أخبار ثقافية

العبقريّة المؤلمة (2)

 الجزء الأكبر من الفلم يدور حول الصراع النفسيّ المرير الذي واجهه سياليري موسيقار البلاط الملكي في فينا- تويتر
الجزء الأكبر من الفلم يدور حول الصراع النفسيّ المرير الذي واجهه سياليري موسيقار البلاط الملكي في فينا- تويتر

 يُبرز فيلم "أماديوس" للمخرج الأمريكيّ من أصلٍ تشيكيّ "يان توماس فورمان" المشهور بـ"ميولش فورمان" المواجهةَ المُحبِطة التي وجد الموسيقار "أنتونيو سياليري" نفسَه غيرَ قادر على مغادرتها طيلة حياته مع الموسيقار النمساويّ صاحب العبقريّة التي لا تُقهر "موتسارت" (1756 – 1791).

 

على الرغم من أنّ عنوان الفلم هو الاسم الثاني للموسيقار موتسارت، إلا أنّ الجزء الأكبر من الفلم يدور حول الصراع النفسيّ المرير الذي واجهه سياليري موسيقار البلاط الملكي في فينا في ذلك الوقت نتيجةً لظهور موسيقارٍ شابٍ كان قادرا على الإبهار بشكل فطريّ مُعجزٍ لا يمكن أن يجارى.


يبدأ الفلم بمشهدٍ عميقٍ للغاية يعرض لمحاولة سياليري الانتحارَ عبر محاولة قطع عروق رقبته ونقله بعد ذلك إلى المستشفى وهو في عذاب ليس جسديّا فحسب، وإنّما يتبيّن لاحقا أنّه عذاب نفسيّ هائل، وكان سببه مستمرّا مع سياليري في مثل هذه الحال بين الحياة والموت، لا سيّما أنّه وهو محمولٌ عبر الطرقات الباردة في محاولةٍ لإنقاذ حياته كان يسمع موسيقى موتسارت، لم ينسها الناس بعد سنواتٍ طويلةٍ من موته.

 

وبعد إنقاذ حياته، يحضر قسٌّ من الكنيسة إلى مستشفى المجانين الذي يوضع فيه سياليري ليقدّم اعترافه بين يديه، فيزداد الشعور بالقهر أمام عظمة موتسارت عندما يسأل سياليري ذلك القسَّ إذا كان يعرف بعض معزوفاته عبر أدائها أمامه فلم يتعرّف على أيٍّ منها، لكنّه عرف إحدى معزوفات موتسارت فور سماعه لها وتذكّر ألحانها دون أن يدرك أنّها لموتسارت. 


بعد ذلك يبدأ اعتراف سياليري ليعود إلى المراحلة الأولى من معرفته بموتسارت وحضوره إلى البلاط الملكي، معبّرا في كلّ ما يقدّمه من أحداثٍ وقعت مع موتسارت وصفات يصفه بها عن روعة تلك العبقريّة التي اعتمدت على فطرةٍ أكثرَ منها تدريبا وتعليما، مع أنّ الفلم يكرر مرّات عدّة أنّ موتسارت كان يعمل على معزوفاته بجدٍّ ويخاف على أعماله ويفخر بها إلى حدّ يجعل الآخرين يشعرون بالضيق والنفور.

 

اقرأأيضا : العبقريّة المؤلمة (1)

 

على الرغم من ذلك، يظهر موتسارت، عبر الأحداث التي يستحضرها سياليري، شخصا بسيطا غير منظّم في أمور حياته غير لبقٍ في التعامل مع الناس والقيم، لكنّ الأمر المُدمّر بالنسبة لسياليري هو مقدرته الموسيقيّة المذهلة، ليس فقط في التأليف والأداء، وإنّما أيضا في فهم قدرات الآخرين ومستوى إبداعهم وقوّة ضعفا.  


هذا جعل سياليري يقدّم مقارناتٍ تسبب له الكثير من الألم، على رأسها ما كان يحمله من إيمان وتعظيم للرب، حيث نذر نفسه مخلصا للقيم الدينيّة، مقابل بذاءة موتسارت وعلاقاته مع النساء وقدرته على الإغواء، حتى الفتاة التي أحبّها سياليري ولم يصرّح لها بذلك وقعت في هوى موتسارت.

 

هذا يجعل سياليري يعيد تشكيل موقفه الإيمانيّ، ويتساءل بعذاب لماذا تُزرع فيه الرغبة الجامحة في الموسيقى وحبّ الشهرة فيها وهو مخلص لإيمانه يصلّي معظمَ وقتِه لكنّ العبقريّة الفذّة تُعطى لفتى خليع! هذا الشكّ والتساؤل يغيّر موقفه الإيمانيّ كليّا، ويتحوّل إلى ناقمٍ على هذا المستوى، وأصبح يفسّر تفوّق موتسارت عليه على أنّه استهزاء الربّ به.

 

وهذا يولّد في نفسه رغبة لا تُقاوم في الانتقام من موترسات وإلحاق كلّ ما يستطيع من أذى به، ويصل الأمر حدّ التخطيط لقتله بعد أن تخفّى وأغراه بالمال ليكتب معزوفة جنائزيّة ليدّعي أنّه كتبها لموتسارت بعد أن يتخلّص منه! 


ومن المقارنات المهمّة التي يجريها سياليري مع موتسارت كيف أنّ والد هذا الأخير كان يشجّعه على شغفه وموهبته، بالمقابل كان والده هو يهزأ منه كلّما طلب التفرّغ للموسيقى بغض النظر عن ولعه بها، واصفا هذا النوع من العمل بأنّه مثل القرود المدرّبة! كان سياليري يدعو في صلاته أن يجعل له مخرجا من ذلك المأزق فمات والدُه، وهو ما عدّه سياليري رسالة له من الرب ليمضي في مبتغاه، من ثَمّ تُمهّد له الطريق إلى أن يصبح أشهر موسيقيّ في فينا قبل ظهور موهبة موتسارت.


ومع استمرار المقارنات والأحداث يظهر أنّ سياليري كان يهتمّ بموتسارت أكثر من اهتمامه بنفسه، ليس فقط أثناء حياة هذا الأخير، ولكن أيضا بعد موته.

 

اكتشف سياليري أنّ موت موتسارت لم يُنه حضوره، فقد ظلّ الاهتمام به يزداد ويتّسع، وهو ما يؤدّي في الوقت نفسه إلى تراجع حضوره،  حتى ظنّ أنّ استمرار حياته كان لتعريضه للعذاب والقهر من شهرة موتسارت. 


على الرغم من دمار حياة موتسارت وديونه التي لم يتمكّن من دفعها وبساطة شخصيّته وموته المبكّر وهو في الخامسة والثلاثين من عمره وعرض جنازته المتواضعة وإلقاء جثّته في قبر جماعيّ يمتلئ بالوحل، إلا أنّ موهبته زلزلت سياليري موسيقار البلاط الغنيّ المبجّل المؤمن العفيف! لقد تحطّمت موهبته الكبيرة وشخصيّته وحياته أمام معجزةٍ خالدة سيبقى أثرها حاضرا في كلّ المواهب العظيمة عبر تاريخ الفنّ والوسيقى. 


إن قضية الفلم الرئيسة هي هذا العذاب الذي يشعر به صاحب الموهبة الرائعة مثل سياليري أمام عبقريّة خالدة لا تُدانى في فنّها وإبداعها. يذكر الناس موتسارت بسبب فنّه وعبقريّته، ويذكر قلّةٌ سياليري بسبب إخفاقه أمام موتسارت، وباعتباره جزءا من تاريخه!  

التعليقات (2)
morad alamdar
الأربعاء، 05-02-2020 06:24 م
فيك القلم يكتب .. و فيك الشعر يحلو .. و فيك النثر يقال .. و منك الحب يؤخذ .. و منك العشق يُدرسُ .. و منك الحنان و الشوق .. يتدفق و يتور .. ف كيف لا يعشق .
محمد سالم عبادة
الأربعاء، 05-02-2020 02:19 م
سلم قلمك وسلمت ذائقتك. الفلم أحد أقرب الأفلام إلى قلبي. وهو بالمناسبة مبني على نص مسرحي يتخيل كاتبه هذه الأحقاد من سالييري تجاه موتسارت، والثابت تاريخيا أن سالييري كان يقود أحيانا الأوركسترا التي تعزف موسيقى موتسارت، أي أن الأمر لم يكن في الواقع على هذا القدر من الاحتقان في نفس سالييري. وهناك أمر آخر، فاختيار عنوان الفلم Amadeus له دلالة عميقة متصلة بمعنى الاسم. موتسارت اسمه أصلاً ?ولفجانج (أي مشية الذئب والألمانية) وموتسارت اسم العائلة. أما أماديوس فهو اسم أطلقه عليه جمهوره احتفاء بعبقريته، فهو يعني: عطيّة الرب. أظن المعنى يفسر كثيرا اختيار الاسم لعنوان الفلم. تحياتي لاختياركم.