قضايا وآراء

إدلب بين فكي الضباع

أميرة أبو الفتوح
1300x600
1300x600
منذ ما يقرب من عامين تتعرض محافظة "إدلب" السورية لقصف عنيف من قوات السفاح "بشار" والمجرم "بوتين"، لقي فيها عشرات الآلاف من سكانها حتفهم، إما بالقنابل المُحرمة دولياً أو بالقنابل الفتاكة والبراميل المتفجرة أو تحت أنقاض منازلهم التي هُدمت فوق رؤوسهم. وهُجر مئات الآلاف من مدنهم وقراهم ولم يعد لهم مأوى إلا على الحدود التركية؛ يفترشون الأرض تحت أشجار الزيتون، ويلتحفون السماء، فلم يجدوا حتى خيمة تسترهم وتحميهم من الثلوج التي جمدت أجسادهم، فلقد أصبحت الخيمة ترفاً لهؤلاء النازحين!!

تشهد "إدلب" أكبر مأساة إنسانية في القرن الواحد والعشرين، تُرتكب فيها جرائم حرب، بنفس وحشية جرائم النازية وجرائم المغول، والعالم كله صامت؛ يرى بأم عينيه تلك المجازر الوحشية التي يندى لها الجبين الإنساني؛ ومع ذلك لا يرف له جفن ولا يرجف له قلب ولا يتحرك له ضمير، فقد مات الضمير العالمي ولم يعد له وجود في عالم منافق أعور يرى بعين واحدة!

"إدلب" تلخص مأساة الثورة السورية التي تكالب عليها الجميع، القريب قبل البعيد، لإجهاضها والانقضاض عليها.. كل ينهش في جسدها الجريح ليقطتع منه ما استطاع لنفسه، ويفوز به ويفر بغنيمته، تاركا إياها غارقة في دمائها!

الثورة السورية المظلومة، تخلى عنها كل من كانوا يسمون أنفسهم "أصدقاء سوريا"، وذهبوا لنيل نصيبهم من الغنيمة!!

"إدلب" هي آخر بقعة من بقايا الثورة السورية الجريحة، وهي آخر قلاع الحرية التي لجأ إليها الثوار والأحرار المناهضون لنظام السفاح بشار من جميع المحافظات السورية. وهذا السفاح يحاول بمليشياته الإجرامية في الأيام الأخيرة، أن يدخلها ويستولي عليها، بدعم من روسيا وإيران، مما يعني أن هاتين الدولتين قد داستا على اتفاقية "سوتشي" 2018 بأحذيتهما، وأخلتا بالاتفاقية فنقضتا عهدهما مع تركيا، الدولة الضامنة لمراقبة وقف إطلاق النار في إدلب، وجعلتا نظام الأسد الوحشي يشن غاراته المكثفة عليها، ويقصف المناطق التي سميت بـ"خفص التصعيد". وتحت بصرهما تمادى النظام في تدمير ما تبقى من "إدلب" الجريحة، وقتل المئات من المدنيين العُزل، وفر ما يزيد عن المليون سوري من جحيم النظام المجرم مشياً على الأقدام في البرد القارس وتحت الأمطار الكثيفة!!

ورغم المرات العديدة التي خرق فيها نظام "الأسد" اتفاقية "سوتشي" وشن هجمات عنيفة على إدلب بضوء أخضر روسي، أغضبت الطرف التركي، ولكن الأخير لم يوجه اللوم إلى روسيا، رغبة منه لعدم التصعيد والصدام معها؛ بل كان دائماً يوجهه للنظام ويلقي بالمسؤولية عليه، إلا أنه في الهجوم الأخير الذي طال قواته العسكرية، حمل روسيا المسؤولية الكاملة..

هنا فقط تحركت تركيا، بعد أن قُصفت نقاط المراقبة التركية، وقتل الجنود الأتراك، ما اعتبر إهانة لشرف العسكرية التركية. وردت تركيا بقتل ما يزيد عن مئة جندي من مليشيات الأسد وإعطاب رتل من الدبابات، واعتبرت اتفاق "سوتشي" في عداد الموتى، بل أصبح مسار "أستانا" برمته في مهب الريح. وارتفع سقف التصريحات أو لنقل التهديدات التركية. فهي على علم بأن نظام الأسد لا يجرؤ على فعلته هذه، إلا بضوء أخضر روسي؛ أو ربما الطيران الروسي نفسه هو الذى قام بهذه العملية رداً على إسقاط طائرته في تركيا عام 2015 ومقتل طيارين، كما أكدت صحيفة "يني عقد" التركية، نقلاً عن مصدر عسكرى تركي، حيث قال إن سجلات الرادارات التي تم نشرها في المنطقة أكدت مسؤولية روسيا عن الهجوم، وأن تبني نظام الأسد هدفه التمويه، مؤكداً أن بلاده أجرت اتصالات مع روسيا حول الموضوع.

تصاعد التراشق بين أنقرة وموسكو إلى حد غير مسبوق، وباتت العلاقات بين البلدين على شفا حفرة من النار، ولم تفلح المفاوضات بينهما لحل الأزمة بين البلدين أو حتى التوصل إلى تفاهمات يُبنى عليها اتفاق جديد بديلا عن "سوتشي"، فالفجوة بينهما عميقة وكبيرة. فالجانب الروسي يريد تمكين النظام السورى من السيطرة الكاملة على "إدلب" في المدى البعيد، وتثبيت ما كسبه حتى اللحظة كنقاط تماس جديدة، تحسب له في التفاوض مع أنقرة في المدى القريب، بينما الجانب التركي متمسك باتفاق "سوتشي" وانسحاب النظام إلى الحدود التي حددها الاتفاق؛ أي خلف نقاط المراقبة التركية، وتثبيت وقف إطلاق النار، وقد أعطى النظام مهلة للانسحاب حتى نهاية الشهر الحالي..

مما لا شك فيه، أن التصريحات القوية للجانب التركي، سواء التي جاءت على لسان الرئيس "أردوغان" أو على لسان وزير الدفاع التركى "خلوصي أكار"، توحي بأن تركيا جادة هذه المرة في مواجهة نظام "الأسد" ولو تطلب ذلك عملاً عسكرياً. فقد ضاعفت عدد قواتها العسكرية في وحداتها المنتشرة على الحدود السورية جنوبي البلاد، وترسل يومياً أرتالا من التعزيزات العسكرية، تضم حافلات على متنها عناصر من الكوماندوز والدبابات وعربات مدرعة وسيارات إسعاف مدرعة، كما ذكرت وكالة الأناضول.

أضف إلى ذلك أن جميع الأحزاب التركية بل والأشدها خصومة وعداءً للرئيس "أردوغان"، تقف خلفه وتطالبه بضرورة ضرب نظام الأسد لرد الاعتبار للجيش التركي.. ناهيك عن التصريحات الأمريكية القوية الداعمة له؛ والتي تذكرت مؤخراً أن تركيا عضواً في حلف الناتو ويجب مساندتها وحقها المشروع في الدفاع عن حدودها وما إلى ذلك! وهي في نفس الوقت تدعم الحركات الكردية الانفصالية؛ وهناك مؤشرات مؤكدة تدل على مشاركة "قسد" بالمعارك ضد الجيش التركي..

العملية خطيرة ومعقدة للغاية، فإذا نفذ الجانب التركي تهديداته وقام بعملية عسكرية ضد النظام؛ حتى وإن كانت محدودة فلا بد من الصدام مع روسيا، وهما لا يسعيان إلى ذلك بالطبع؛ فبينهما مصالح مشتركة كثيرة، في ليبيا وحوض البحر المتوسط بصفة عامة. كما أن الحرب إذا ما بدأت لا أحد يعرف مداها ولا كيف ستكون نهايتها؟ هنالك حسابات دقيقة للجانبين، ولكن مع إصرار الجانب التركي على مطالبه، لا يبقى أمام الروس إلا إجبار نظام الأسد على الانسحاب من المناطق التي احتلها، كما سمحوا وسهلوا له احتلالها، لتخفيف حدة التوتر بين البلدين، وإلا ضحوا بعلاقاتهم الاستراتيجية والاقتصادية مع تركيا، ويقع الفراق معها.

فهل ستضحي روسيا بتركيا من أجل نظام الأسد المهزوم؟! لا أعتقد؛ بل في تصوري أن تجاهل بوتين لتهديدات أردوغان وتصلب موقفه؛ ما هو إلا نوع من المراوغة الروسية، ومساعدته للنظام بعد هذه التهديدات للاستيلاء على أراض جديدة في حلب، ما هي إلا تعزيزاً لأوراقه تمهيداً للجلوس حول مائدة المفاوضات. فروسيا لا مصلحة لها بإعلان الحرب؛ لأنه يضيع عليها جهود سنوات من المفاوضات. والأجندة الروسية تعتمد على الجانب التركي، وبوتين غير مستعد للخسارة في سوريا؛ خاصة أنه لم يجن ثماره بعد منذ احتلاله لسوريا، لا عسكرياً ولا سياسياً. كما أن الجانب التركي غير مستعد أيضا للخسارة لو وقع صدام مع روسيا، ولهذا أرى أن الطرفين يتجنبان سيناريو المواجهة، وأن الأزمة ستتجه نحو التسوية المرضية للطرف التركي، قبل تدحرج كرة النار..

تسارع الأحداث والتطورات الميدانية على الأرض، تعني أن الكلمة للميدان وهي التي ستحدد المسار؛ أكان بالمدفع أم بالتفاوض. ولا تنسي أن الحرب هي حالة تفاوض سياسي أيضا على الأرض!

لا شك في أن العالم كله يرتقب نهاية شهر شباط/ فبراير ليرى هل سينسحب نظام الأسد وتنتهي الأزمة بسلام، أو كما يقولون في المثل "يا دار ما دخلك شر"، أم سيعاند بأمر من روسيا، وينفذ "أردوغان" تهديداته التي لا مفر من تنفيذها؛ وإلا فقد مصداقيته أمام العالم كله، واهتزت صورته أمام شعبه ومؤيديه من الشعوب الإسلامية. وأعتقد أنه لن يضحي بها، وإن كان أعداؤه، وما أكثرهم، يتربصون به ويسلحون النظام الأسدي والأكراد ويحثونهم على الدخول في المعركة..

إن الحرب في سوريا ليست حربا خاصة، بل حربا دولية متعددة الجهات..

يقول الكاتب التركي "إبراهيم قراغول" رئيس تحرير صحيفة "يني شفق": "إن الحرب في سوريا، الهدف منها استهداف تركيا وجعلها تدخل في صراع إدلب مع نظام الأسد، ليفعلوا ما يحلو له ويتفاسمون الموارد شرق المتوسط"، منوها إلى استغلال كل من إسرائيل وفرنسا وروسيا والإمارات ومصر والسعودية واليونان؛ ورقة إدلب لإبعاد تركيا عن ليبيا.

ووصف الكاتب التركي ذلك بأنها لعبة في منتهى الخطورة؛ تشغل بها هذه الدول تركيا في إدلب وشمال سوريا لإغراقها في مياه البحر المتوسط..

ولقد سبق للزعيم التركي الراحل "أربكان" أن قال "إذا رأيت العالم يتقاتل على الأرض السورية فاعلم أنه يستهدف تركيا"..

لا جدال في أن تركيا كدولة إسلامية ناهضة مستهدفة من أطراف في الشرق والغرب لا تريد لأية دولة إسلامية أن يكون لها شأن، وتخرج من التبعية، كما أن العرب يتآمرون عليها لإسقاط "أردوغان" وهناك مئات من المليارات العربية مخصصة لاستنزاف تركيا، ولكن بلا أدنى شك أن القيادة التركية؛ تدرك هذه الحقيقة، وواعية لكل تلك المؤامرات، وهي تواجه أعداءها الظاهرين والباطنين بعد أن سقطت الأقنعة وبدأ اللعب على المكشوف..

ولكن الذي يحزنني حقاً أن تُخاض حروب الآخرين على أرض عربية ويُدفع ثمنها من دماء العرب وأرضهم!!

إن معركة إدلب معركة حاسمة. يقول الرئيس "أردوغان": "الهجوم على جنودنا في إدلب نقطة تحول بالنسبة لتركيا في سوريا، ووجودنا في سوريا يشهد ميلاد عهد جديد في إدلب، ومستعدون لدفع الثمن من أجل بقاء الشعب السورى الحر على أرضه"

وهذا ما نريده وما نتمناه، فلننتظر هذا الميلاد الجديد لإدلب وما تحمله لها الأيام القادمة بين طياتها، وإن غداً لناظره قريب..
التعليقات (0)