مقالات مختارة

فلسطين والغرب: قرن من الغدر

آفي شليم
1300x600
1300x600

تعتبر خطة ترامب بالنسبة لليمين الإسرائيلي انتصارا دبلوماسيا شبيها بوعد بلفور، أما بالنسبة للفلسطينيين فما هي سوى غدر آخر يمارسه الغرب ضدهم.

كان ناعوم تشومسكي قد وصف الاستعمار الاستيطاني بأنه أشد أشكال الإمبريالية سادية. من سوء حظ الفلسطينيين أنهم وقعوا ضحية للاستعمار الاستيطاني الصهيوني والإمبريالية الغربية في نفس الوقت على مدى القرن الماضي.

كان أول وأهم غدر مورس ضد الفلسطينيين هو وعد بلفور في عام 1917، والذي التزمت الحكومة البريطانية بموجبه بدعم إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، شريطة ألا يطرأ شيء من شأنه أن "ينال من الحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين."

كان اليهود في عام 1917 يشكلون أقل من عشرة بالمئة من سكان فلسطين بينما كان العرب يشكلون تسعين بالمئة من مجموع السكان. ومع ذلك فقد اختارت بريطانيا الاعتراف بحق تقرير المصير للأقلية الضئيلة وحرمان الأغلبية العظمى من ذلك الحق. وحسبما عبر عن ذلك الكاتب اليهودي آرثر كوستلر فقد "وعد شعب شعبا آخر بأن يمنحه بلد شعب ثالث."

خطيئة كبرى

كان وعد بلفور وثيقة استعمارية أوروبية كلاسيكية. ولقد حلت في شخصية كاتب الوثيقة، وزير الخارجية البريطاني آنذاك آرثر جيمز بلفور، الذهنية الاستعمارية، والتي ترى أن الحقوق الوطنية لسكان البلاد لا تعني شيئا بالنسبة له.

فقد كتب فيما بعد يقول: "سواء كانت الصهيونية صوابا أم خطأ، جيدة أم سيئة، فهي متجذرة في تقاليد ممتدة عبر الأجيال، وفي احتياجات حاضرة، وفي آمال مستقبلية، لمضمون أعمق بكثير من رغبات وميول سبعمائة ألف عربي يقطنون الآن تلك الأرض الموغلة في القدم." يصعب على المرء أن يجد توضيحا أشد من ذلك لما أطلق عليه إدوارد سعيد عبارة "المعرفة الأخلاقية للإمبريالية".

من وجهة نظر المصالح البريطانية، كان وعد بلفور خطيئة كبرى، بل واحدا من أسوأ الأخطاء الاستراتيجية في تاريخ بريطانيا الإمبريالي. أما من المنظور الصهيوني، فقد مثل فتحا كبيرا على طريق إنجاز مشروع الدولة، ومهد السبيل نحو الاستيلاء الصهيوني المنتظم على البلاد، وهي العملية التي استمرت بلا هوادة حتى يومنا هذا.

فمنذ عام 1920 وحتى عام 1948، كانت بريطانيا صاحبة الانتداب على فلسطين، وكان حجر الزاوية في السياسة الانتدابية هو حظر المؤسسات التمثيلية إلى أن غدا اليهود أغلبية. وحينما انتفض العرب في عام 1936 قمع الجيش البريطاني ثورتهم بوحشية شديدة.

لم تضع فلسطين في أربعينيات القرن العشرين كما هو رائج وإنما في الثلاثينيات منه، حيث لعبت بريطانيا دورا محوريا، وإن كانت لا تعترف بذلك حتى الآن، في خلق المأساة الفلسطينية.

رابحون وخاسرون

ينسجم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تماما مع هذا النمط من خدمة المصالح الصهيونية على حساب الفلسطينيين. فمن خلال رؤيته المبسطة للعالم، لا يوجد سوى رابحين وخاسرين – وبالنسبة له، فإن الإسرائيليين هم الرابحون بينما الفلسطينيون هم الخاسرون على الدوام. وبذلك تجده قد تخلى تماما عن مجرد التظاهر بالإنصاف والتصرف كوسيط نزيه.

بدلا من ذلك، تولى ترامب دور محامي إسرائيل، فما كان من إدارته إلا أن انقلبت بشكل سريع ومفاجئ على السياسة الأمريكية معلنة أن المستوطنات الإسرائيلية المقامة على الأراضي الفلسطينية المحتلة باتت مشروعة وأنها لا تشكل عقبة في طريق السلام. لم يكتف ترامب بدعم دولة إسرائيل، بل تحالف مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ومع المستوطنين اليمينيين المتطرفين الذين وضعوا نصب أعينهم هدف ضم معظم مناطق الضفة الغربية المحتلة إلى إسرائيل الكبرى.

منذ أن وصل إلى السلطة، وجه ترامب سلسلة من اللكمات للشعب الفلسطيني، حيث اعترف بالقدس كاملة عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب إلى القدس، وأوقف تمويل الولايات المتحدة للأونروا، وهي الوكالة التي ترعى شؤون اللاجئين الفلسطينيين، وسحب المساعدة المالية التي تقدم للسلطة الفلسطينية، واعترف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان المحتلة، وأغلق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن.

ثم في الثامن والعشرين من كانون الثاني/ يناير الماضي، كشف ترامب عن خطته المسماة "صفقة القرن" والتي طالما روج لها وأجل الإعلان عنها، واصفا إياها بالفرصة السانحة التي تعود بالخير على الفلسطينيين.

تعترف الخطة بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل وتمنح إسرائيل الحرية المطلقة في ضم المستوطنات اليهودية غير المشروعة في الضفة الغربية وكذلك ضم وادي الأردن الخصيب الذي يشكل سلة الخبز بالنسبة للمجتمع الفلسطيني. وتُمكن الخطة إسرائيل من الاحتفاظ بالسيطرة المطلقة على الأمن في الضفة الغربية وعلى ما فيها من شبكة طرق سريعة وأنفاق وقواعد عسكرية.

التجرد من الأخلاق

في ذات الوقت، مطلوب من الفلسطينيين الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية والتوقف عن المطالبة بالعدالة إزاء ما ارتكب في حقهم من جرائم حرب.

أما الدولة الفلسطينية بحسب ما تتصوره الخطة، فستكون دولة منزوعة السلاح، ولها عاصمة تقع في ضواحي القدس الشرقية وتقتصر أراضيها على قطاع غزة وبعض الجيوب المتقطعة في الضفة الغربية. لن تكون لفلسطين حدود مع أي من الدول العربية المجاورة ولا سيطرة لها على مجالها الجوي ولا على مياهها ومواردها الطبيعية الأخرى.

إنها خطة لإقامة مجموعة من البانتوستانتات الجرداء المحاطة من كل مكان بالجيش الإسرائيلي وبأعداد متزايدة من المستوطنين اليهود. وهي بذلك أشبه ما تكون بالسجن منها بالدولة. ومقابل الموافقة على هذه الخطة المجحفة، غير المنصفة وغير القانونية، يوعد الفلسطينيون بتلقي مبلغ خمسين مليار دولار على مدى خمس سنوات، مصدرها ليس الخزانة الأمريكية وإنما دول الخليج.

لم يكن عجبا إذن أن يُقبل نتنياهو على خطة ترامب بابتهاج شديد، فهي في الأساس خطته التي تحقق له كل ما يتمناه. وفوق كل ذلك، وكما يجمع مؤيدو ومعارضو الخطة، فإنها ستكون بمثابة المسمار الأخير في نعش حل الدولتين وحلم إقامة دولة فلسطينية مستقلة.

ولا عجب أيضا أن تُجمع كل الفصائل الفلسطينية على الرفض الشديد لهذا العرض، وذلك أن ما يعرضه ترامب ليس خطة للسلام، وإنما خطة منبثقة عن نظام الفصل العنصري (الأبارتايد). إنه محاولة سافرة لشرعنة الاحتلال غير القانوني وإخضاع ملايين الفلسطينيين للسيطرة الإسرائيلية الدائمة. وإذ تفوح منها رائحة الذهنية الاستعمارية، فإن هذه الخطة تخلو من أي معنى للأخلاق ولا تتوفر فيها حتى أدنى مستويات الفضيلة الإنسانية.

تعتبر خطة ترامب بالنسبة لليمين الإسرائيلي انتصارا دبلوماسيا مذهلا شبيها بوعد بلفور، أما بالنسبة للفلسطينيين فما هي سوى فصل أخير في ملحمة مستمرة على مدى قرن من الزمن شيمتها الخديعة والغدر الذي تمارسه القوى الغربية ضدهم.

 

نقلا عن (ميدل إيست آي)

 
0
التعليقات (0)