قضايا وآراء

صورة الغرب مشوهة لدينا.. كذلك!

أحمد القديدي
1300x600
1300x600

في زحمة هذه المؤتمرات والندوات والحلقات العربية التي تنعقد هنا وهناك في عواصمنا حول موضوع صورة العرب والمسلمين المشوهة في الغرب أو في الإعلام الغربي أو لدى الرأي العام الغربي.. وقد حظيت بالإسهام بقسط في بعضها، آخرها في جامعة السوربون بدعوة من زملائي أساتذة الحضارة العربية بالسوربون، خرجت بخلاصة موضوعية وهي أننا نحن العرب نجهل الغرب كما يجهلنا هو.

 

ليس لدينا خبراء في الحضارة الغربية

وللحقيقة كنت شخصيا خائفا يوم الثلاثاء الماضي حين أعلن عن إطلاق نار في مدينة ألمانية ومقتل 10 مواطنين ... خائف من أن يكون الجاني إرهابيا مسلما قتل مواطنين ألمان أبرياء ثم تنفست الصعداء حين أعلن أن القاتل عنصري مسيحي نازي، وأن الضحايا مسلمون أبرياء رحمهم الله! 

أعتقد أن إثارة هذا الموضوع اليوم أمر موفق وضروري لأن القضية حقيقية وتستحق النقاش وتقديم الحلول.. ولها انعكاس على وصول الأحزاب اليمينية العنصرية للسلطة في بلدان الاتحاد الأوروبي لكن لا أحد أثار الوجه الثاني للموضوع وهو أن صورة الغرب كذلك مشوهة لدينا نحن العرب والمسلمين.

 

علينا أن نرى الغرب بعيون الحقيقة ونحلله ونفهمه ونتعامل معه كما هو.. لا كما يجب أن يكون في خيالاتنا.


وهذا الوجه الثاني يحمل درجة الخطورة نفسها إن لم يكن أكثر لأن للغرب منذ قرون مستشرقين ومستعربين، وليس لدينا نحن "مستغربون" أي خبراء في حضارة الغرب وعارفون بشؤونه. والنتيجة هي أن الغرب عرفنا ودرسنا وعجننا وطبخنا منذ القرن السابع عشر، ونحن ظللنا نجهله ونتجاهله، فاعترف الغرب بالاستشراق علما كاملا ولم نعترف نحن بالاستغراب.

ولعل الله أكرمني بالعيش في إحدى عواصم الغرب باريس على مدى ثلث قرن اضطراراً لا اختياراً فكان لي بالرغم مني شأن بل شئون مع المجتمعات الغربية، ثم أكرمني معهد شيلر العالمي لحوار الحضارات فانتدبني محاضرا حول العلاقات بين الإسلام والغرب من المنظور التاريخي والثقافي والاستراتيجي، فحاضرت في واشنطن وبون وروما وباريس وبروكسيل وغيرها من المدن الغربية واكتشفت أننا لا نعرف الغرب.

 

وحين أقرأ الآن الأدبيات العربية وأجدها "مانيكائية" (نسبة للحكيم اليوناني مانيس الذي يقسم العالم إلى خير محض وشر محض)، فنجد ثلة أيديولوجية إسلامية تكفر الغرب تكفيراً وتلعنه في الصباح والمساء وتحمله جميع مصائبنا وجميع أخطائنا كما نجد ثلة أيديولوجية استغرابية تريد إلحاقنا بالغرب على الطريقة الأتاتوركية "نسبة لمصطفى كمال أتاتورك"، وتعلق في عنق الغرب باقات الزهور وتضع على صدره الأوسمة وتنادي به قيمة عليا ومثلا ساميا يجب أن نقلده قبل فوات الأوان. وهاتان النظرتان تدلان على جهل متجذر للغرب ولتصحيح صورة الغرب المشوهة هذه لدينا.

 

الغرب ليس وطنا جغرافيا

علينا أن نعرف أبجديات بديهية أهمها: الغرب غير موجود كما نتصوره، فالغرب ليس وطنا جغرافيا تحده حدود لأنه يعني في الواقع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي أساسا، وهاتان الكتلتان الكبيرتان مختلفتان جذريا، فأمريكا حديثة العهد بالمؤسسات السياسية وأوروبا قارة قديمة نشأت فيها المؤسسات الديمقراطية الحديثة منذ الثورة الفرنسية 1789.

 

ثم إن أمريكا خليط هائل من الأعراق والثقافات عرف الدستور الأمريكي كيف يصهرها صخرا ويمزجها مزجا حتى كون منها جميعا وعلى مدى قرنين أمة واحدة فيها الأيرلندي والألماني والفرنسي كما فيها اللاتينوس الأحمر والآسيوي الأصفر كما فيها المسلمون والعرب. وأمريكا وحدها استطاعت أن تسير مظاهرة شارك فيها مليون مسلم بواشنطن استجابة لنداء الزعيم لويس فرقان في بداية الثمانينيات..

 

أما في أوروبا، فالمسلمون.. الأوروبيون من أفضل المسلمين حالاً من حيث مستوى المعيشة وصيانة الحقوق وقداسة الحريات وتنظيم المنظمات وعددهم هناك يقارب الخمسين مليونا اذا احتسبت البلقان قبل أن تستفحل ظاهرة الإسلاموفوبيا. 

فما نسميه الغرب إذن هو غربان: الغرب الأمريكي والغرب الأوروبي، وفي كليهما يسجل الإسلام حضوره بقوة في مجالات الاقتصاد والثقافة والانتخابات، ولكننا بعكس الأمم الأخرى لم نستفد من حضورنا في الغرب لأسباب عديدة أبرزها:

1 ـ الانقطاع -أو القطيعة- بين جالياتنا وبين حكوماتنا.. فليس هناك جسور دائمة وقنوات موظفة للتنسيق بين هذه القوى الحية العاملة في الغرب، وأحيانا في أعلى هرم الأحزاب السياسية والجامعات والمؤسسات العلمية والمنظمات الأهلية ومجالات الاستثمار والمال والإعلام، وبين حكومات دولنا العربية. عكس ما تقوم به الجاليات اليهودية وارتباطها العضوي بحكومات إسرائيل المتعاقبة، وعكس ما تقوم به الجاليات الصينية أو السلافية أو اللاتينية مع حكومات دولها. 

وتقتصر العلاقة بين بعض حكوماتنا وجالياتنا في طلب خدمة سياسية وإعلامية تفيد الأنظمة الحاكمة ولا تخدم أهدافا استراتيجية كبرى لها اليوم الأولوية، هذا إن لم تصنف النخبة العربية المتواجدة في عواصم الغرب على أنها من وجهة نظر حكومات دولها مارقة ومناوئة وهدامة في حالة تعودها على الآليات الديمقراطية والجهر برأي مختلف أو إسداء نصيحة لوجه الله والوطن. 

 

ما نسميه الغرب إذن هو غربان: الغرب الأمريكي والغرب الأوروبي، وفي كليهما يسجل الإسلام حضوره بقوة في مجالات الاقتصاد والثقافة والانتخابات


2 ـ أما السبب الثاني لسوء التفاهم بيننا وبين الغرب فهو اعتقادنا بأن دوله جمعيات خيرية من واجبها أن ترعانا وترحم قضايانا وتضرب أعداءنا، فهذه الدول هي في الغالب الدول المنتصرة على النازية في الحرب العالمية الثانية، وقد انتهزت انتصارها عام 1945 لتنسج شبكة من المؤسسات الدولية العالمية لإدارة العلاقات الدولية وفق مصالحها.. ومصالحها فحسب مثل توظيف ميثاق منظمة الأمم المتحدة وإقرار حق النقض "الفيتو"، ومثل إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك العالمي للإنشاء والتعمير، ومثل إقرار حق التدخل في الدول الأخرى، كما أعلن مجلس أمن قدّوه على قياسهم. 

واليوم فإن ما نراه من سلوكيات العولمة وقوانين المنظمة العالمية للتجارة وما نشهده من انحياز غربي لإسرائيل خاصة الموقف المتعصب لإسرائيل مع الرئيس ترامب، ما هو إلا نتيجة لاستفراد تلك القوى الغربية بالتقنين الدولي على مدى أجيال. والغرب ذاته منقسم إلى أمريكا متعملقة وأوروبا رافضة.. فصورة أمريكا مشوهة كذلك في أوروبا ونحن لا نعلم، وهي أسوأ مما نتصور لأسباب عديدة. 

لكل هذه الأسباب علينا أن نرى الغرب بعيون الحقيقة ونحلله ونفهمه ونتعامل معه كما هو.. لا كما يجب أن يكون في خيالاتنا. فلننظر في أنفسنا إلى جانب النظر في الآفاق.. لعل كثيرا من الخلل موجود فينا ونحن لا ندري!

التعليقات (0)