من منطلق أن الإجراءات الاستثنائية في مواجهة هذا الوباء، قد فرضت واقعَ حالٍ جديدا يبرر تعليق الحقوق والحريات الشخصية في سبيل الصالح العام أيا كان. لكن لا يجوز أن يتم الخلط بين تقديم الصالح العام وغياب المشروعية، بين مفاهيم الإصلاح السياسي وأدواته التي تتغير بتغير الظروف والضرورات، وبين التباعد الاجتماعي والحاجة لتقارب سياسي ومجتمعي داخل الدول، فالقيم الأساسية التي تشكل جوهر الإصلاح السياس،ي تبقى محصنة حتى في ظل الظروف الاستثنائية والحاجة للتساوي في المواطنة، وعدم التمييز في الحقوق والواجبات، هي سبب جوهري لتحقيق التضامن الاجتماعي المطلوب لمواجهة الأزمات، من خلال الاستجابة لتدخل الدولة للتعاطي مع مثل هذه الأزمات، وفرض إجراءات ضرورية قد تكون قاسية، سواء أكانت هذه الأزمات صحية أم سياسية أم اقتصادية أم مجتمعية. ما يجب مقاومته في عالم ما بعد «كورونا»، هو محاولة بعض الدول إبقاء بعض القيود على مواطنيها التي إن كانت تصلح في ظروف مقاومة الوباء، إلا أنها بعد زوال الأزمة تصبح عائقا للتنمية والبناء على نجاح الدولة في مواجهة أزمة وجودية ضربت صميم العمل الإنساني وإنتاجيته. ما يحتاجه العالم هو المزيد من الانفتاح والديمقراطية، وليس المزيد من السلطوية.
ثالثا: لقد أثبتت أزمة «كورونا» أن الدول التي لديها نظم حوكمة فاعلة، هي الأقدر على مواجهة الأزمات والتغلب عليها. لا تستطيع دول العالم أجمع، ولا يستطيع العالم العربي تحديدا، تجاهل دور نظم الحوكمة في بناء الأرضية المناسبة لمستقبل واعد. ولا يستطيع أحد أن يعزل تطوير نظم صحية فاعلة، مثلا عن تطوير نظم حوكمة فاعلة في باقي المجالات، فالحوكمة لا يمكن تجزئتها بعد اليوم، والأخطار المحدقة بالعالم تتطلب معالجات كلية تنال المجالات كافة.
أزمة «كورونا» يمكن أن تكون حافزا لبداية جديدة تبني نظم حوكمة مختلفة في المجالات كافة، قادرة على التعامل مع تحديات القرن الحادي والعشرين، كما يمكن لها أن تكون مقدمة لمستقبل أكثر سوادا. في عالم اليوم لن يساعدنا أحد ما لم نساعد أنفسنا.

 

عن صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية

0
التعليقات (0)