أخبار ثقافية

رواية "النباتية".. سرد غني بروح المجتمع الكوري

تؤسس الرواية لاستعارتها المحوريّة عبر حدث تحوّل "يونغ هي" المرأة والزوجة العاديّة جدا إلى نباتيّة- جيتي
تؤسس الرواية لاستعارتها المحوريّة عبر حدث تحوّل "يونغ هي" المرأة والزوجة العاديّة جدا إلى نباتيّة- جيتي

تقدم رواية "النباتيّة" لهان كانغ سردا غنيّا بروح المجتمع الكوريّ، على مستوى أشكال الشخصيّات وأفكارهم عن ذواتهم ومجتمعهم، وارتباطاتهم العائليّة والاجتماعيّة، وعن قيمهم الثقافيّة والمعرفيّة، وبشكل خاصّ عن طعامهم ونكهاته وعاداتهم فيه، وما يمكن أن يُبنى على ذلك من صور للمجتمع ولهُويّته.


ولعلّ الجمال والسلاسة في بناء مقاطع الرواية السرديّة على مستوى وحداتها الصغرى في المشاهد المُفردة، وعلى مستوى الوحدات السرديّة الكبرى في فصولها الثلاثة والشخوص وحيواتهم وصورهم في علاقاتهم مجتمعة، يُبرز خصائصَ الرواية السرديّة التي تؤسّس لفضاء استعاريّ تنسجم فيه مُكوّناتُ المشاهد وصورُ الشخصيّات ومآلاتُها.


يظهر هذا في "النباتيّة" على الرغم من أنّ الرواية تتضمن مشاهدَ عنيفة، وتعبّر عن تشوّهاتٍ في العلاقات الاجتماعيّة وفي الهُويّة الفرديّة، لاسيّما فيما يتعلّق بهُويّة المرأة، وهذا يتطلّب تفسير فضاء الرواية وأحداثها باعتبارها مجازيّة للكشف عن وجهة النظر فيها تجاه شخوصها وهُويّاتهم وعلاقاتهم مع مجتمعهم.


وتؤسس الرواية لاستعارتها المحوريّة عبر حدث تحوّل "يونغ هي" المرأة والزوجة العاديّة جدا إلى نباتيّة. هذا الحدث يبدو للوهلة الأولى أمرا شخصيّا وربّما عاديّا في المجتمع الكوريّ، إلّا أنّه يصبح مركزا تتداعى بفعله تفاصيل حياة "يونغ هي" وعلاقاتها بأفراد عائلتها.


ردّة فعل العائلة القويّ والعنيف أمام خيار "يونغ هي" فيما تودّ أن تأكله وتبتعد عنه يؤدي، على مستوى القيمة المجازيّة للحدث، إلى تناول قضيّة مُقلقة في الوجود الإنسانيّ، وهي مدى امتلاك الإرادة الحرّة والقدرة على السيطرة على الذات وخياراتها أمام سطوة القوى الاجتماعيّة المحيطة بها، لاسيّما أنّ أحداث الرواية تتعلّق بامرأة أمام أفراد أسرتها.

 

اقرأ أيضا: الثنائيات في العربية.. كتاب عن لغة الضاد في عصر العولمة


تستشعر "يونغ هي" هشاشة وجودها وإرادتها بشكل رهيب، فتأخذ الأحداث، كسبيل للمقاومة والمواجهة، في مضاعفة معمارها الخياليّ، وموقف "يونغ هي" أساسا اعتمد على أحلامٍ تظهر فيها مجموعة من الصور العنيفة الممتلئة بالدماء والتعذيب، فتقرر أن تُطهّر نفسَها بامتناعها عن أكل اللحوم. هذا القرار الذي اتخذته هي بنفسها يُدخلها في مواجهات قاسية مع عائلتها، فتذهب مسافة أبعد في فعل التطهير الذاتي، الذي لا يركّز هذه المرّة على الصور الدمويّة في أحلامها، وإنّما على معنى الذات وقيمتها أمام تحطّم إرادتها وانتهاكها من الآخرين.


اكتشاف "يونغ هي" العفويّ لهذا المعنى يوصلها إلى إحساس باغترابٍ رهيبٍ عن محيطها كلّه، وعن ذاتها في نهاية المطاف، فتصبح فاقدة للأمان الذي كانت تحياه، وتشعر باختلال في توازنها النفسيّ، وهي المرأة العاديّة التي لا تحبّ الأحداث الكبرى ولا البروز والظهور بشكل مميّز، إنّها امرأة عادية تحيا حياة عاديّة، ولكنّها لا تحتمل عدم امتلاكها لإرادتها.


تُضاعف "يونغ هي" إجراءات التطهر فتتخذ قرارا بأن تصبح شجرة، وأن تُقلع عن كلّ أنواع الطعام، وتكتفي بدلا من ذلك بالماء لتكون على هيئة النبات تماما. ويصل الأمر بها إلى أن تقف بشكلٍ مقلوبٍ على يديها في مصحّة الأمراض العقليّة، ظنّا منها أنّها ستنبت لها جذورٌ من يديها وستنمو لها أوراقٌ وأغصانٌ من نصفها الآخر.


هذه التطوّرات في سلوك "يونغ هي" تبدو ظاهريّا من أجل التطهير من الصور الدمويّة التي ظهرت في الأحلام، غير أنّها على المستوى العميق تتعلّق في محاولتها الخلاصَ من القوى الضاغطة عليها. وهذا بدأ منذ ظهور ردّة فعل زوجها ضدّ قرارها، وهو الذي ارتبط بها أساسا لأنّها امرأة عاديّة لا تقوم بأيّ فعل غير مرغوب فيه، كما أنّها لا تبدي تأففا ولا انزعاجا من بعض التقصير أو العيوب في شخصيّته وسلوكه.
بذلك يكون فعلُ التطهير محاولة للخلاص من التشوّهات التي تجعلها شخصا غير فريد أو مميّز، والفرادة والاختلاف عن الآخرين أحد أهمّ ركائز الهُويّة بالمعنى الفرديّ، وفقدان ذلك يعني وجود اختلال في الهويّة الفرديّة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، يكون هذا التطهيرُ نفسُه وجها من وجوه الانتحار أمام السلطة الاجتماعيّة التي تعجز الذات الفرديّة عن مقاومتها بالسبل الكافية والمناسبة.


ردّة الفعل ضدّ اختيار "يونغ هي" وما آلت إليه تكشف أنّ ذلك القبول بالاعتياديّة جعل الحياة الاجتماعيّة في غاية الهشاشة، فمجرّد اختيار نوع الطعام يصبح حدثا مدمّرا للعلاقات الأسريّة والاجتماعيّة، ويصل الأمر في تداعيات الحدث ومآلاته إلى وضع "يونغ هي" في مصحّة الأمراض العقليّة، الأمر الذي يعني أنّ الدخول في المواجهات الأسريّة يجعل الإنسان مجنونا، وهذا يستدعي وصف المفكّر الفرنسي ميشيل فوكو لاستخدام الجنون وسيلة للإقصاء الاجتماعيّ، حيث تُطلق السلطة الاجتماعيّة أوصافَ الجنون والخبل على مخالفيها، وتجعلهم من ثم على الهامش بعيدا عن أيّ تأثير أو قيمة.


من هنا، يظهر أفق تفسير الجنون والصور والأفعال السرياليّة والمشاهد الجنسية اللاحقة في رواية "النباتيّة"؛ إنّها مواجهةٌ مآلُ الفردِ فيها عموما والمرأة خصوصا في مصحّة الأمراض العقليّة، حتى إنّ الأطباء والمختصّين النفسيين لا يستطيعون التواصل بشكل فعّال مع "يونغ هي" وفهمها، فهم في نهاية المطاف أداة رمزيّة تعبّر عن السلطة الجمعيّة في المجتمع، ولا تملك غير التشخيص الطبيّ والأدوية التي لا تنفع في تجسير الهوّة بين الذات ومحيطها.


ولعلّ النظر في طبيعة التبئير ووجهة النظر في الرواية على المستوى الشكليّ يؤكّد هذا التحليل؛ إذ تُسرد أحداث الرواية من وجهة نظر ثلاثة شخصيّات، وتُقسّم الرواية إلى ثلاثة فصول تبعا لذلك. الشخصيّة الأولى هي شخصيّة زوج "يونغ هي" الذي قدّم صورة زوجته التقليديّة، وفي أثناء ذلك، قدّم ضمنيّا صورة عن أفكاره عن نفسه وتصوّراته عن الآخرين، لا سيّما زوجته التي ارتبط بها لعدم إبداء مميّزات خاصّة فيها، فيظهر في عشاء عمل مع زملائه مُحرَجا جدا من زوجته النباتيّة، وبشكل خاصّ من عدم ارتدائها حمّالة الصدر، فيستغرق في التفكير بنظرة زملاء العمل له ولعائلته. ويظهر في هذا الجزء من الرواية الحدثُ الأساسيُّ الذي يقود، كما يظهر في الجزء الثاني من الرواية، إلى انفصال الزوجين عن بعضهما.


والشخصيّة الثانية هي زوج أخت "يونغ هي"، وهو فنّانٌ غير مميّز يصبح مهووسا بجسد "يونغ هي"، فيرسم عليه الزهور، ويوصله إلى لحظة حميميّة مصوّرة معها، فتشاهدهما زوجته وتُحضر لهما أخصائيي الأمراض النفسية، والشخصيّة الثالثة هي أخت "يونغ هي" ولديها متجرٌ لمستحضرات التجميل، وتحاول التعامل مع انهيار عائلتها وتحطّمها، وهي تشعر بشكل دائم أنّها كان ينبغي عليها أن تتصرف بشكل مختلف لتمنع كلّ الانهيارات لأفراد عائلتها والخلافات والمواجهات بينهم. هذا اللوم، بالإضافة إلى انهيار حياتها العائليّة وانتهاء أختها في حالة تلاشٍ بكل معنى الكلمة، يجعلها شخصيّة قلقة تماما على الرغم من محاولاتها الصارمة في أن تبدو متماسكة ضابطة لأعصابها ولردود أفعالها.
يتأكّد عبر الأجزاء الثلاثة إحساسٌ متواصلٌ بالفشل، فنحن أمام ثلاثة مكوّنات عائليّة تتحطّم حياتها، وفي اجتماع هذه المكوّنات تظهر صورة الانهيار الكبرى في مواجهة بنية اجتماعيّة صارمة وقاسية، لا مجال فيها للنزوع الفرديّ والتصوّرات الفريدة، فالآمال تتلاشى والطموح يتمّ إنكاره، وأيّة محاولة لاتخاذ القرار بشكل مستقل ستحطّم من قام بها. ومن المميّز في حضور وجهات النظر الثلاث هذه أنّها لا تتداخل مع بعضها ولا تعبّر عن اللحظة نفسها؛ فزوج "يونغ هي" يسرد الحدث وقت أخذها القرار، وأختها وزوجها يسرد كلٌّ منهما في مراحل مختلفة بعد سنوات من ذلك الحدث.


ويبدو ذا دلالة مهمّة أنّ الأجزاء الثلاثة في الرواية مسرودة من وجهة نظر أشخاص حول "يونغ هي" وليس من وجهة نظرها هي، على الرغم من اعتماد الرواية بكلّ تفاصيلها على حكايتها عموما وقرارها الإقلاع عن أكلّ اللحوم خصوصا، لكنّها لا تشارك بشكل مباشر في علميّة السرد، فتكون بذلك فاقدةً للصوت ولا تملك فرصة للحضور إلا عبر الآخرين، باستثناء المقاطع التي تظهر فيها أحلامُها في مواضعَ عدّة من الرواية بصورها المخيفة والمربكة. إنّ فقدانَها الصوتَ والمنظورَ تمثيلٌ لروح الرواية ومنظورها، فهي في مركز الأحداث، ولكن لا صوتَ لها!

التعليقات (0)