أخبار ثقافية

الهوية الحضارية بين شاعرين عربيين

الحضارة العربية - تويتر
الحضارة العربية - تويتر

شكلت الهوية الحضارية للأمة العربية الشغل الشاغل للشعراء الرواد مع النصف الثاني من القرن الماضي، بفضل فورة الانفتاح على الغرب في مرحلة ما بعد الاستعمار، وما استتبعه من حضور الفكرة القومية وخلخلة في مفهوم الهوية للأمة بعد فترة ركود وانقطاع عن العطاء الحضاري.


ولاستخلاصنا هذه المسألة المهمة وقد وقع اختيارنا على شاعرين عاشا في المرحلة ذاتها، و كان الهم الحضاري أحد المكونات الأساسية في شعرهما كما نجد في ديوانيهما "نهر الرماد" لخليل حاوي و"البئر المهجورة" ليوسف الخال، اللذين كُتبا في المرحلة ذاتها، رغم أنهما يحملان توجها أيدولوجيا متباينا، فحاوي يصدر عن القومية العربية، في حين يبدو الخال متأثرا بالقومية السورية التي سادت في منتصف القرن الماضي.


ما يجمع بين الشاعرين الرائدين الانشغال بالهم الحضاري، فكلاهما عاش فترة في الغرب، وانفتح على تراثها وآدابها، كما نهل من الثقافة الشرقية: المسيحية والإسلامية والحضارات الشرقية القديمة، كما يتشابهان في العمق الروحي المسيحي بوصفه الخلاص للإنسانية المعاصرة.

شرق متكلس

النظرة إلى الشرق، والأمة العربية خاصة، واحدة لدى الشاعرين، فكلاهما يرى فيها أمة متحجرة تخلفت عن ركب الحضارة الإنسانية، بسبب غياب الحس الروحي والثقافي والإنتاج الحضاري، فهي عند "حاوي"، في قصيدة "البحار والدرويش" في رحلته نحو نهر "الكنج" منبع التصوف والرهبانية:


حانةٌ كَسْلى، أساطيرٌ...
ونَخيلٌ فاتر الظلِّ رخيُّ اَلهْيَنماتْ
مَطْرَحٌ رَطبٌ يُميت الحسَّ

 

والحال نفسه عند "الخال" في قصيدته ثلاثية "نداء البحر" فالشرق العربي:


دنيا
من نخيل بروقها وهجير
وحروف محفورة في السماء


والصورة موحدة في الحالتين، ففي نص حاوي نعثر على دراويش "دوختهم حلقات الذكر"، يدورون حول درويش عتيق موغل في الزمن بسكونه وسلبيته وغيابه عن الوعي والانقطاع عن الحياة القائمة والعالم المادي. وفي نص الخال تبدو الحضارة العربية الراهنة تعيش الماضي في سكونه وانعزاليته، وانقطاعه عن قانون الصيرورة الذي يوجب التجدد والانفتاح.


ونجد هنا تقاطعات دلالية ومعنوية في الصورتين، فمفردة " النخيل" لدى الشاعرين تشير إلى واقع الأمة الموغل في سكونه وانقطاعه عن ركب الحضارة، وكلا الصورتين تنطلق من رؤية موحدة.


كما أن الشرق في القديم، لدى الشاعرين، كان نبراس النور ومهد الحضارة الإنسانية ، التي حملت النور إلى الغرب، ولكن الشرق جُرد من تفوقه ، وتأخر بسبب ضعف عطائه الثقافي والروحي.
   .
لذلك يعاني كلا الشاعرين شمولية القلق الوجودي محملَين بالقلق والضياع ومعاني الاغتراب المختلفة، وهي تحمل حيرة الإنسان المعاصر وتساؤلاته المضنية، الإنسان العربي سليل السندباد وعوليس ، الذي يسير على الخطوات ذاتها نحو اليقين والخلاص.


والاختلاف بين القصيدتين يتجلى في التوظيف الأسلوبي الذي يستتبعه اختلاف مضموني ، فتجربة حاوي  فردية كيانية، تهيمن عليها الذات الفردية "هو" ، لكنها تستبطن فكرة الشمول الجماعي، بينما يهيمن ضمير الجماعة "نحن" ، في القسمين الأولين من قصيدة الخال، ما يمنح الرؤية شمولية ثقافية أبعد في مستواها الجماعي.


كما يبدو حاوي أكثر مثالية وفردية في رؤيته، فهو يمثل الفرد التائه الذي يبحث عن تمثلات المعنى الروحي، حيث لم ينفعه الدين ولا العلم ولا المنطق، فيما يحمل اغتراب الخال حالة تنتمي أكثر إلى الحقل الثقافي، حيث لم يجد في الشرق ما يسعفه ويسد ظمأه المعرفي والوجودي. 

الرحلة صوب الغرب


من الناحية الفنية يعتمد كل منهما التقنية السردية من خلال الرحلة في أنجاء الشرق والغرب عند حاوي ، وصوب البحر " الغرب " عند الخال.


تبدأ المغامرة لكلا الشاعرين في الرحلة صوب منبع آخر للحضارة هو الغرب، من خلال توظيف الرمز التاريخي ذاته، عوليس الإغريقي أو السندباد العربي، ومن خلال التوظيف السردي الذي يذكرنا بالأعمال الدرامية الكبرى ولا سيما الملحمة الإغريقية، لتجاوز حالة العقم التي يعانيها الراهن الشرقي العربي.


في قصيدة "البحار والدرويش" لحاوي، وبعد رحلة طويلة في الشرق، يتجه الشاعر صوب الغرب، فلا يجد الشاعر في الغرب سوى مادية وعقم، "ذَلكَ الغولَ الذي يُرْغي" ، ومن هنا تبرز الإدانة الواضحة للحضارة الغربية، التي تعاني من أزمة روحية فهي على غرار قصيدة "الأرض اليباب" لإيليوت تشخص معاناة الغرب الحضارية وسقوطه في العدمية والمادية المتطرفة وحالة لافتة من غياب المعنى، لذا نصطدم برؤية تشاؤمية نتيجة الاغتراب الذي يعانيه الشاعر، حيث لم يعثر على الخلاص لا في روحانية الشرق ولا مادية الغرب.


في قصيدة (المجوس في أوروبا) يتابع حاوي مغامرته في الرحلة صوب الغرب: روما القديمة، وباريس ولندن باحثا عن أسباب الانحلال في الحضارة الغربية الذي يجده متمثلا في التخلي عن الروح والدين والأخلاق الإنسانية واتباع المادة، لذا ضاعت الأجيال الغربية وضاع الإيمان، ويرى أن الخلاص يحتاج، بحسب التصور المسيحي، ميلادا جديدا ومسيحا جديدا ينقذ البشرية من محنتها واغترابها الوجودي والحضاري:


عَبرَ باريسَ بَلَونا صومَعاتِ الفكرِ،
عِفنا الفكرَ في عيدِ المَساخِرْ،
وبروما غَطَّتِ النجمَ، مَحَتْهُ
شَهوةُ الكهّانِ في جمرِ المباخِرْ،
ثمّ ضَيّعناهُ في لندنَ، ضِعنا
في ضبابِ الفحمِ، في لغزِ التجارَة

لذا يتوجه الشاعر إلى بني قومه أن يخلوا عنهم "الوجوه المستعارة"، وأن يتخلوا عن تقليد الحضارة الغربية الغارقة في تيهها وغفلتها، المعرَّضة للاندثار، الحضارة التي َّ التقدم والحرية ، وتمارس الظلم والاضطهاد في مناطق شتى من العالم. 


اخلَعوا هذي الوجوهَ المستَعارَهْ
سُلِخَتْ من جِلدِ حرباءٍ كَريهْ،
نحنُ لم نخلعْ ولم نلبسْ وجوهْ
نحنُ من بيروتَ، مأساةً، وُلِدنا
بوجوهٍ وعقولٍ مستَعارَهْ

أما الرحلة صوب الغرب "البحر" عند الخال، فهي، تتضمن فكرة الانقطاع عن الثقافة العربية " وأدرنا وجوهنا"، فهي تمثل بديل الحضارة المفقودة في المشرق. ولذلك يأتي البحرُ نقيضًا للجفاف والعُقم الحضاريّ الراهن، ويمثّلَ الاستجابةُ لنداء البحر الرغبةَ في الخلاص من الواقع المشرقيّ المظلم.


وتأتي الرحلة من الغرب محملة بالمعرفة والثقافة التي يفتقدها العالم العربي، فالبطل يعود محملا بالذهب والفضة والجواهر والعقيق والأمل، وهو يجد ضالته في الحضارة الغربية ، ويجد الخلاص في منجزاتها، وبالتالي فإن الخلاص الحقيقي للأمة يتمثل في العودة إلى الغرب كجزء من حضارة البحر المتوسط في تاريخها العريق:


يعود لي 
محملا بالذهب
بفضة تصاغ للهياكل
الرخام ههنا مجامرا
للبطل الإله مقبضا لسيفه 
 
وهكذا، تبدو العودةُ الحضاريّة، لدى يوسف الخال، نمطا من الاستلاب والوقوع في التبعية الثقافية والحضارية للغرب، أو نوعًا من أزمة الهويّة القائمة على تجاوز واقع الأمة إلى واقع غريب عنه.

 
التعليقات (2)
morad alamdar
الأحد، 19-01-2020 11:12 ص
تجديد الخطاب الثقافي .. ضرورة تفرضها المرحلة .. ثقافة الحفظ و التلقين و غياب التشجيع على الفهم أخطر ما يواجه ثقافتنا العربية .. الفرد العربي من الازدهار إلى الغياب هل كان للإنسان بوصفه فرداً وجودٌ في المجتمع و الثقافة العربين ؟ إذا كان الجواب بالإيجاب ، فكيف و متى انزلق ثم غاب الفرد فيها ؟ و كيف و متى تألف العرب مع هذا الغياب حتى صار كما لو أنه بعض طبيعتهم ؟ و رغم أن الثقافة العربية الإسلامية تفاعلت مع العديد من الثقافات الأخرى في عصرها الكلاسيكية و لاسيما اليونانية و الفارسية ، و التاريخ العربي شهد هيمنة العديد من عتاة الطغاة في عصر الإمبراطوريات الإسلامية ، فأننا لا نعثر في ثراثنا الثقافي ، الأدبي أو الاجتماعي أو الديني أو السياسي ، عما يمكن أن يشير إلى إمحاء الفرد اجتماعياً أو ثقافياً أو أمام أي سلطة مهما بلغ عتّوها أو إلى إلغائه لصالح جماعة أو طائفة و الأمثلة أكثر من أن تحصى في هذا التاريخ العريق ، على وجود كيان الإنسان الفرد الحر لا في تمثلاته الدينية ، الراسخة في اللاوعي الجمعي فحسب يكفي أن نستعد هذه الآية : ^^ إنا عرضنا الأمانة على السماء و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها و أشفقن منها و حملها الإنسان ^^ .. إن الفائدة التي ستعود علينا من وراء حماية الطبيعة ليست المحافظة على وسط يصلح للاستمرار ، و إنما هي تطوير الصفات الإنسانية التي نحتاجها في حماية الإنسان من ظلم الإنسان .. الحياة الاجتماعية كلها عبرة استجابات حية للحاجات الإنسانية .
احمد
الأحد، 19-01-2020 09:45 ص
هل يعقل ان يسمى هؤلاء شعراء و المتنبي شاعر ؟ شعرهم عباره عن قئ سكران... كلمات غير مترابطه... بلا فكر... ولا جمال.... ولا احترام للمتلقي اي هويه حضاريه وجدتموها لتكتبوا مقال في هذا الهراء ؟ بصراحه لله در الكاتب الذي سطر كل هذه السطور التي هي اكثر ترابطا و جماليه من ( القصائد ) التي تناولها