كتاب عربي 21

المصري المستباح

جمال الجمل
1300x600
1300x600
(1)
مصر تتقدم، وهناك مؤشرات مهمة على ذلك، فهل يمكننا أن نلتقطها ونفكر فيها أم أننا نفضل اجترار نفس الكلام ونفس التعليقات؟ مثلا قبل سنوات قليلة كنا نقرأ عن حوادث انتحار غامضة تحت عجلات المترو، ولم نكن نعرف الدوافع ولا طبيعة الضغوط والأسباب التي أدت إلى هذه القفزات الدامية، أما اليوم فقد تطور القفز من المترو إلى القطارات، وصارت لدينا شفافية تكفي للتعرف على دوافع التضحية بالحياة، وصارت لدينا أسباب نختلف في تقديرها، وقصص نختلف في روايتها، ومسؤولون عن الجريمة نختلف في طريقة توجيه التهمة لهم وتعيين حدود مسؤوليتهم!

(2)
قد تبدو الصياغة تهكمية، لكنه تهكم حالك لا يتورط في تسطيح المشكلة، أو اتخاذها كوسيلة رخيصة للكيد من نظام سلطوي أعارضه، لذلك سأسأل نفسي وأسألكم:

ما علاقة النظام السياسي بطالبة صيدلة تعاني من أزمة نفسية فقررت إلقاء نفسها في النيل؟ وما علاقتها بممرض عاطل خالف القانون بالتدخين في وسيلة مواصلات عامة، وعند ضبطه قفز من القطار بإرادته فمات متأثرا بجراح تسعة ملايين عاطل و30 مليون يائس؟ وما علاقة السلطة بطبيب يعمل في المجال النفسي قرر في لحظة القفز من نافذة علوية ليموت تاركا أسئلته مفتوحة؟.. إلخ.

(3)
أعداد المنتحرين في مصر كبيرة، لكنها على كل حال ليست أكبر من اعداد المنتحرين في أمريكا مثلا، لذلك لن أهتم بحوادث الانتحار كإحصاء رقمي، لكن كمؤشر سياسي واقتصادي وأخلاقي واجتماعي وطبي، وذلك اعتمادا على دراسات تؤكد أن الانتحار مثل "عينة الدم"، يمكننا من خلال تخليلها التعرف على أعراض وأمراض كل مجتمع دون تنميط أو تشابه ظاهري مع مجتمع آخر، ولهذا يصبح سؤالنا الواقعي الآني على هذا النحو:

كيف نفهم حالات الانتحار الفردي خلال السنوات الأخيرة في مصر؟

وما هو الرابط الذي يجمع انتحار الطبيب النفسي إبراهيم نصرة وطالبة الصيدلة شهد، والقافزون من القطار، والهابطون تحت عجلات المترو، والمشنوقون بحبال الهم على الجسور المهجورة أو داخل الغرف الموحشة وصناديق العزلة والكآبة؟

(4)
أول ما يتبادر إلى الذهن هو البعد الاقتصادي، حيث يبدو الفقر هو المتهم الأول والدافع الأول، وحيث تظهر الحياة باعتبارها "سلعة" يمكن تقديمها عوضا عن الغرامة، أو خوفا من العقاب، خاصة وأن عملية التسليه يتم تعميمها بشكل مهيمن (بكام؟ ومنين؟)، فالطعام والماء والكهرباء والطرقات ومشاهدات مباريات الكرة وافلام السينما صارت كلها سلعا، بل صار الشرف سلعة، والوطن نفسه، فالأرض تباع، ومياه النيل يتم تسليعها على المكشوف بدخول مؤسسات مالية مثل البنك الدولي وممولين وزبائن جاهزين. وما هذه الضجة المفتعلة إلا دعاية وتبرير وتمرير لتسليع النيل، وهكذا يمكن النظر لتعامل الدولة مع مواطنيها العاملين في الخارج، ومع مواطن الداخل باعتباره "رقما ضريبيا" أو "عنوانا للجباية"، كما يمكن فهم تحالفات الدولة الخارجية، سواء في معادلة "الرز مقابل مسافة السكة" أو "العمالة مقابل المعونة". وهذا يعني (كما قالت قصيدة السوق لممدوح عدوان) أن "كل شيء يباع: الوسائد والأسطوانات/ نبض الكرامة/ رجع الغناء/ الظنون// إنها السوق.. والباعة ازدحموا/ صخبوا في جنون/ إنها السوق تبدأ من سلعة/ تنتهي بالزبون لعتم السجون".

ما لم يتخيله عدوان؛ أن التسليع ينتهي بالزبون إلى جثة في طرف حبل كعاطل المحمودية، أو مستقبل في قاع النهر كطالبة الصيدلة، أو علبة آدمية فارغة يلقيها محصل من نافذة قطار متحرك!

(5)
عزيزي المتعاقل المنضبط نصير الدولة وحقوقها، لن أجادلك في حادثة الشرطة التي طاردت راكبا تهرب من تذكرة المترو في أوروبا، ولن أقلل من دفاعك عن "الأموال العامة". فهذا ليس موضوع مقالي اليوم، فقط أقترح عليك أن تدخل عقل الممرض الذي قفز من القطار، حاول أن تفكر في اللحظة التي قرر أن يغامر فيها بحياته باعتبارها لا تساوي 100 جنيه (ستة دولارات).

تذكر أن سعر حياة سلفه (البائع الجوال) كانت 70 جنيها فقط (أربعة دولارات)، وأرجو ألا تستغل الفرصة وتسوق لي إنجاز ارتفاع سعر المواطن المصري خلال أسابيع قليلة من أربعة إلى ستة دولارات؛ لأن "شهد" دفعت كل ما تملك لإنهاء رحلتها في قطاركم الملعون، إذ ضحت بحقيبتها لتنجو من مستوطنة العقاب والبلادة التي التهمت روحها ورغبتها في الحياة!

قد تسألني: وما ذنب الدولة في ذلك؟

لن أجيب مباشرة؛ لأنني أفضل أن يسعى المهتم لتحصيل الإجابة بنفسه، فقط يمكنني المساعدة بالحكايات والمعلومات ومحفزات التفكير.
 
(6)
في عشرينيات القرن الماضي قرب نهايات الحرب العالمية الأولى تعاون طبيب مع مُشَرِّع قانوني (ألفريد هوش / كارل بيندنج) في صياغة نظرية تبيح القتل والانتحار، تم نشرها في كتاب مثير للجدل عنوانه: "التصريح بالقضاء على الحياة التي لا تستأهل أن تعاش". بمعنى السماح بقتل الأفراد غير المفيدين وغير المرغوب فيهم، واعتبار ذلك فعلا أخلاقيا لا يستوجب أي عقاب.

الحقيقة أن الفكرة لم تكن جديدة، حيث عرفتها روما القديمة تحت مسمى "هومو ساكر"، أي الانسان المستباح، وهو نفسه مفهوم "هدر الدم" للخارجين عن طاعة القبيلة، وكذلك هم الركاب الذين يمكن قذفهم في البحر بلا تأنيب ضمير، لمجرد تخفيف حمولة السفينة، حيث يتحول مثل هؤلاء الأفراد إلى حمولة زائدة، أو نفايات بشرية استهلكت السلطات القمعية النافعة أرواحهم وأبدانهم، ولم يعد منهم نفعا للسلطة، فهم لا يدفعون الضرائب ولا تذاكر المواصلات ولا يرقصون في انتخابات الحاكم، لذلك فإن التخلص منهم مستحسن للنظام (لأنهم بياكلوا كتير وطلباتهم كتير)، إذن لا بد من معاملتهم كفضلات آدمية، التخلص منها لا يستوجب العقاب!

(7)
قد يتحامق الأخ "المواطن الشريف" المتعاقل المنضبط نصير الدولة وحقوقها، ويتغافل عن التصفية خارج القانون، والسجون، والتعذيب، والبطالة، ويرد: لكن الدولة لم تقتل المنتحرين.. إنهم يائسون، يخالفون القوانين، يلقون بأنفسهم إلى التهلكة.

إجابة المواطن المتحامق تكفي، فهي تؤكد ببلادة قانوينة مبدأ عدم اكتراث الدولة بشعبها، وعدم صيانتها لمصائر الأفراد والعائلات، أو كما يقول المصريون: "كل واحد يشيل حياته على دراعه"، حيث تخلت الدولة عن مسؤولية الحفاظ عن حياة مواطنيها وتوفير احتياجاتهم (العيش والكرامة)، وخصخصت المصائر الفردية باعتبار أن الفرد يتحمل مسؤولية حياته، ويملك الحق في التخلص منها بالطريقة التي يفضلها. فالدولة التي سلبت معظم الحقوق الإنسانية من مواطنيها، منحتهم في المقابل "الحق في الموت"، ومن يتأخر من "الهومو ساكر" في تنفيذ ذلك بنفسه تتطوع الدولة بقتله مجانا، وفي بعض الأحيان تدفع للورثة مكافأة مغرية لتشجيعهم على القفز من القطار؟

(8)
هذا الموت الانتحاري بأنواعه (الذاتية أو عن طريق الدولة) لا يزعج السلطات ولا يتطلب حلاً، بالعكس، تعتبره السلطات حلاً، فهو وسيلة تخويفية جيدة لضمان الهيمنة الناجحة. واستخدامي لكلمة "السلطات" هنا بدلا من "الدولة" استخدام مقصود، لأن هذه اللامبالاة بحياة المواطنين تستخدمها جماعات في المعارضة كما تمررها فئات مدنية من لحم المجتمع، بحجة إخضاع وتطويع المارقين والخارجين عن القواعد المعمول بها. وهذه الحالة التسلطية الجمعية تجاوزت البعد الواحد لمقولة جوبلز القديمة "جوع كلبك يتبعك"؛ لأن شبكة الهيمنة هذه المرة تجاوزت التجويع المعوي إلى هيمنة شاملة على مصير الفرد بالإفقار المادي والمعنوي والروحي معاً، أو كما هو ثابت في علم الاجتماع السياسي الحديث، فإن هشاشة البشر، وانكسارهم، وإعدام آمالهم، وحصارهم في "معسكرات الحاجة المذلة"؛ هو البيئة المثالية لإخضاعهم وتعويدهم أو إجبارهم على الطاعة. ولا تختلف في ذلك سلطات، ولا أحزاب برجماتية، ولا جماعات شمولية، ولا مؤسسات نفعية عديمة الأخلاق.

(9)
عزيزي المتعاقل المنضبط نصير الدولة والسلطات المشابهة لها، هذا التعامل مع المواطن باعتباره "هومو ساكر" يعني أن الدولة ليست مقصرة في وظيفتها، بل يعني أن الدولة قاتلة مع سبق التخطيط والتشريع والإصرار على الترصد والمطاردة، كما فعل راجح في قتل محمود البنا، وكما فعل التبلد والإهمال مع إبراهيم نصرة، وكما فعلت ظروف نعيش جميعا تحت وطأتها مع شهد ومنتحرات المترو وشباب إسطنبول الذين سعوا للانتحار يائسين واحتجاجا بعد صدمتهم في رهاناتهم، وشعورهم المدمر بالخذلان من جانب السلطة والمعارضة والأفراد أيضا، وهو المشهد الذي يوجه أصابع الاتهام إلى مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع والعائلات والجيران والمواطنين الآخرين، ويطرح الأسئلة الصريحة عن موقفهم من المستغيثين والمتضررين والمرضى والمحاصرين في ظروف سيئة. فالسلطات في بلادنا ليست هي الفشل الوحيد، وليست هي القامع الوحيد، وليست هي الديماجوجي الوحيد.. الكل شركاء في العجز والجهل والقمع والفساد وسوء الإدارة.

لذلك تتشابه السلطة مع المعارضة التي تحاكيها في الأمراض وفي السلوكيات وفي الاستهانة بحياة الأفراد، حيث يسود نفس النهج ونفس الأداء:

الفشل في التنظيم الاجتماعي والسياسي، وغياب التخطيط الاستراتيجي، والإدارة النفعية المؤقتة (إدارة العزب والسبوبة)، والعجز عن إقامة مجتمع عدل بحقوق واضحة، والاحتكام للقوة على حساب العقل (للقوة أشكال متعددة)، والتمييز بين الأفراد بحسب قاعدة "الولاء مقابل الإيواء".

(الخلاصة)

لا يمكن الرهان على الأمل إذا سيطر العجز، لا يمكن الرهان على العقل إذا غاب العدل، ولا يمكن الاستفادة من الاحتجاج إذا غلب الاحتياج، ولا يمكن تدعيم الكرامة في وجود العوز والمهانة؛ لأن هذه المعادلات المختلة ستهبط بفكرة العدالة إلى منحدر الإحسان، وتنسف فكرة حقوق الفرد، وتجعل العطايا مقابل الطاعة، فلا نعرف بعدها إن كانت بطاقة التموين وسيلة توزيع عادل أم شهادة فقر ووصم بالحاجة والمذلة، ولا نعرف إن كانت فرص العمل وعضوية الأحزاب والتنظيمات قيمة عمل وحقوق مواطنة أم سلعة تستوجب دفع الثمن.

هذا الضغط الذي تمارسه قوى التسلط على الأفراد يؤدي إلى تهشيمهم بدرجات متفاوتة؛ تعتمد على الصلابة الشخصية وصفات كل فرد، لكن المشترك الغالب يتمثل في فقدان اليقين والتشظي والعنف اللفظي والبدني، وهذا العنف هو الذي يتم تصديره مرة للخارج، فيصبح جريمة أو عنفا سياسيا (إرهاب)، أو يتم تفجيره في الداخل فيصل إلى الانتحار بيده لا بيد القاتل الحقيقي.

[email protected]
التعليقات (1)
سرطان الشعب
الجمعة، 15-11-2019 09:36 ص
عزيزي هل هناك فعلا دولة؟ كلا! بل عصابة عسكر الكفتة مثل السرطان أصابت الشعب و صغرت كل الأمراض الأخرى