أخبار ثقافية

إيلي كوهين ومسلسل "الجاسوس": من صنع الأسطورة ؟

نتفليكس أنتجت مسلسلا يروي قصة الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين- أرشيفية
نتفليكس أنتجت مسلسلا يروي قصة الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين- أرشيفية

ثمة مفارقات كثيرة في الضجّة التي أُثيرت حول مسلسل "الجاسوس" –إنتاج نتفليكس 2019- الذي يروي قصة الجاسوس "الإسرائيلي" إيلي كوهين.


المفارقة الأولى تكمن في الهجوم على شركة نتفليكس بسبب انحيازها للسردية الصهيونية والسعي إلى ترويجها عبر عدة أعمال سينمائية ودرامية كان آخرها مسلسل "الجاسوس" وفيلم "الملاك" وقبلهما مسلسل "فوضى"،  إذ إنّ نتفليكس شركة أمريكية تتماهى مع سياسة بلادها المعادية للقضايا العربية بشكل عام والقضية الفلسطينية بشكل خاص، كما أن اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة يضخ أموالا طائلة من شأنها التأثير على الإعلام، وهو الأمر الذي أثبت نجاعته في التأثير في السياسات الدولية لصالح "إسرائيل" على مر سنوات طويلة. 


المفارقة في الأمر أننا نتناسى أن الوطن العربي قادر من حيث الإمكانات المالية والسينمائية على ضخ أموال طائلة لمواجهة الدعاية الصهيونية من خلال إنتاج أعمال سينمائية ودرامية تفنّد السردية الصهيونية أمام العالم، غير أن هذه الدول تضخ أموالها على نزاعاتها وخلافاتها وفي سبيل تخريب ثورات الشعوب وهدم استقرار المنطقة.


المفارقة الثانية أن كاتب المسلسل اعتمد على أسطورة كوهين التي صنعها الإعلام العربي أكثر من اعتماده على أرشيف الموساد "الإسرائيلي" الحقيقي، إذ إن الأنظمة العربية المعادية للرئيس السوري أمين الحافظ وظّفت إعلامها وصحفها في سبيل تضخيم الدور الذي لعبه هذا الجاسوس في سوريا؛ فحزب البعث (حافظ الأسد وصلاح جديد)( ) وجد فيه شماعة يبرر من خلالها هزيمة 67 ويحمّل تبعاتها لأمين الحافظ ومجموعته ويعزز وجوده من خلال تضخيم مساوئ النظام السابق. كما أنّ صحف أنظمة عربية أخرى( ) ساهمت في صناعة أسطورة كوهين في إطار عدائها للنظام السوري آنذاك وخلافاتها معه.


يظهر ذلك في المسلسل حينما يحاول أحد ضبّاط الموساد التخفيف عن زوجة كوهين وزرع الأمل فيها بأنه سيتم الإفراج عن كوهين عبر صفقة مع السوريين؛ إذ ستجيبه بأنها قرأت الصحف العربية وكلها تسخر من أمين الحافظ ومن المؤكد أنهم سيعدمونه. لقد كانت هذه الأكاذيب والشائعات النواة التي اعتمدها المخرج والمؤلف "الإسرائيلي" جدعون راف لصياغة عمل مبني على أكاذيب كبرى تقودنا إلى مفارقة ثالثة.


هذه المفارقة هي "الإسرائيلي المتخيّل" وهو إسرائيلي أخلاقي على المستوى الجمعي والفردي، إذ يحاول الإعلام الصهيوني إعادة إنتاج الذات وتصويرها عبر مدونة أخلاقية قادمة من أقصى الخيال لكنها ذات فعالية في كسب التأييد العالمي وتزوير الحقائق. تظهر هذه الصورة من الصدمة التي أصابت وزيرة الثقافة "الإسرائيلية" حينما فاز فيلم "خطوة الثعلب" –وهو فيلم إسرائيلي ينقد فكرة إسرائيل وجيشها- بجائزة عالمية في مهرجان البندقية السينمائي لأن هذا الفيلم يشوّه سمعة الجيش الأكثر أخلاقيةً في العالم حسب وصفها، وهنا يحتاج القارئ العربي لاستراحة قصيرة كي يستوعب عمن تتحدّث الوزيرة ومن ثم يحاول أن يستذكر أخلاقية هذا الجيش والمجازر التي ارتكبها ضد الشعب الفلسطيني عبر ثمانية عقود. في المسلسل يظهر ضباط الموساد وجواسيسه بصورة أخلاقية وممارسات غاية في اللطف، وقد أسعف الخيال المخرج في تصوير ضباط المخابرات الصهيونية وجواسيسها في ثوب إنساني غير معهود من خلال إضفاء صفات الشهامة والأخلاقية والشجاعة وتحمّل المسؤولية على هذه الشخصيات.


فنجد الضابط المسؤول عن تدريب إيلي كوهين داخلا في عملية تأنيب ضمير طويلة – مدتها ست حلقات على موقع نتفليكس- يرافقها شعور بالمسؤولية تجاه عائلة كوهين فنجده يظهر بين اللحظة والأخرى ليقدم مساعدة هنا وأخرى هناك وليعوّض غيابه دون إساءة أخلاقية للزوج البطل. وفي المقابل فإن كوهين يحاول دائما أن يظل وفيا لزوجته ويبدو زاهدا في النساء خارج إطار العلاقة الزوجية، ويشعر بتأنيب ضمير لأنه شارك في قتل ضابط أمن سوري في الأرجنتين وسيبكي لأنه غدر بصديقه الملازم السوري معزى زهر الدين وتنكّر له. كما ستظهر الحياة داخل مبنى الموساد هادئة والناس فيه لطيفون يمضون وقتهم في العمل وشرب النسكافية ومشاهدة المباريات.

 

إنّ أنسنة جهاز الموساد المرعب هي أكبر حلم يمكن أن تطمح الماكينة الصهيونية إلى تحقيقه؛ ففي حين يصنف هذا الجهاز ضمن أجهزة المخابرات الأكثر وحشية في العالم حسب منظمات حقوق الإنسان وفي الوقت الذي تستفيد فيه دكتاتوريات العالم من هذا الجهاز وخبراته فإنك تصطدم في مسلسل "الجاسوس" بجهاز وطني يتمتع أبناؤه بأحساسيس مرهفة، كما أنّ المبنى مصوّر بطريقة تجعل المشاهِد يشعر بأنه داخل إلى مبنى شركة ديكور وليس إلى جهاز مخابراتي له سيرة حافلة بالدم والتعذيب ومؤامرات الاغتيال والتصفية.


مفارقة رابعة مستقاة من التوراة تتعلّق بصورة الأنا في مقابل الآخر، فكوهين الذي اتخذ لنفسه جنسية سورية لتاجر مغترب يعود إلى أرض الوطن، تحت اسم "كامل أمين ثابت"، ينظر بازدراء إلى النساء العربيات ولا يشكلن في نظره موضوعا للاشتهاء والرغبة، وفي المقابل فإن العربيات يتهافتن لإغوائه والفوز به، حتى أن زوجة الرئيس السوري أمين الحافظ –التي تظهر كامرأة لعوب- تتحرّش به علانية أمام زوجها. وحينما يتم كشفه وإعدامه في ساحة "المرجة" في دمشق فإن عشيقاته من النساء سيبكين عليه، وسيودعه أصدقاؤه الذين غدرَ بهم بالدموع.  وفيما يظهر كوهين "إسرائيليًا" وطنيًا فإن الشخصيات السورية تبدو باحثة عن مصالحها ومستهترة ومتصارعة في سبيل الوصول إلى السلطة. وفي مقابل الصورة التي قدمناها عن جهاز الموساد فإن المباني الأمنية السورية هي مكان العنف والتسلّط والانقلابات التي تتوّج بالكثير من سفك الدماء.


أما فيما يخص الصراع العربي الإسرائيلي فإن الميزان الأخلاقي في المسلسل يميل لصالح  كفة الصهاينة إذ إن المسلسل يصورهم في ثوب المدافع عن نفسه وفيما يقوم العرب بالفعل فإن نصيب "إسرائيل" هو رد الفعل. ففي حين يحاولون بناء دولتهم فإن السوريين يقومون بالاعتداء على الفلاحيين والأبرياء من الأطفال والنساء –كما يصورهم المسلسل- ففي حوار بين الضابط ومسؤوله يعدد المسؤول الاعتداءات السورية والقتلى الذين سقطوا وهم يحاولون زراعة الأرض: أم فقدت أبناءها، فتاة في التاسعة فقدت والديها وساقيها، متطوّعة سويدية فقدت بصرها... وقبل أن يسأل المشاهِد نفسه عن طبيعة التطوّع الذي تقوم به السويدية يجيبك المسؤول الموسادي: "جاءت للبلاد للمساعدة في محصول البطاطا"! المفارقة أن هذه الأفعال نفسها هي الأفعال التي تقترفها "إسرائيل" ضد الفلسطينيين؛ إنها تكافح تأنيب الضمير من خلال تخيّل أفعالها الكريهة مكتوبةً في سيرة الآخر.


كل هذا سمح للمخرج الإسرائيلي جدعون راف المشبع بالروح الصهيونية أن يصوغ قصة بطولة قائمة على سلسلة من الأكاذيب وعلى تزوير الحقائق؛ فقد نشرت جريدة "الشرق الأوسط"( ) عشرة أخطاء تاريخية مقصودة في المسلسل من أهمها أن كوهين لم يلتقِ أمين الحافظ في الأرجنتين وأن الأخير لم يمنحه كتاب توصية لدخول البلاد، وأن هذا العميل لم يكن مقربًا من رجال الحكم المباشرين في سوريا ولم يشترك في تدبير الانقلاب الذي جاء بالحافظ إلى الحكم. الأمر الذي من شأنه أن يسقط الأسطورة التي صنعها غباء الإعلام العربي، وتلقفها الموساد كي يغطي على الفشل الذي أصاب العملية أمام الرأي العام "الإسرائيلي"( ).


المفارقة الأخيرة هي مفارقة ذاتيّة حول جدوى الكتابة بالعربية عن زيف الدعاية الصهيونية وكشفها للقارئ العربي الذي يفترض أنه يعرف ذلك. ولكن عزائي المؤسف أن المنطقة العربية تمر في سلسلة من التحوّلات السريعة والخطيرة التي أنتجتها صفقة القرن فيما يتعلّق بطبيعة العلاقات مع العدو الصهيوني، والتي أصبحت تفرض الزيف الصهيوني كوجهة نظر وتدافع عنه بطريقة غير معهودة عربيًا. 

 

 

 

 

[1]- انظر: أسعد أبو خليل، مسلسل نتفليكس –"موساد" عن إيلي كوهين، جريدة الأخبار.
[1] - انظر: إبراهيم حميدي، عشرة أخطاء تاريخية في مسلسل "الجاسوس " إيلي كوهين، الشرق الأوسط.
[1] -  المصدر نفسه.
[1] - أسعد أبو خليل، مسلسل نتفليكس –"موساد" عن إيلي كوهين.

التعليقات (1)
سمر
الخميس، 24-10-2019 01:59 م
يكفي كوهين فخرا انه جند حافظ الاسد الذي قام بتسليم الجولان لاسراءيل ولا زال نظامه وابنه من بعده جندي امين بخدمة اسراءيل و مصالحها في المنطقة

خبر عاجل