كتاب عربي 21

البداية التي لا تنتهي (إلى الرئيس- 6)

جمال الجمل
1300x600
1300x600
(1)
السيد الرئيس/

كل عام وأنا بخير واعتدال وحرية.. اليوم عيد ميلادي، هكذا تربيت على دلالة اليوم الأول من السنة الميلادية، حيث تنتعش الأمنيات الحالمة بالجديد المأمول وتنزوي المراجعات اللائمة للقديم المتهالك. بهذه المناسبة السعيدة/ المؤلمة أهتم في هذه الرسالة بحديث الود الشخصي أكثر من الاشتباك في الشأن العام، مع العلم أن الفارق ليس بعيدا وأظنه في الشكل فقط.

أتذكر أنني بدأت في رسائل سابقة التمهيد لدردشة عفوية عن الهوية، وكنت حريصا على عدم التورط في صياغات أيديولوجية عتيقة ومغلقة من نوع: من نحن؟ والدوران في متاهة الثنائيات المصنوعة بغباء متعمد عن الشرق والغرب، الإسلام والعالم، نحن والآخر، الحاكم والمحكوم، السلطة والناس، بل تعمدت التفكيك بأسئلة ذاتية من نوع: من أنت؟ ومن أنا؟ وماذا يريد كل منا؟

(2)
للمرة الثانية والعاشرة والمئة.. أعيد التذكير بأنك في هذه الرسائل تمثل السلطة، لكن ليس السلطة الخالصة وفقط، فأنت في كل الأحوال وبرغم الحضور الطاغي للسلطة ومظاهرها على كينونتك لا بد وأنك تمثل شخصك، ولا بد وأن تظهر سلوكياتك الفردية، ولا بد وأن يختلط التفكير العام للرئيس برواسب الخبرة الحياتية والتربية والتكوين النفسي للطفل والصبي والشاب الذي عاش في بيئة خاصة وظروف لا زلنا نجهل منها الكثير، في المقابل فإنني أمثل في هذا الحوار ذاتي الفردية، كما أمثل جموع المواطنين العاديين الساعين إلى حياة قابلة للحياة.. حياة تتوفر لها شروط الحياة من أمان واكتفاء كريم وأمل وعمل وحرية.

(3)
من هذه النظرة البسيطة أيها الرئيس يمكننا أن نستأنف الدردشة، والفلسفة أيضا، وسوف أبدأ بسؤال طيب أدعوك للتفكير فيه كحاكم وإنسان أيضا:

كيف نرتب الصلاحيات الوظيفية وخريطة التطلعات والأحلام وأنصبة القوة بحيث لا يفسد أي منا حياة الآخر؟

كيف لا يعترض الحاكم طريقي كمواطن؟

كيف لا يستخدم القوة الممنوحة له من الناس في إفساد حياة الناس؟

يعني يا سيادة الرئيس:

هل من حقك أن تحذف أحلامي من الوجود لتحلم بدلا عني وعن بقية الناس؟

هل من حقك أن تضع لنا خطوطا تحدد الحركة والكلام، بينما أنت خارج الحدود؟

هل من حقك أن تحدد نوعية ومواعيد المعارك التي تسرق أعمارنا واستقرارنا، وتحدد أيضا الأعداء والأصدقاء، بينما نحن مجرد أدوات للحرب أو ضحايا لها؟

من الظلم أيها الرئيس أن تسرق حياتي لصالح حياتك، وأن تقضي على أحلامي لصالح أحلامك، وأن تبني دولة وشعبا يناسب أفكارك وخيالاتك دون اعتبار لأفكارنا وخيالاتنا.

هذا الظلم وذلك الاختلال هو الذي يفرض علينا أن نتكلم، وأن نغضب، وأن نصرخ، وأن نحتج، وأن نقاتل من أجل حياتنا، ليس بسبب خصومة شخصية مع ذاتك، أي مع الطفل الذي لا نعرفه (ابن البرقوقية)، ولكن بسبب خصومة مع سياسات الحاكم الذي يسعى لفرض أفكاره وأساليبه التي تتعارض مع أفكارنا وأساليبنا، ولأنك تملك القرارات والقوة والسجون فقد استخدمت سلطتك (الممنوحة والعارضة) في مصادرة حياتنا وطمسها، بدلا من البحث عن حلول لتخفيف الآثار السلبية للتعارض بيننا.

(4)
السيد الرئيس/

أدعوك للتأمل في هذا الاعتراف العادي: لقد قلت في بداية هذا المقال أن اليوم هو عيد ميلادي، هذا غير صحيح، فقد ولدت قبل ذلك بأسابيع، لكن والدي كان مغرما بهندسة العالم حسب رؤيته الذاتية، وكان من أبناء العائلات التي تملك تسجيل البيانات كما تريد وقتما تريد، فسجلني وإخوتي جميعا في بدايات الشهور (رقم واحد)، وهي الدلالة التي دفعت ثمناً باهظا لكسرها والخروج من سجونها.

وأعتقد أن مشروع "الحياة الحرة" الذي تشكلت حوله حياتي، تبلور من قلب هذا الصراع مع الرؤية الهندسية لأبي، الذي حاول أن يلغي المجتمع من حوله، وأن يلغي أيضا أحلام وأفكار وتصورات الآخرين (حتى لو كانوا أولاده) لكي يحقق تصوراته الخاصة لمجرد أنه يقدر على صياغة الأوراق كما يريد، لكن النتيجة كانت الفشل (وهي نتيجة مؤكدة مع كل تكرار لنفس الفعل).

لقد فشل أبي في مشروعه الهندسي، واقتنع بعد عمر طويل أن الحياة أكبر من قدرة أي شخص على هندستها.. الحياة هي الحياة بكل عفويتها وعنفوانها ورغبات الأحياء فيها، ولا بد أن نضع الحرية في قلب أي تصميم للحياة.. لا بد أن نفسح مكانا لاختيارات الناس، وكلام الناس، لا يحق لنا أن نصادر أو نحظر أو نمنع. فقط أيها الرئيس يحق للأقوى أن يعمل في مجال تنظيم الاختيارات وتنظيم الكلام وتنظيم كل التقاطعات، بحيث لا تؤدي إلى صدامات وتعطيل، وهذا يعني أن الإقصاء خطيئة تتعارض مع مفهوم الحياة.. الحياة بمن فيها ولمن فيها أيها الرئيس، وليس لأي سلطة حق النفي أو الإسكات، فقط حق تنظيم الموجود، بدون التورط في إلغاء أي فئة أو طرف بحجة الخطر أو الشر.

(5)
قد يبدو كلامي مكررا في هذا الشأن، لكنه تكرار التأكيد وليس تكرار الملل، تكرار المعنى المطلوب وليس تكرار العبث الوجودي الذي تحدث عنه نيتشة أو انطلق منه كونديرا في كتابة روايته المؤلمة عن "خفة الوجود". فالقصة تبدو قديمة فعلا، وتبدو مكررة في تاريخنا بجهل مخجل، لذلك صرخ محمود درويش متسائلا في احتجاج:

كم مرة ستكون رحلتنا البداية؟

السؤال المفرغ عن البدايات الطويلة التي لا تفضي إلى شيء، هو السؤال الموجع في تاريخنا التعيس، سؤال الفشل، سؤال التكرار الملل، سؤال إهدار البدايات الطيبة وتحويل الأحلام إلى كوابيس، سؤال الخروج من المسارات المسدودة، سؤال النجاة من مأساة النرجس وملهاة الفضة.

(6)
قد تسال أيها الرئيس عن معنى مأساة النرجس، وتنبذ مثل هذه اللغة الاستعارية الغامضة التي لا تناسب السياسة، لكن صدقني فإن هذه اللغة أجمل وأصدق من اللغة المباشرة للساسة وخبراء البورصة والطقس وروشتات الأطباء، فقط يمكنك أن تتعامل معها كالموسيقي، لا يشترط أن تفهم السلم الموسيقي لتستمتع بالغناء، فقط عليك أن تحس بالمعنى ولا تفهم بما في عقلك، بل بما تزرعه الحياة السليمة في قلبك وفي روحك، هذه اللغة كاشفة للأكاذيب وفاضحة للنصابين المتسترين وراء التعبيرات المنمقة المحفوظة. يمكنك أن تجرب مثلا التفكير في "مأساة النرجس"، وأن تتذكر أصل التسمية وتتذكر معها معنى "النرجسية، وتسأل هل كان نرجس (أو نارسيس) سعيدا بغروره وأنانيته؟ أم أنه صانع أحمق للمأساة؟ برغم البدايات الجميلة؟!

(7)
السيد الرئيس/

أقولها بصدق (وتكرار أبدي): لست ناقما عليك ولا على أي شخص في الوجود، لقد تجاوزت هذه المشاعر الفردية السلبية منذ زمن طويل، علمتني رحلتي في الحياة أن القصة ليست أنت أو أنا، ليست الحاكم أو المحكوم، لكن أن تنضج هذه العلاقة الثنائية على نيران الخبرة الإنسانية في رحلة الحياة، لنتكامل بلا إقصاء، ونصنع التنوع والثراء من الاختلاف والتعارض، فالصراع ليس عنصريا وليس احتكاريا وليس هندسيا، برغم كل ما يبدو على السطح من تناحر واقتتال.

لذلك، ومع إطلالة بداية جديدة في عام جديد يمكنني أن أوضح لك هويتي، لعلها تساعد في كشف حقيقة العلاقة المتوترة في تاريخنا بين الحاكم والمحكوم:

أنا أيها الرئيس.. ما أعتقد

أنا أفكاري

أنا أحلامي

أنا غضبي

أنا رغباتي التي لا يمكن التخلي عنها

لذلك فأنا أتغير في لغتي حسب حضور أو خفوت هذه الملامح، فأنا لست جمادا يمكن تعريفه في نمط ثابت، وأعتقد أنك أيضا كذلك أيها الرئيس، أنت ما تعتقده وما تحلم به.. كل الناس كذلك. الفارق يا سيادة الرئيس أنني أؤمن بحق الآخرين في هذا التعريف، ولا أغضب من أن يكونوا أنفسهم، ولا أطالبهم بتنميط حياتهم على النموذج الهندسي الذي أراه صحيحاً.

هذا يعني أن كل إنسان يحق له أن يكون ما يعتقده، وأن تتشكل هويته طوال الوقت بحسب تطويره لأفكاره وأحلامه، وفي رأيي أن تعدد الاعتقادات والأفكار وطريقة تنزيم العلاقة بينها هو الأساس الذي تتشكل من خلاله الهوية المتنامية لأي مجتمع. فالهوية ليست نموذجا هندسا في رأسك أو في رأس أبي أو رأس أي شخص. الهوية هي ما نصنعه بأفكارنا ورغباتنا وأحلامنا في كل لحظة، لذلك فإن الجريمة تبدأ من تعطيل الفكر والحلم والحرية، الجريمة تبدأ من محاولة صياغة الآخرين على مقاس رأسك؛ لأنه ليس من حق أي فرد توحيد الفكر ولا مصادرة الأفكار ولا المساس بالحريات، لأن ذلك يعني تعطيل الحياة نفسها، ولا يفعل ذلك إلا المجرمين أعداء الحياة.

كل عام وكل الطيبين، الأحرار، المنفتحين على الحياة العادلة، بخير وحلم وسلام.

والرسائل مستمرة.

[email protected]
التعليقات (0)