كتب

رواية "برج الرومي".. أوجاع الإنسان في غفلة من الوطن

"برج الرومي".. رواية تسجل لحقبة من الاستبداد السياسي في تونس  (عربي21)
"برج الرومي".. رواية تسجل لحقبة من الاستبداد السياسي في تونس (عربي21)

الدكتور سمير ساسي سجين سياسي من ضحايا الاستبداد في تونس، تعرض للسجن بداية التسعينيات ضمن عدد من الشباب الطلابي المناضل ضد حكم الجنرال الراحل ابن علي، حُرم من الشغل وظل ملاحقا حتى بعد خروجه من السجن، تحصل على الماجستير والدكتوراه في أجواء الحرية ونشر ثلاث روايات هي: "برج الرومي" وهي طبعة ثانية مُحيّنة لرواية "البرزخ"، و"خيوط الظلام"، و"بيت العناكش".

روايات سمير ساسي تشهد في تونس والبلاد العربية منسوبا عاليا من المقروئية لأنها ليست روايات خيال وإنما هي روايات واقعية تسجل عذابات المواطن العربي في ظل الأنظمة المستبدة.

و"برج الرومي"، هو سجن بناه الجيش الفرنسي سنة 1932 في مدينة بنزرت شمال البلاد، وجعله حصنا عسكريا ثم حوله نظام الحبيب بورقيبة (1956- 1987) وزين العابدين بن علي (1987- 2011) إلى معتقل للمعارضين، قبل أن تقرر وزارة العدل التي تشرف على سجون البلاد إغلاقه نهائيا بحلول حزيران (يونيو) 2012 وتحويله إلى متحف.

"البرزخ / برج الرومي" عالم مجتزأ من سياق التاريخ ومن رحابة المكان تدور أحداثه المؤلمة خارج التقاليد والعرف والقانون وبعيدا عن أعين المؤرخين والمثقفين وعامة الناس


رواية "برج الرومي" لن تكون محل ترحيب من قبل طرف رئيسي -واقعي أو مفترض- في ملحمة مشهدية لها ما يؤكد كونها حقيقة لها عناوينها وأزمنتها ولها أدلتها في كلوم الجسد وخدوش النفس وكدمات الألياف العصبية، لها ما يحفظها في الذاكرة تأسيسا لوعي أعمق وولادة لأسئلة واقعية وقراءة مختلفة... ثمن قراءة الواقع باهظ وثمن الوعي سنين من الوجع، قد يكون ممكنا محو آثار العمران ولكن من المستحيل محو ذاكرة الإنسان.

نص الرواية أخذ مساربه إلى التاريخ، أصدره "المركز المغاربي للبحوث والترجمة بلندن" في طبعة أولى سنة 2003 بعنوان "البرزخ"، سيكون له شان إذ تجترع منه ـ بالتأكيد ـ تجربة الإنسان الكوني يقرأ في جراحاته تفاصيل الوجع وأسئلة الترحال تتكلم الأحزان. 

"الأدب مأساة أو لا يكون" ذاك خيار بعض المبدعين، إذ يستجمعون طاقاتهم "الاحتزانية ويعتصرون الذاكرة علهم يظفرون ببعض مداد حزن يُجهدون أنفسهم لتصريفه في لغة يحتاجون شحنها بتمطيط الخيال... "البرزخ / برج الرومي" تجربة أخرى في أدب المأساة، لم يذهب إليها كاتبها خيارا إبداعيا بل اقتحمت عليه حياته اقتحاما... يكتشف من يقرأ النص أن الأوجاع أثقل من اللغة وان الموجوع كان يلوذ بالمفردات الحية يقضها قضا كي تتسع لأحزانه، قاموس مستجمع من عصير اللحم الحي ومن دخان الروح تتشهى التسرب من قبضة "أبي المغاليق"... ذاك مبدع المشهد المفزع في رواية "البرزخ/ برج الرومي" وذاكرة المواطن الإنسان "سمير ساسي".

 

قد لا يكون أحد معنيا بـ"اللغز" السياسي أو الأمني المؤسس لعالم "البرزخ "ذاك. ولكن لا أحد بمنأى عن الاشتباك الخفي الحاصل فعلا بين ما يرى وما لايرى .إن عوالم النفس والأفكار أعقد من ورشات الحدادة وفصالة الحرير


الرواية متفردة الأداء والتفاصيل توشك أن تظنك بصدد رحلة ابن القارح في رسالة الغفران للمعري، ولكن لا يفتأ الوجع والحزن أن يقضاك وينقلاك من إبداع الخيال إلى أوجاع الحال. رواية واحدة بعنوان "أيام من حياتي" لسيدة مصرية قرأتها في السبعينات تتواشج آلامها وتفاصيل أوجاعها مع رواية البرزخ لسمير ساسي، مع تفوق لغوي وإبداعي وتصوير مشهدي مؤثر يؤزّ القارئ أزّا ويطّوّف به في خبايا عالم موحش غريب.

"البرزخ/ برج الرومي" عالم مجتزأ من سياق التاريخ ومن رحابة المكان تدور أحداثه المؤلمة خارج التقاليد والعرف والقانون وبعيدا عن أعين المؤرخين والمثقفين وعامة الناس، وأيّ وجع أوجع من أن لا يسمع توجعك أحد؟ وأيّ غربة أوحش من أن تجد ذاتك كلها غير مستساغة وغير مقتربة؟ وأيّ عناء أثقل من أن لا يجد المرء لنفسه ملامح هوية يتقاسم بها مع الآخرين مكانا وأزمنة؟. 

"فخر الدين" مداد الرواية وشاهد الوجع ليس مجرد بطل قصة ـ كما يقول النقاد ـ ولكنه مواطن ينبعث من تحت "ركام" يستصرخ فلاسفة الحياة ويتهم كل "المتواطئين" عليه مع "أبي المغاليق"... يتهم "الغفلة" والسّماعين والمثقفين وقضاة الزخرف وخصوم الأيديولوجيا لم يغفروا له ارتفاع صوته في الجامعة إذ سبقوه إلى مقبض العصا. 

"فخر الدين" تلتعج في أعماقه آلام وأشواق وأحزان وعاطفة وتعصف به الأسئلة الجارحة ويضيق به المكان ، وكل شوارع المدينة أصغر من حبيبته تواعده ولا تأتي ... يكاد يشك في كونه كان "خبا"،  إذ كان طيّبا ومثاليا وحالما حتى أدركه "الفوت" و"الفوت أشد من الموت".

يعود فخر الدين من البرزخ إلى عالم واقعي بناسه ومعاشه وأمكنته... كل ما يعرفه تغير ولم يعد يجد معه انسجاما.

هل كان لا بد من ذاك الثمن الموجع من أجل غربة موحشة؟"

قال: وما الغربة؟ "أن تهجر المدينة وأنت حل بها ـ وما المدينة؟ 

ـ من لك عليها حق المواطنة وهي مدينة لك بمعناها فمن دونك يكون الخراب 
ـ وكيف تهجرك؟ كما تهجر اللغة صوفيا فينطق بما لا يفهمه الخلق يضيق بي مكان المدينة وزمانها وتحل هي في نفسي حلما فأصير بها غريبا.

ومن الغريب؟ من لا يجد له قرينا إلا شرطيا أو عينا".
 
تختمر آلام فخر الدين وأوجاعه وأسئلته وأحزان الغربة ولكن اليأس لن يأسره ولن يستفرغ من طاقته الروحانية ودفق الشوق... سيحل في "المدينة" حلول الصوفيين لا يقدر عليه عسس ولا جنود "أبي المغاليق."

"احلل بها يحلو لك المكان وألبسها من نورك يجيء إليك زمانها ثم اتحد بها يصفو إليك شخوصها".
 
البرزخ وثيقة للتأمل آمل ألاّ تقع الرواية بين أيدي الشباب قبل أن يتدارسها السياسيون وعلماء النفس والاجتماع ومثقفو الحياة، ينفذون بها إلى طبقات سحيقة في عوالم النفس البشرية ويسبحون بها إلى فضاءات لها علية ويسبرون أسرارها الخفية إذ تنتزع من فضائها الطبيعي وامتدادها الإنساني وتجلياتها الفطرية والثقافية، ينظرون فيما يمكن أن تخلفه تجربة "البرزخ" تلك في أعماق الذات البشرية ونسيج المجتمع وتاريخ الأوطان وذاكرة الأجيال. 

قد لا يكون أحد معنيا بـ"اللغز" السياسي أو الأمني المؤسس لعالم "البرزخ "ذاك. ولكن لا أحد بمنأى عن الاشتباك الخفي الحاصل فعلا بين ما يرى وما لايرى .إن عوالم النفس والأفكار أعقد من ورشات الحدادة وفصالة الحرير... قد لا يترتب سوء عن التخلص من جهاز الكتروني معقد التركيب عجزنا عن التعامل معه، ولكن الأمر ليس كذلك مع الإنسان. 

سمير ساسي العائد من "البرزخ/ برج الرومي" يشهد أن الإنسان في كل مكان يتهدده "أبو المغاليق".

 

شاعر تونسي

التعليقات (0)

خبر عاجل