مقالات مختارة

ألغام المراجعة الدورية لحقوق الإنسان المصرية

سعيد الشهابي
1300x600
1300x600

برغم تراجع الدور الدولي لمنظومة حقوق الإنسان، إلا أنها ما تزال تستحوذ على اهتمامات الكثير من النشطاء المعارضين لحكوماتهم في العالم العربي، وما يزال بعض هؤلاء يعتقد بأهمية المنظومة ودورها في التأثير على الأنظمة السياسية التي تنتهك حقوق مواطنيها؛ ولذلك كثيرا ما يلبس السياسي المعارض ثوبا حقوقيا ليمارس نشاطه في المحافل الدولية كـ «ناشط حقوقي»، وحتى وسائل الإعلام العربية تصر على إلصاق هذه الصفة بالنشطاء الذين تجري معهم لقاءات، على أساس أن النشاط الحقوقي لا يمثل صفة سياسية فاقعة، ولا يسبب إحراجا لتلك الجهة الإعلامية. وبالغ البعض في دور هذه المنظومة حتى أصبح يرفض العمل العلني مع «السياسيين»، على أساس أن «المؤسسات الغربية ترفض الخلط بين النشاطين السياسي والحقوقي»، غير أن هذه التفصيلات تقفز على حقيقة الثقل الذي تمثله المنظومة على الصعيد الدولي، وما إذا كانت تحظى باهتمام ذي شأن لدى دوائر القرار في الدول القادرة على التأثير. ومنذ تأسيس مجلس حقوق الإنسان في العام 2005 طرأت تغيرات عديدة على المنظومة الحقوقية الدولية، أدت لتراجعها تدريجيا وتم تحييدها من قبل الدول الغربية التي تخشى على مصالحها مع الأنظمة التي تنتهك هذه الحقوق. وثمة إجراء تم تفعيله في الخمسة عشر عاما الماضية لفحص مدى احترام الدول للمنظومة يسمى «الاستعراض الدوري الشامل». إنها آلية فريدة تتضمن استعراض سجلات حقوق الإنسان لدى جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة مرة كل خمس سنوات، وتهدف هذه الآلية، نظريا، إلى تحسين حالة حقوق الإنسان على أرض الواقع فيها.


في الأسبوع الماضي بدأ مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف مراجعة سجل مصر لأول مرة منذ خمس سنوات، في إطار مراجعة دورية لجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. وبإمكان المجلس إصدار توصيات لكنه يفتقر لآليات لمعاقبة أي دولة يثبت انتهاكها لحقوق الإنسان، وقد ردت مصر قبل يومين على تلك التوصيات مبررة أن ممارساتها تهدف لـ «مواجهة الإرهاب»، لكن الملفت للنظر هذه المرة تصدر الولايات المتحدة ودول غربية أخرى المشهد الحقوقي؛ فقد حثت هذه الدول مصر على التحقيق في حالات قتل وتعذيب على أيدي قوات الأمن وعلى إطلاق سراح صحفيين وغيرهم اعتقلتهم السلطات بسبب ممارستهم حقهم في التعبير عن الرأي. الاهتمام الأمريكي أثار الاهتمام نظرا لموقف واشنطن السلبي إزاء المجلس؛ فقد انسحبت الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان في عام 2018 ولا تحضر سوى المراجعات الدورية لسجلات الدول الأعضاء، ومن الصعب المواءمة بين انسحاب امريكا من المجلس وحماسها لحضور بعض جلساته والمشاركة في بعض إجراءاته؛ فالانسحاب يعني رفض أمريكا عمل مجلس حقوق الإنسان، ويؤكد عدم اكتراثها بالمنظومة الحقوقية القائمة بتوافق دولي على مدى سبعين عاما، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.


يضاف إلى ذلك الانسحاب تغير العقيدة الأمريكية إزاء منظومتين كانت من عناوين الصراع الدولي خلال الحرب الباردة: ترويج الديمقراطية كمصداق لتوسع النفوذ الغربي والدفاع عن حقوق الاإسان في العالم. الغربيون يعلمون أن هذه الحقوق لا يمكن صونها في ظل أنظمة استبدادية قمعية، فلا بد من تحقيق إصلاحات سياسية حقيقية لكي يكون انتهاك تلك الحقوق صعبا. لقد استخدمت هاتان المنظومتان سلاحا فاعلا على مدى ما يقرب من نصف قرن. ولكن ما إن تفكك الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينيات، حتى تراجع الغربيون عنهما تماما، فاختفتا من الأجندة الدولية. وكان هناك أمل بإعادة إنعاشهما، خصوصا بعد اندلاع ظاهرة التطرف والإرهاب، ولكن العكس هو الذي حدث. بل إن الدول التي تحمست لهما خلال الحرب البادرة أصبحت تتنكر لهما تماما، فلم تعد تطرح في المداولات الدولية أو الاتفاقات والمعاهدات، ولا في وسائل الإعلام الغربية نظرا لكونها جزءا من النظام السياسي الحاكم في تلك الدول.


ماذا يعني ذلك؟ الأمر الأول أن المنظومة الحقوقية ساهمت في بلورة وعي نخبوي وجماهيري بأهميتها، وأحدثت قفزة في الوعي العام لدى الشعوب المناضلة، وساهمت في البداية بإحراج أنظمة الاستبداد والديكتاتورية التي تنتهك الحقوق كسياسة ثابتة. الثاني أن هذا الاهتمام كان عاملا لظهور مجموعات حقوقية في الدول العربية، عملت على مدى العقود الخمسة الأخيرة، وسعت لتحسين أوضاع مواطني تلك الدول، فأنشأت منظمات عديدة، إقليمية ومحلية لتسهيل مهمة التواصل مع الجهات الدولية المعنية بتلك الحقوق. ثالثا، أنها ساهمت في إحداث نقلة نوعية في الوعي السياسي لدى الشارع العربي، فهذه الحقوق «مقدسة» وهي أداة لممارسة الضغط على الأنظمة التي تنتهكها. رابعا، أن العقدين الأخيرين تحولا إلى مقبرة لحقوق الإنسان في العالم العربي، بعد أن اتضح عدم جدية السلطات في احترام تلك الحقوق من جهة، بالإضافة للبديهية السياسية التي تصر على استحالة المواءمة بين احترام حقوق المواطنين وتمدد سلطة الأنظمة القمعية، خصوصا مع تطوير أساليب الأداء في هذا المضمار. خامسا، أن المنظومة لم تروج بشكل فاعل على الصعيد العملي، فتحولت تدريجيا إلى شعارات سياسية تستغلها الحكومات نفسها والمنظمات التي تعمل دفاعا عنها. وفي النهاية تضاعفت آلام المعتقلين السياسيين بتراجع الاهتمام الدولي بالمنظومة الحقوقية.
هذه الحقائق تؤدي للاستنتاجات التالية:


أولها أن مصر، الدولة العربية الكبرى، بسياساتها الحالية تعرض نفسها للنقد المتواصل حتى من حلفائها الذين لا يهتمون عادة بحقوق الإنسان.


ثانيها، أن سياسات القمع والاضطهاد التي تمارسها حكومتها التي يديرها الجنرالات تجعلها عرضة للابتزاز من أولئك «الأصدقاء»، الأمر الذي يقلل شأنها وقيمتها السياسية.


ثالثها، أن إضعاف مصر إنما هو إضعاف للأمة العربية التي تقلص شأنها في السنوات الأخيرة عندما أبعدت دولها الكبرى عن الصدارة ومنها العراق وسوريا واليمن والجزائر، بالإضافة لمصر. هذه الحقيقة جعلت العالم العربي المترامي الأطراف تحت تصرف الدول الصغرى كالإمارات التي تتدخل في العراق وسوريا واليمن والسودان ومصر وليبيا، فما الذي حدث لهذه الأمة؟ وإلى أين ستتوجه سفينتها بعد تمزق أشرعتها الكبيرة؟

 

رابعها، أن الاضطهاد الذي استخدمه حكام مصر ضد مناوئيهم بعد انقلاب العسكريين على الحكومة المنتخبة لم يتوقف، فما إن خرجت الشهر الماضي احتجاجات ضد النظام حتى تصدى العسكر للمحتجين بالقتل والسجن والتعذيب. وقد تجاوز عدد الذين اعتقلوا نتيجة ذلك 4000 من المواطنين. هذا يعني أن الاضطهاد إنما يؤدي للمزيد من الاحتقان الذي ينفجر في شكل احتجاجات قد تصل إلى الثورة الشاملة على النظام بهدف إسقاطه.

 

خامسها، أن المراجعة الدورية لملف حقوق الإنسان ستكشف المزيد من القمع والتعذيب، كما ستظهر استحالة إصلاح الأوضاع في ظل نظام انقلب على الشرعية الشعبية، وأصبح أكثر اعتمادا على القوة المفرطة والدعم الخارجي بدلا من ضمان الدعم الشعبي والسند الدستوري.


لقد تغولت ظاهرة الاضطهاد الرسمي للشعوب العربية التي ثارت ضد حكامها، وحيث إن سجل مصر في المجال الحقوقي والسياسة الداخلية هو الأسوأ، فكيف سيصلح حال الأمة؟ الأمر المؤكد أن المراجعة الدورية لسجل مصر في السنوات الخمس الأخيرة لن تختلف كثيرا عن سجلها السابق الذي كشفته المراجعة الدورية السابقة في العام 2012.

 

عن صحيفة القدس العربي اللندنية
0
التعليقات (0)