كتاب عربي 21

في معنى أن رائد صلاح رجل بأمّة!

ساري عرابي
1300x600
1300x600

لا ينبغي النظر إلى الحكم الأخير على الشيخ رائد صلاح، بسجنه 28 شهرا.. بمعزل عن الخطّة الأمريكية/ الإسرائيلية لتصفية القضة الفلسطينية، والإجراءات الإسرائيلية المحمومة في سعيها لمطابقة الوقائع على الأرض مع تلك الخطّة التي تجعل من الوقائع الإسرائيلية أساسا لأيّ تسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ومن نافلة القول، والحال هذه، إنّ قضيّة المسجد الأقصى، بما يعنيه من عنوان للصراع بأبعاده المتعدّدة، ورافعة لكفاح الفلسطينيين، ومثوّر لأوضاعهم في وجه الاحتلال، تأتي في قلب الأهداف الإسرائيلية المعلنة، والمتجلّية في خطواتها العملية، والمتصلة بالقضيّة برمّتها، ولا سيما القدس.

كما لا ينبغي أن يفوت معنيٌّ بالفهم، أنّ هذه الخطّة التصفوية تنهض أساسا على إرادة دمج "إسرائيل" في المنطقة، بتطبيع وجودها، وربطها بتحالف يجمعها إلى دول عربيّة. فالغاية من الخطّة هي فكّ العرب عن فلسطين، والاستثمار في هشاشتهم وضعفهم بدفعهم لدفع الأثمان من فلسطين، بما في ذلك التخلّي عن القدس، بالمسجد الأقصى الذي تضمّه. وجانب من الضغط المُعلن على الفلسطينيين هو دعاية التطبيع الفجّة، والتي ترتكز إلى الحطّ من الفلسطينيين، والتشكيك في نضالهم وعدالة قضيّتهم. وبما أنّ المسجد الأقصى مقدّس للمسلمين كلّهم، كان لا بد من إعادة إنتاج خطاب جديد إزاءه أخذ يظهر منذ سنوات، يُقلّل من مكانته الدينية، أو يجرّده من موقعه في الصراع. وعليه، فإنّ الحامي الباقي له هم الفلسطينيون، ويأتي رائد صلاح في طليعتهم، فكان لا بدّ من تغييبه في هذه الفترة تحديدا، كما عمل الاحتلال على تغييبه والتخلّص منه عدّة مرات من قبل.

 

الغاية من الخطّة هي فكّ العرب عن فلسطين، والاستثمار في هشاشتهم وضعفهم بدفعهم لدفع الأثمان من فلسطين، بما في ذلك التخلّي عن القدس

حينما نأخذ الصورة من جوانبها كلّها، القريبة والبعيدة، فإنّه لا يمكن القول إلا أنّ رائد صلاح، قولا وفعلا، رجل بأمّة، يرى فيه الاحتلال بقيّة العرب والمسلمين الذي يتسوّرون حول عنوان الصراع، ومعنى الوجود العربي الإسلامي في فلسطين. وبعد التقدمة التي مرّت، فإنّ وصفه بذلك، ليس من قبيل الإنشائيات التبجيلية، وإنّما هي الحقيقة المنعكسة في إجراءات الاحتلال التي تستهدف هذا الرجل وحركته، ثمّ تُعيد استهدافه في هذا الوقت بالذات.

 

لم يكن الرجل ظاهرة صوتيّة، والصوت في حالته تنبيه صادق مبكّر للخطر الذي يحيط بالمسجد الأقصى، يجتمع حوله (أي صوته) عشرات الآلاف من الفلسطينيين في فلسطين المحتلة عام 1948، ويتمدّد إلى ما وراء فلسطين، ثم يحتشد في قوافل تَعْمُر المسجد، وعمارته بالبشر كانت ولم تزل من أهمّ ما يمكن فعله لحمايته، ثم تَعمُره بمشاريع الإعمار والترميم، التي حمت بعض مرافقه ومصلّياته من الاستيلاء الصهيوني عليها، ثم تَعمُره بالمؤسسات الراعية، والأفكار التي تجعله محلّ رباط دائم، بالعلم والدرس، وما سوى ذلك.

ومع أنّ الدور الذي نهضت به حركته، لم يقتصر على المسجد الأقصى، ولا على الوصل الوثيق بين فلسطينيي 1948 بإخوانهم في القدس، ولا على ما مرّ تعداده من بعض دوره وجهده في المسجد الأقصى والقدس، فإنّ هذا الدور تحديدا هو السبب الأساس في حظر حركه، ومنع نشاطها، وغلق مؤسساتها، والتي سبق لها وأُغلِقَت عديد المرات، وكانت الإرادة دائما تعيد افتتاحها بأسماء جديدة للقيام بالدور نفسه. فلو كفّ الرجل عن حماية المسجد، وحَمَل حركته على أدوار أخرى لها، ربما لكان الآن في أمّ الفحم، بلدته، محفوفا بالخطابة المُدجّنة مهما علا صوتها!

 

لو كفّ الرجل عن حماية المسجد، وحَمَل حركته على أدوار أخرى لها، ربما لكان الآن في أمّ الفحم، بلدته، محفوفا بالخطابة المُدجّنة مهما علا صوتها!

هذا الدور الطليعي في اكتشاف المكانة الأنسب للظروف الخاصّة التي تهيأت لفلسطينيي 1948، ومن ثمّ التقدّم في فعل وحركة على مستوى عناوين الصراع الكلّية الكبرى، كقضية المسجد الأقصى والقدس، لا ينتقص من بقيّة الأدوار الأخرى للحركة الإسلامية التي قادها الشيخ رائد صلاح، وجعلها مختلفة عن بقية الفاعلين في المجال السياسي الاجتماعي في فلسطين المحتلّة عام 1948. فالحركة الملتصقة بالمجتمع المحلّي، لا بقيادة البلديات التي كانت تفوز بها فحسب، ولكن بمجمل الأدوار الاجتماعية والثقافية التي قامت بها، والحركة المتعاونة مع بقية الطيف السياسي الفلسطيني في فلسطين المحتلة عام 1948، كانت فاعليتها المحلّية على مستوى الجماهير الفلسطينية داخل كيان الاحتلال، متّصلة بلا انفصام بدورها المحوري في حماية المسجد الأقصى، وهو ما يعيد تقديم فلسطينيي 1948 إلى موقعهم الطبيعي من الصراع، بعدما أخرجتهم من ذلك قيادة منظمة التحرير، وبعدما اقتصر عمل بقية الفصائل الفلسطينية على الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، الأمر الذي أحوج تلك الساحة الأصيلة إلى رؤية مختلفة، تَخْرُج بالفعل الفلسطيني من حيّز احتواء المؤسسة الإسرائيلي. ولعلّ فكرة المجتمع العصامي، ورفض الدخول في انتخابات الكنيست الإسرائيلي، مما يندرج في تلك الرؤية، والتي صدّقتها السنوات كلّها.

وإذا كان رائد صلاح مختلفا على مستوى الدور والمهمّة، وتمكّن ببصر ثاقب وثبات راسخ أن يُقدّم رؤية مختلفة، وأن يُبْدِع فعلا مؤثّرا، فإنّه كان مختلفا كذلك على المستوى الشخصي، بتواضعه الأخّاذ، وبساطته المحبّبة، ونظافة يده التي يشهد لها الجميع، وسماحته مع أهله وبقية فرقاء العمل السياسي الفلسطيني، هادئا للغاية، بعيدا عن الضجيج المجرّد من الفعل والاستعراضية الزائفة، وإنّما كان عملا حقيقيّا، لا يشفّ عن طموحات شخصيّة للرجل، بقدر ما يشفّ عن همّ عميق يسكنه بالقضايا التي يناضل لأجلها، بخلاف أكثر أهل السياسة، مهما عظُم نُبلُ قضاياهم. ومثل هذا الرجل، بهذه السمّات، هو أكثر ما تحتاجه فلسطين في مرحلتها هذه.

التعليقات (0)