أخبار ثقافية

العبقريّة المؤلمة (1)

تمثال لأبي الطيب المتنبي- تويتر
تمثال لأبي الطيب المتنبي- تويتر

تثير الشخصيّات العبقريّة في الفنون والآداب والفلسفة عبر التاريخ الإنسانيّ جدلا واسعا حول مسائل مختلفة في علاقاتها الشخصيّة وحضورها العامّ، وفي نظر هذه الشخصيّات ومواقفها من المشتغلين في الحقول نفسها الذين يُتوقّع منهم أن يكونوا منافسين لأولئك العباقرة في فنونهم وفلسفاتهم! فمن المعروف في التاريخ الأدبيّ ما كان عليه الأدباء الكبار من خصومةٍ وتحاسدٍ؛ فيوصف مجلسُ سيف الدولة، على سبيل المثال، بأنّه جمع العديد من الشعراء المُجيدين، طمسهم المتنبي وجعل ذكرهم نادرا وباهتا. 


والأمر المدهش أن يبقى التنافس مع صاحب العبقريّة المتفوّقة حتى بعد موته وزوال عصره، فالمتنبي في هذا المثال ظلّ عبر التاريخ الأدبيّ العربيّ "مالئ الدنيا وشاغل الناس" تحقيقا لقوله في بيته الشهير: 


أنام ملء جفوني عن شواردها                 ويسهر الخلقُ جرّاها ويختصم 


حافظ المتنبّي على حضوره باعتباره الشاعر العبقريّ الذي يعمل الشعراء على اتّباعه، وقد سُمّي كثيرا بـ"الأب الشعريّ" بالنسبة لشعراء كُثُر، في إشارةٍ إلى أنّه الشخص الي يُقتفى أثرُه، وتُتّبع خطواته. وفي الوقت الذي تشير فيه عبارة "الأب الشعريّ" إلى التقدير والتبجيل على المستوى الظاهريّ، فإنّها تُضمر، من خلال استحضار عقدة أوديب الفرويديّة، رغبةً في التخلّص منه، ليتمكّن الشعراءُ من أن يُشتهروا ويُشار لهم هم وليس للمتنبي، وليتمكّنوا من أن يصيروا "الأب" الذي يحضر ذكرُه ويؤثر في غيره.


ناقش هارولد بلوم في كتابه "قلق التأثّر: نظريّة في الشعر" (The Anxiety of Influence: A Theory of Poetry) الصادر في عام 1973 طبيعةَ العلاقة مع الشعراء الكبار السابقين، وأنّ أثر هؤلاء السابقين يشكّل أهمّ المواجهات مع الشعراء الجدد، ولا يرتضي المبدعون الكبار ظهور هذا التأثّر؛ ذلك أنّ تأثّرهم ووقوعهم في دائرة غيرهم يجعلهم عرضةً للموت الفنيّ، الأمر الذي يسبب لهم ضمنيّا صراعا يقاتلون من أجل الانتصار فيه، ويسعون جاهدين إلى ما يُسمّيه بلوم بـ"التستّر" على مرجع الإبداع والأعمال الكبرى التي تركت أثرها في ما يكتبون. 


يضع بلوم، بناء على ذلك، الشعراء في مجموعتين: الأقوياء والضعفاء؛ المجموعة الأولى تتكوّن من الشعراء الذين انتصروا على هذا الصراع، وهم الآباء الجدد الذين سيعاني من التأثّر بهم شعراء المستقبل. والمجموعة الثانية تتألّف من أولئك الذين لا يستطيعون التغلب على هذا القلق، وتعدّ أعمالُهم مشتقةً بشكل ملحوظ من أعمال الأدباء الكبار السابقين، وتذكّر بها بالضرورة. ومن الشعراء الذين قدّمهم بلوم على أنّهم من العظماء الذين تغلّبوا على هذا القلق من التأثّر: وردزورث ، وشيلي ، ووالاس ستيفنز. 


على الرغم من محاولات تفسير العبقريّة الفنيّة والفكريّة، إلا أنّ هذا المجال يبقى غامضا، وجزء جوهريّ منه يظلّ غير قابل للتفسير. قد توصف العبقريّة بأوصاف معيّنة، لكننا نجد تلك الأوصاف لا تفسّر الجوانب الخفية من العبقريّة التي تجعل المرء فنانا مهووسا بالفطرة وقبل التعلّم! وهذا يعيدنا إلى التفسير المثاليّ الأفلاطونيّ من جديد. ومن الممكن أن نجد كذلك نقيض تلك الصفات في مواضع لا يمكن إنكارها في عبقريّات أخرى. 


ومع أنّ العمل المبهر والمحترف يحتاج إلى الاجتهاد والحماس، قد تظهر العبقريّة التي لا تجارى دون الحاجة إلى تضحيةٍ كبيرة وجهد خارق، وهذا يسبب تنافسا مؤلما لمن يواجهون العباقرة مع رغبة جارفة بالتفوّق وذكاء يؤهّل للتميّز وإخلاص كبير في العمل. في تاريخ الفلسفة الحديث قصّة فريدة تعبّر عن هذه الحال، وهي قصّة الأديب والفيلسوف الألماني فينرخ فون كليست (Heinrich von Kleist) الذي كان يسعى جاهدا ليكون فيلسوفا عظيما مثل كانط، وبذل كلّ ما يستطيع لكي يشغل أستاذ كرسيّ كانط في جامعة كونيغسبيرغ الألمانيّة، وكان على علاقة بفتاة اسمها فيلهلمين فون زنغ (Wilhelmine von Zenge) ستصبح خطيبته على أمل الزواج القريب منها. لكنّ طموحه الفلسفيّ والمهنيّ جعل علاقته بها تتدهوّر وانفصلا في نهاية المطاف، لا سيّما أنّ منافسا قويّا له كان يسعى للحصول على كرسيّ كانط وهو فيلهلم تراوغوت كروغ (Dr. Wilhelm Traugott Krug). 


تحدث مأساة كليست ليس فقط في أنّه لا يحصل على ذلك المكان أمام خصمه كروغ، وإنّما الأكثر إيلاما له أنّ هذا الأخير تزوّج من خطيبته التي انفصل عنها! تخلّى عن فيلهلمين من أجل تحقيق هدفه، فوجد نفسه مستبدلا كزوج بـ كروغ، وهو أيضا الذي حلّ مكان كانط بصفته أستاذا فيلسوفا. في عام 1805 ظهرت ظلالُ هذه المأساة في مسرحيّةٍ لكليست أطلق عليها اسم "الإبريق المكسور"، وهل كان أمامه تسمية غير هذه؟ 

 

لقد حاول كليست كسب كانط مقابل خسارته فيلهلمين، في تضحية هائلة، ففقد بدلا من ذلك كانط وفيلهلمين، وكان كروغ قد ربحهما كليهما دون الحاجة إلى أيّ مما فعله كليست! والمريب في سيرة كليست أنّه كان منذ طفولته المبكّرة مخلصا لأهدافه، يضع الخطط لما يحتاج فعله لكي يصل إلى أمله، غير أنّ هذا التخطيط والاجتهاد والحماس والذكاء تحطّم كلّه دفعةً واحدةً على يد عبقريّة فطريّة، حصلت على ما سعى إليه وعلى ما ضحّى به أيضا! لم يكن من خطّة يضعها كليست لمستقبله بعد ذلك، فصمم نهاية حياته بوضع رصاصة في رأسه. 

التعليقات (1)
morad alamdar
الأربعاء، 29-01-2020 09:51 ص
فكرتان : الأولى من علم الفيزياء و اختراع السلاح الذري كأعظم قوة يحلم بها السياسيون ، و الثاني من ظلمات القرون حيث بدأ عصر التنوير من أوربا باجتماع العلماء في مظلات أمراء مشجعين للفكر و رواده في كتاب ^^ عند تغير العالم ^^ الذي كتبه جيمس بيرك و صدر في سلسلة عالم المعرفة رقم 185 من ترجمة ليلى الجبالي ، بذكر أن بواكير النهضة بدأت من اجتماعات بسيطة ، منها ما كان يقوم به الكاهن ميرسين في ضاحية باريس ، حيث كان يعقد لقاءين كل أسبوع يحضرهما المفكرون من كل أوربا ، و ممن حضر ^^ رينية ديكارت ^^ الذي وصل إلى منهج الهندسة التحليلية ، و هو يراقب في المجلس طنين ذبابة يريد معرفة إحداثيات سيرها و بالطبع فالكثير من الظوهر تحدث من ملاحظات عبقرية لأمور يمر عليها الكثير من الناس و هم عنها معرضون : من نموذج تفاحة نيوتن و قانون الجاذبية و قانون ضغط البخار لدفع القاطرات من غليان إبريق الشاي عند دينيس بابان ، و الألماني مخترع جهاز تكسر حصى الكلي من مراقبة عمل الطائرات حين احتراق قانون الماخ بسرعة الصوت و تكسر زجاج النوافذ .. كلها أمور بسيطة تحتاج لعقل إبداعي للوصول إلى سرها الدفين من خلال العلاقات ، الخفية .