قضايا وآراء

الناس بين مطرقة الفيروس وسندان الكابوس

علي عقلة عرسان
1300x600
1300x600

يقول النَّطاسيون في الطب "إن فيروس سارس ـ كوف ـ 2، الذي يسبب المرض كوفيد ـ 19، "كورونا".. يتوعد المسنين الذين تجاوزت أعمارهم الثمانين عاماً بالموت، لا سيما المصابين منهم بأمراض مزمنة كالسُّكري والسَّرطان وغيرهما.. وهذا قول له مِصداقيته العلمية ـ العملية، ونتائجه الملموسة عبر البلدان والقارات اليوم في زمن الوباء الجائحة "كورونا". إلا أن تلك المِصداقية ليست قاطعة مانعة رادعة عند شرائح اجتماعية في بلدان كثيرة.. فهناك من يواجه هذه المصداقية بتشكيك، وهناك من يواجه المرض بعبثية واستهتار ولا مبالاة وشبه عدمية، ويرد على وعد الإماتة الفيروسية النطاسية بسخرية، كمن يردِّد مع جرير بن عطية التميمي اليربوعي قوله:
 
زَعَم الفرزدقُ أن سيقْتُلَ مِرْبَعاً     أَبشرْ بطولِ سَلامةٍ يا مِرْبَعُ

وهناك من يواجه الواقع الذي تفرضه والأقوال المتداولة حول المرض بتفاؤل واطمئنان إلى قدرة العلم على التحكّم بالفيروس وردع الجائحة.. وهناك من يواجه الأمر بإيمان وتسليم وتوكُّل على الله مردداً قوله تعالى: ? قُل لَن يُصيبَنا إِلّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَولانا وَعَلَى اللَّهِ فَليَتَوَكَّلِ المُؤمِنونَ ?51? ـ سورة التوبة.. وهناك مؤمنون مطمئنون إلى حكم الله وإلى أنهم آيبون إلى رحمته على كل حال وفي أيِّ حين، يتلون: ?وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُم لا يَستَأخِرونَ ساعَةً وَلا يَستَقدِمونَ ?34? سورة الأعراف.. وكأني بكثير من المعنيين والمصابين والمراقبين يقولون " سيدرككم الموت.."، وبعضهم يقول مقالة عبد العزيز بن عمر بن نباتة السعدي التميمي " - 327هـ 405 هـ ـ (939م ـ 1015م):
 
ومَن لم يمُتْ بالسيفِ ماتَ بغيرِه       تعدَّدتِ الأسبابُ والدَّاءُ واحـدُ
فصبراً على رَيبِ الزَّمان فإنَّمــــــا       لكم خُلِقَت أهوالُه والشَّدائدُ

ومنهم من يصبر ويمتثل ويردد ما قاله أبو ذُؤيب الهُذَلي خالد بن خويلد:
 
أَمِنَ المَنونِ وَريبِها تَتَوَجَّعُ               وَالدَهرُ لَيسَ بِمُعتِبٍ مِن يَجْزَعُ
لا بُدَّ مِن تَلَفٍ مُقيمٍ فَاِنتَظِر           أَبِأَرضِ قَومِكَ أَم بِأُخرى المَصْرَعُ

وهناك من لا يهدأ له بال، ويؤرِّقه القلق ويعيش الهواجس والرهق، وهناك من ينعم في الشقاء بلا مبالاة، مِصداق قول المتنبي:

ذُو العَقْلِ يَشْقَى في النَّعيمِ بعَقْلِهِ           وأَخو الجَهالَةِ في الشَّقاوةِ يَنْعَمُ 

إنه ما من شَكٍّ في أن هذا المرض أرعب الكثيرين وأبكاهم، وكشف مستورات من العجز البشري كثيرة وكبيرة، وألقى الضوء على ضحالات في التفكير والتدبير، وعرَّي عنصرية بغيضة كامنة في بعض الأنفس البشرية المتحكمة والحاكمة، وأظهر تبعية وسائل إعلام لموجهين للرأي العام ولسياسات غير مسؤولة تفسد العقول والضمائر والأرواح والأنفس.. ويدخل في هذا المضمار من قال إن هذا الفيروس "خَلَّصنا وسيخلصنا من كبار السن الذين يشكلون عبئاً على الاقتصاد والمجتمع"؟!، ومن قال "فلنترك مَن هم فوق الثمانين من العمر من دون علاج ليخفَّ الضغط الذي يشكلونه على المشافي والناس"؟! ومن يقول "مصيبة قوم عند قوم فوائد"، فالمرض القتال "يوفر فرصاً أمام الأجيال القادمة بموت أجيال قديمة، تخلي الطريق وتخفف الأعباء..".

 

لقد أصبح الوباء "وباءً عالمياً"، وبهذا المعنى فإننا جميعاً في الفخ، والرابح منا في الوقت الراهن خاسر في الوقت القادم، لأننا جميعاً في المركب البشري الواحد المتربع على يابسة من الأرض

 
على أن هذا الداء أرانا أنفسنا بأحجامها الحقيقية ونبش بعض الأعماق فيها، وأعادنا إلى عصر ما قبل الطائرة والمترو، وأغلق المدارس والجامعات والمساجد والمعابد والمتاحف والمطاعم والمقاهي، ومنع التجمعات وفرض حالة الطوارئ ومنع التجول، وساهم في التخفيف من تلوث البيئة، وحاصرنا وحصرنا في بيوتنا وأعطانا عطلات إجبارية مدفوعة القيمة، كلياً أو جزئياً، يرتاح خلالها المتعبون ويلتئم شمل الأُسَر.. وفتح صناديق الدول لصرف مئات مليارات الدولارات في مجالات البحث العلمي ـ الصحي على الخصوص، ولتصنيع اللقاحات والأدوية ومساعدة المتضررين من الوباء.

وفي خضم المصيبة تبادل معنيون بالتآمر والمؤمرات ومتسابقون على الزعامة الدولية، تبادلوا التهم والتصريحات المُلَغَّمة.. وقالت ألسُنٌ تنطق بما يوحون "إن الفيروس تصنيع دول ضالعة في تطوير أسلحة الحرب البيولوجية"، في إشارة إلى الدول العظمى لا سيما الولايات المتحدة الأميركية والصين، وأشاروا إلى تجارب وخفاشٍ حامل للفيروس هرب من مختبر ونشر الفيروس.. إلخ،"، وإن فيروس كورنا مجرد فخ نصبه الأمريكيون للعالم لكي يُرهبوا ويَنهبوا، وإنه تهويل ودعاية ضخمة لخدمة مصالح خاصة وترويج سُلَع وجني أرباح.. 

وقد أدى ذلك كله إلى أزمات حادة في بلدان كثيرة، وإلى رعب لدى الناس وتزاحم شديد على شراء أغذية وسِلع وبضائع وأجهزة وأدوية ولقاحات، وإلى اتخاذ إجراءات جعلت شركات ومؤسسات عالمية كبرى تفلس أو تهدَّد بالإفلاس، وشعوباً تدخل في ضائقات شديدة، ودولاً تقوم بإجراءات لها مردود سلبي شامل عليها، واضطرها إلى أن ترصد مليارات الدولارات لمواجهة الأزمات الناتجة عن فيروس كلف العالم خسائر بشرية وأخرى مادية تبلغ بلايين الدولارات، وفعل في الناس ما فعل من هول، لا سيما على المستوى المعنوي "النفسي"، والمادي الاقتصادي والمالي.

ورغم أن ليست للفيروس، أي فيروس، هوية أو جنسية أو وطن أو انتماء، وأنه قد نشأ في الطبيعة بتفاعلات وتواصل بين الكائنات الحية ومنها البشر، ويهدد البشرية كلها بكارثة.. إلَّا أن عنصريين عريقين على رأسهم دونالد ترامب لم يتورعوا عن نسبته للصين التي احتجت بشدة على ذلك، وكانت قد قالت في أوقات سابقة إن جندياً أميركياً نقله إلى أوهان في مقاطعة خوبي الصينية فانتشر هناك ومن هناك. 

وفي مظهر آخر رأينا ترامب ذاته، المعادي للإسلام والمسلمين وللأقليات والسود في الولايات المتحدة الأمريكية، المفاخر بالبِيض والمنحاز إليهم هناك، بسلوك عنصري لا ديني ولا إنساني.. رأيناه يتمسَّح بالدين فيدعو لإقامة الصلاة في بلاده والدعاء للتخلص من كورونا، وفي الوقت ذاته يردُّ على مناشدة الصين وروسيا برفع العقوبات عن إيران إنسانياً في هذه الظروف لتتمكن من مواجهة المرض المستفحل بزيادة العقوبات على إيران، ويساوم الملياردير الألماني "ديتمر هوب" Dietmar Hopp على شراء علاج في مرحلة التطوير ضد الفيروس "سارس ـ كوف ـ 2" لاستخدامه حصرياً فقط للشعب الأمريكي"؟!.. فأية قيم، وأي تجارة، وأي تناقض وأي هزال أخلاقي وإنساني في سياسات وسياسيين طالما ادعوا " ضمان الحقوق والحريات في العالم" وطالما بطشوا وظلموا ونهبوا وفَجَروا.

 

ها نحن وإياهم في المركب الواحد المثقوب، نستشعر كابوساً من فيروس، ونتثاغى كباراً وصغاراً خوفاً من أصغر أصاغر خلق الله، من " فيروس" لا يُرى بالعين المجردة، ولا تقضى عليه الأيديولوجيات والسياسات والعصمويات، ولا الأسلحة النووية التي كدَّسها الطُّغاةُ البُغاةُ وكرسوها لإبادةِ بني البشر.

 
لقد أصبح الوباء "وباءً عالمياً"، وبهذا المعنى فإننا جميعاً في الفخ، والرابح منا في الوقت الراهن خاسر في الوقت القادم، لأننا جميعاً في المركب البشري الواحد المتربع على يابسة من الأرض مساحتها 148,9 مليون كم2 من مساحة الكرة الأرضية البالغة 510.1 كم2، أي بنسبة 71% نسبة مياه و29% أرض.. ومركبنا رغم رسوخه يروج من موج فيروس.؟!
 
من المؤسف أن ظاهرات وممارسات سياسية وصفات بشرية غاية في السلبية موجودة وراسخة في تكوين أشخاص وفي ثوابت سياسات، لا تنم عن إنسانية ولا تستفيد من تجربة ولا ترحم الإنسان في الكوارث، وهي ظواهر تكثر وتتفاقم في أوساط ماديين ومنافقين ومغامرين لا يؤمنون ولا يرعوون، وتراها طاغية عند ملحدين وعنصريين وصهاينة متوحشين، وعند طغاة وقتلة ونهابيين يمتصون دم البشر ويقتلون ويدمرون.. يكفرون بالله وينسونه في الأمن والرخاء، ويتذكرونه ويدعونه في المُلمَّات وعندما تتهددهم المخاطر.. فسبحان الله تعالى من قائل: ?فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ?65? سورة العنكبوت.. 

وها نحن وإياهم في المركب الواحد المثقوب، نستشعر كابوساً من فيروس، ونتثاغى كباراً وصغاراً خوفاً من أصغر أصاغر خلق الله، من " فيروس" لا يُرى بالعين المجردة، ولا تقضى عليه الأيديولوجيات والسياسات والعصمويات، ولا الأسلحة النووية التي كدَّسها الطُّغاةُ البُغاةُ وكرسوها لإبادةِ بني البشر.. وهاهم الفاشلون يرتعدون من فيروس مجهول أوصلهم حدَّ القنوط والذهول؟!. 

فسبحانَ الله والحمد له على كلِّ حَال.

التعليقات (0)