أخبار ثقافية

أصل الرواية ونشأتها (1)

تعتبر دون كيخوتي أوّل رواية أوربيّة حديثة - أرشيفية
تعتبر دون كيخوتي أوّل رواية أوربيّة حديثة - أرشيفية

في الفترة التي ظهرت فيها رواية "دون كيخوتي" للأديب الإسبانيّ ثربانتس في مطلع القرن السابع عشر، وهي الرواية التي يعدّها جلُّ مؤرّخي الرواية بأنّها أوّل رواية أوربيّة حديثة، لم تكن تقاليد الفروسيّة التي تعرضها ذاتَ حضورٍ في أوروبا في ذلك القرن، فقيم البطولة والفروسيّة المحفّزة للأبطال للقيام بما يمليه عليهم نموذجُهم القيميّ والأخلاقيّ بالاعتماد على ذواتهم الفرديّة لم تعد موجودة.

 

فصورة البطل في "دون كيخوتي" مختلفة جوهريّا عن روح العصر الحديث الذي تخلّى الفكر الإنسانيّ فيه عن البطولة الفرديّة، وعن التصوّرات القائمة أساسا على الآلهة أو أنصاف الآلهة. فأوّل ما يمتاز به العصر الحديث هو التحوّل إلى النظم والأشكال القائمة على الواقعيّة التي ينتجها العقل والعمل الإنسانيّ.

لذلك، فإنّ عبقريّة "دون كيخوتي" تكمن في أنّها عبّرت عن روح العصر الذي تنتمي إليه من خلال خلقها مفارقةً كبيرةً بين أخلاق الفروسيّة والبطولة الفرديّة المنتمية إلى العصور القديمة والوسطى،  والبنية العقليّة للإنسان الحديث الساعية إلى التنظيم والقواعد العلميّة المطّردة. وتظهر هذه المفارقة عبر السخرية الشديدة التي أسبغتها على شخصيّتها الرئيسة "ألونسو كيخانو" الذي يُلقّب بـ "دون كيخوتي دي لامنتشا"، وهو رجلٌ في مرحلة الكهولة مولعٌ بشكل جنونيّ بكتب الفروسيّة والبطولة، وأصبّح من شدّة هوسه بهذه الكتب يُصدّق ما فيها على الرغم من بعدها الكبير عن الواقعيّة، ولا يفرّق بين ما يتولّد في مخيّلته من خيالات وأوهام والعالم الفعليّ العمليّ.

لحظة التحوّل القصوى تظهر في هذه الرواية عندما أخذ "دو كيخوتي" يتمثّل صفاتِ الفرسان المتجوّلين ويستخدم عباراتِهم الغريبة، فبدأ يرى الأماكن المعروفة بأنّها بحاجة إليه لتخليص الناس فيها وإبراز شهامته ونبله، وذهب في رحلاته على دابته الهزيلة، مرتديا درعَه القديم وخوذتَه المتآكلة. ولأنّ التنين والعمالقة التي كان يبحث عنها ليخلّص الناس منها غير موجودة إلا في عقله، كان يتخيّلها تظهر في طواحين الهواء فيهجم عليها!

يُبرز ثربانتس عبر تصويره الساخر لـ "دون كيخوتي" التحوّلَ الجذريَّ الذي طرأ على الوعيّ الإنسانيّ بحيث لم يعد من الممكن تقبّل الصورة الخارقة للفعل أو الآلهة وأنصاف الآهلة في الميثولوجيا القديمة؛ فتظهر في "دون كيخوتي" الفجوةُ بين الأفكار المثاليّة والصور الواقعيّة.

 ويبني الفيلسوف الألمانيّ هيجل تحليله لظهور فنّ الرواية الحديث واعتباره له تطوّرا عن فن الملحمة في العصور القديمة على أساس التطوّر في الوعيّ الإنسانيّ بين العصور القديمة والحديثة، باعتبار التاريخ وتقدّمه يعتمد جوهريّا على تطوّر العقل، فتتطوّر المنتجات العقليّة تلقائيّا مع تطوّر العقل نفسه بما في ذلك الفنون والآداب بأجناسها المختلفة.

 

اقرأ أيضا: عطوان ينعى ناصر ويتحدث عن تجربتهما الثقافية والسياسية (شاهد)

والوعيّ الإنسانيّ في نظريّة هيجل يتطوّر بشكل بطيء للغاية، فقد احتاج هذا الوعيّ وفق تفسير هيجل للتاريخ إلى مئات السنوات لتتحوّل وسائل التعبير من الأشكال الشعريّة القديمة إلى الرواية، التي يعدّها أرقى من الشعر. وتأتي هذه الأفكار في سياق رؤية هيجل لتقدّم الوعيّ الإنسانيّ المطّرد، حيث يبدأ من اللاوعي إلى الوعي، من ثَمّ يتحرّك إلى درجات أعلى من الوعيّ إلى أن يصل إلى الوعيّ المطلق، وهي مرحلة يتمكّن فيها العقل الإنسانيّ من إدراك نفسه. وضمن هذا التطوّر، تطلّب التغيّر في التفكير الإنسانيّ من الاعتماد على الآلهة والأبطال الخارقين في الملاحمة القديمة تغيير شكل تلك الملاحم لتصل في العصر الحديث إلى الرواية التي تعتمد في عمقها على تقديم الأفكار الخاضعة للمحاكمة والجدل، وهو ما يتطلّب بالضرورة التعدد في أطر التفكير وعدم الارتهان لنموذج واحد ثابت، مثل ذلك الذي كان في الملاحم القديمة.

الملحمة تنتمي للعالم الممتلئ بالسحر والأرواح والأشباح المشكّلة للوعيّ الإنسانيّ في ذلك العصر، بينما العصر الحديث يبحث عن تفسير منطقيّ وتفسير معرفيّ من خلال الصور الواقعيّة للبشر ولأفعالهم ومشاعرهم وأفكارهم الإنسانيّة. لذلك كان من الطبيعيّ عند هيجل أن تكون لغة الملاحم شعريّةً في الغالب، لكونها مناسبة تماما للتفكير غير المنظّم والبعيد عن شكل العالم الحديث المحكوم بالقوانين والأفكار عن العدل والمساواة وتحطيم الطبقات العليا في النظام الاجتماعيّ.

أفكار العدل والحريّة والمساواة بين البشر في العصر الحديث وتدمير طبقة النبلاء ومحاربة الإقطاع احتاج إلى شكل تعبيريّ نثريّ يتّصل بالواقع الإنسانيّ الذي يفعل فيه الإنسان ويخضع فيه للعلاقات الاجتماعيّة وللقوى الاقتصاديّة وليس لأيّ شكل من الخوارق وعوالم السحر والآلهة. وإذا ظهر ما ينتمي لغير الواقع أو للأبطال الخارقين، فلا بدّ أن يكون ذلك في إطار خاصّ، كالسخرية التي أظهرها ثربانتس في "دون كيخوتي" كما ذُكر آنفا.

هذه النظرة التطوّريّة تعدّ الأشكال التعبيريّة جزءا من الوعيّ الإنسانيّ وإدراك الإنسان لذاته وممكناتها وللعالم من حوله. وبالتالي فإنّ التغيّر في وسائل التعبير هو تجلٍ من تجليّات الوعي والعقل الإنسانيّ. وتصوّر هيجل هذا أسَّسَ لأهمّ التفسيرات اللاحقة لتاريخ الرواية ونشوئها في العصر الحديث، لا سيّما تلك التفسيرات التي تنتمي للفكر الماركسيّ الذي سيربط فنّ الرواية ربطا مباشرا بظهور العصر الرأسمالي وبالطبقة البرجوازيّة، وهو ما سيناقش في مقال قادم.

التعليقات (0)