قضايا وآراء

دروس تونس الملهمة

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
كنت في حوار مع صديق قبل أسابيع قليلة حول العمل السياسي؛ إن كان مقتضاه الكذب والتلون والخداع، وكان اعتقاده أن هذه شروط لا فكاك منها ليشق السياسي طريقه. كنت أرد عليه أن بوسع السياسي أن ينجح بصدقه ومبادئه، لكنه كان يجد صعوبةً في تقبل إمكانية الجمع بين الصدق والعمل السياسي!

عقب إعلان فوز قيس سعيد رئيساً لتونس، أرسل إليّ الصديق مذكراً بحوارنا: "رئيس تونس هو أفضل مثال واقعي للمبادئ، لقد شاهدت مناظرته التي مثلت صفعةً لمعتقداتي حول العمل السياسي. إن الطهر والإيمان الصادق يعطي قوةً كبيرةً لصاحبه، أما الرمادية فهي هشة كثيراً".

هذا هو أحد الدروس المهمة في قصة فوز الرئيس التونسي الجديد: الصدق والوضوح والبساطة هي الطريق الأقرب إلى قلوب الناس، والكذب والتلون وإن ظن صاحبه أنه أمارة ذكاء، فهو ينطوي على هشاشة لا يمكن لها أن تقيم بناءً راسخاً في الأرض والزمان.

من أهم الدروس الملهمة في تونس أن الحرية تخرج أعمق وآصل ما في الشعوب، فالشعب التونسي حين تنسم هواء الحرية النقي انحاز إلى أصالته وإلى هويته الوطنية والدينية والقومية بغالبيته الكبيرة، إن الحرية ليست خطراً على المجتمعات بل هي الشرط اللازم لتكوين المجتمع الحقيقي. ثمةً ثقافة موروثة لا تزال تتوجس من الحرية وإن اضطرت أحياناً إلى مسايرة المزاج العام بادعاء احترام الحرية، هذا الموروث مدفوع بالاعتقاد بأن الحرية تفسد الناس، وهو اعتقاد ينطوي على وصاية يجب أن تظل قائمةً على الناس لتراقب طريقة حياتهم، لكن الفساد الذي قد تتيحه مساحة الحرية هو مقتضى الطبيعة البشرية التي ستنتج خياراتها الحقيقية إذا تحررت من الأغلال والإكراهات المجتمعية وسنكون أمام إنسان حقيقي بضعفه وقوته، بزلاته وبسمو روحه، وفي النتيجة النهائية سينتصر السمو الروحي في الشخصية الجماعية، وستُخرج الإنسانية أجمل ما فيها من عدل وإحسان ومكارم أخلاق.

تونس مثال متقدم في الحالة العربية في مساحة الحريات الشخصية المتاحة للفرد، وفي هذه الأجواء من الحرية تجلت الأصالة المستترة في أشخاص لا يحملون سمت التدين الظاهري، مثل المنصف المرزوقي ونائب البرلمان إبراهيم القصاص وأخيراً الرئيس قيس سعيد. وفي المقابل، هناك مثال المجتمعات التي تحكم الوصاية الخارجية وتشدد قيود الإكراهات المجتمعية من أجل الحفاظ على صورة للتدين الشكلي، ثم تختنق فيها الإنسانية وتموت الروح وتصاب بالارتكاس أمام أول امتحان يسير، مثل افتتاح مسرح أو حفل فني، لأنها أقامت علاقتها مع الناس على الإكراه، فيتحين الناس فرصةً للإفلات، وليس على حرية الاختيار التي تشعر المرء بمسؤوليته الذاتية.

من الدروس المهمة للتجربة التونسية الملهمة أنها أخرجت التنافس من ثنائية النظام السياسي القديم والقوى المعارضة التقليدية إلى فضاء أوسع، ومنحت قوى الشعب الحية دورها الطبيعي كونها هي المنبع والمصدر، وهي السلطة التي يجب ألا تعلو عليها سلطة.

إن تجربة الانتخابات التونسية الأخيرة أكدت تراجع النظام القديم، ولكنها أكدت كذلك أن البديل عنه ليس بالضرورة أن تكون المعارضة التقليدية، بل إن الشعب يملك من الحيوية والقدرة على التجدد ما يمكّنه من أن يفجر طاقات جديدةً.

إن قوة الشعوب تتمثل بقدرتها الدائمة على إنتاج الجديد وبتجنب تصنيم الأوضاع القائمة ومنحها صفة الأبدية، وفي الوقت الذي يمثل فيه حرص النظام القديم على المحافظة على مصالحه وكيانه وسلطاته، انتهاكاً لحق الشعب في حكم نفسه ومقدراته، فإن حرص المعارضة التقليدية أيضاً على المحافظة على موقعها ينمي شعوراً في داخلها بأنها هي البديل الأبدي الذي يمثل الشعب ويحتكر إرادته، فينتج هذا الاعتقاد ركوداً وتعطيلاً لسنة التجدد، لكن الحقيقة أن الجديد يتقادم ولا يظل جديداً، وأن من تخبو روحه ويفقد طاقته الدافعة عليه ألا يعطل قانون الحياة ويمنع ولادة روح جديدة. إن من حقه البقاء، لكن عليه أن يجدد نفسه وألا يبقي الناس رهناً لهياكله القديمة.

إن درس فوز قيس سعيد هو أن الشعب أكبر من أجزائه، وأنه لا أحد يملك الحق في ادعاء تمثيل الشعب إلى الأبد، وأن قوى الشعب المتجددة هي منبع النهر الذي لا يتوقف عن التدفق.

من دروس تونس الملهمة مدى هشاشة الحواجز السياسية المصطنعة بين الشعوب العربية، فالفرحة التي صنعتها تونس في عرسها الانتخابي الأخير سرت في الجزائر ومصر وفلسطين والعراق وكل بلاد العرب، والشعب التونسي في ساعة فرحته هتف بحرية فلسطين وعبّر عن شراكته مع الشعوب العربية التواقة إلى الحرية. هذا التفاعل الوجداني بين الشعوب العربية على ابتعاد المسافات بينها يثير الدمع في المقل، فهو يذكر بأن هذه الأمة نسيج واحد في دينها وتاريخها وثقافتها وقضاياها ومصيرها، وأن فكرة "عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى" موغلة في السطحية والإسفاف، فهذه الأمة أمة واحدة وقدرها قدر واحد.

لقد مثلت التجربة التونسية مثالاً ملهماً على نجاعة القوة الناعمة، فثورة تونس منذ بدايتها كانت ثورة الياسمين، وحين عصفت الرياح المضادة للثورات في الوطن العربي انحنت تونس كي تحمي نفسها من الانكسار، وبدا لوهلة أن النظام القديم قد عاد بتولي السبسي للرئاسة، لكن ثمة جنيناً من المكتسبات حافظ عليه الوعي الشعبي التونسي المتقدم، فخسارة جولة لا يضير، والقوة الناعمة تراهن على عامل الزمن والمراكمة الطويلة، وهي تلتف على المعوقات ولا تصطدم بها، وحين تغيرت الظروف المحيطة جاء قيس سعيد.

لم يكتب الفصل الأخير بعد من قصة تونس أو ثورات الربيع العربي، ويظل للحذر مكان، ولا بد من الاستمرار وعدم تسلل وهم الاكتفاء، لكن هذه الدروس المفيدة وغيرها تستحق أن تستلهمها الشعوب العربية وتنتفع بها في طريقها الطويل إلى الخلاص.
التعليقات (0)