قضايا وآراء

فيديو هز عرش الإمبراطور (2)

أميرة أبو الفتوح
1300x600
1300x600

ربما يتساءل البعض: لماذا فعلت فيديوهات المقاول والممثل "محمد علي" ما لم تستطع فعله المعارضة، بجميع أطيافها السياسية، ولا القنوات المعارضة في تركيا المسماة "قنوات الشرعية" على مدار ستة أعوام؟! ولماذا استطاع من خلال "كاميرا موبايل" أن يحرك الشارع المصري ويحرره من حظيرة الخوف التي سجنه فيها السيسي ونظامه على مدار ستة أعوام؟

لقد استطاع الرجل أن ينقل مظلوميته للجماهير المظلومة، والتي هي أصلاً تعاني من نفس النظام، وكلمها بلغتها البسيطة الشعبوية، بلا عجرفة ولا استعلاء، كما يكلمها هؤلاء الساسة من برج عاجي، فاستطاع أن ينفذ إلى قلوبهم. في البداية قال لهم "أنا مخنوق"، وكأنه جاء ليفضفض لأهله، لأناس من ثوبه ومخنوقين، هم أيضا مثله بل من المؤكد أنهم أكثر اختناقا من شظف العيش وكبت الحريات، ويئنون من الآلام، ولا يستطيعون أن يصرخوا أو حتى يفتحوا أفواههم، فتلاقى الطرفان في المظلومية معاً، رغم اختلافها ونوعيتها عند كلا الطرفين، لكنها في النهاية مظلومية، بالإضافة إلى أن محمد علي جاء من قلب النظام ومن منظومته الفاسدة، فلقد تعامل معها طيلة ستة عشر يوماً وعرف كل خباياهم وأسرارها، مما أعطى لكلامه مصداقية عالية، فلقد شهد شاهد من أهلها.

 

استطاع الرجل أن ينقل مظلوميته للجماهير المظلومة، والتي هي أصلاً تعاني من نفس النظام، وكلمها بلغتها البسيطة الشعبوية، بلا عجرفة ولا استعلاء، كما يكلمها هؤلاء الساسة من برج عاجي

عاش "محمد علي" في ظل هذا الفساد وتربح منه، ثم تمرد عليه مؤخراً وأراد أن يفضحه أمام الشعب، ربما لحسابات شخصية انتقاماً ممن عمل معهم، لسوء معاملتهم له وأنهم لم يسددوا له مستحقاته المالية المتفق عليها، بمعنى "أكلوا عليه فلوسه"، مع أنه أوضح أنهم عرضوا عليه فيما بعد تسوية الأمر معه، ولكن بعد فوات الآوان، إذ كان قد تعدى الضرر الشخصي من فساد أجهزة الدولة إلى الشأن العام، في تحد عجيب للسيسي شخصياً، أو ربما هي صحوة ضمير، فأراد أن يطهر نفسه من رجس الفساد. فلقد قال "يمكن أقدر اتطهر"، أو ربما أيضا، وهذا هو الأرجح في تحليلي؛ أن هنالك جهة سيادية معينة أو جناح ما في جهاز حساس في الدولة قد مسه الضر من السيسي ورجاله، في ظل الصراع الدائر بين الأجهزة ومراكز القوى، فأراد أن يستغل مظلوميته لصالحه، قبل ظهوره بهذه الفيديوهات، وهو الذي أعده وهيأه للقيام بهذا الدور في سيناريو مُحكم ليصل لنهاية ما يريدها، أوربما تلقفته واحتضنته تلك الأجهزة بعدما لاقت فيديوهاته نجاحاً كبيراً وصدى عظيماً لدى الجماهير، فأرادت استغلاله لتصفية حسابات مع أجهزة أخرى.

فالرجل يتكلم بثقة مفرطة وتحد سافر للسيسي وصل إلى حد التهديد، ويستخدم مفردات وأوصافا وشتائم، تحط من قدر السيسي وتُحقر من شأنه، ليس فقط كرئيس جمهورية، بل حتى لأي شخص عادي، مما يوحي بأن محمد علي مسنود على جهة ما قوية.

كل هذه الإحتمالات واردة، ولا نستطيع الجزم فيها لغياب المعلومات، وأيا كانت دوافعه ومآلاته، فالأهم أن الرجل استطاع الوصول إلى الناس؛ لأنه غير محسوب على فئة معينة أو حزب بعينه، بل هو واحد من هذا الشعب المقهور، جاء بمفرده ليحدثه، ولذلك وصلت رسالته بنجاح لكل المصريين حتى الموالين للنظام..

ما قاله "محمد علي" من فساد وهدر لأموال الدولة وسوء الإدارة، هو غيض من فيض مما يعرفه الناس، ولا يتعدى كونه رأس الجبل الجليدي الذي يخفي تحته ما لا تراه الأعين، ومع ذلك تعايش معه الناس وتداولوه على ألسنتهم في جلساتهم الخاصة، وهم ممتعضون ولم يحركوا ساكناً..

فلقد كان هذا معروفاً لدى الشعب كله، قبل ظهور "محمد علي".. كم حجم الفساد الهائل في مؤسسات الدولة، وإهدار المال العام في مشاريع وهمية لا طائل منها ولا نفع من ورائها، عداك عن الملايين الكثيرة التي تنفق على مؤتمرات الشباب وغيرها من المؤتمرات الفارغة، والتي أصبحت شبه مقررة شهرياً لغرض واحد فقط، هو أن يتكلم الإمبراطور، ويستعرض إنجازاته الوهمية، وقدراته الخارقة التي حباه بها الله سبحانه وتعالى وجعله في مصاف الأنبياء. لقد قال على نفسه ذات مرة "وفهمناها سليمان"، وهو أيضا طبيب الفلاسفة، فلقد قال إن الله خلقه طبيبا يعرف المرض ويضع يده عليه، وجميع ساسة العالم ومفكرينه وفلاسفته يشيرون إليه ويقولون اسمعوا منه". وهو القائل للشعب بلغة الأمر والنهي: "ما تسمعوش لحد غيرى"، وكأنه يقول أنا ربكم الأعلى!!

منذ عامين تقريباً أو يزيد، كشف المستشار "هشام جنينة"، رئيس جهاز المحاسبات السابق، أن لديه مستندات تؤكد فساد الحكومة وتثبت إهدار 600 مليار جنيه من أموال الدولة، إضافة إلى القصور الرئاسية وما أنفق عليها من أموال طائلة، ولكنه يريد أن يسلمها للرئيس بنفسه، فكان جزاؤه الاعتداء عليه بالضرب والسحل في الشارع، ثم انتهى به المطاف بالحبس خمس سنوات بتهمة نشر أخبار كاذبة!
 
يعرف المصريون جيداً كيف تعمد السيسي إفقار البلد بإغراقه بالديون الثقيلة، التي ستظل عبئا جسيماً على الأجيال القادمة. لقد ارتفع الدين الخارجي فقط أثناء فترة حكم السيسي من 46 مليار دولار إلى 106 مليارات دولار (حسب تقرير موقع فايس الإخباري)..

يعرف المصريون تماماً كيف فرط السيسي في موارد مصر السيادية، كحقول الغاز في البحر المتوسط، والتي تقدر بمئات المليارات، وكيف فرط في سيادة مصر على أرضها، بالتنازل عن جزيرتي "تيران وصنافير" الاستراتيجيتين لصالح الكيان الصهيوني، وليس للسعودية التي كانت بمثابة المحلل لهما والدافع لثمنهما..

 

لم يتحرك الشعب ضد السيسي ويثور ويخرج إلى الميادين، خوفاً من البطش والتنكيل به من نظام فاشي لا يعرف غير لغة القتل أو الحبس، ولكن هذا الشعب، بفضل فيديوهات "محمد علي"، استطاع أن يكسر حاجز الخوف

كما يعرف المصريون كيف تم التنازل لإثيوبيا عن حصة مصر التاريخية في مياه النيل بتلك الاتفاقية المشبوهة، التي لم يطلع عليها أحد حتى وزير الري، ليشتري بها شرعنة انقلابه والاعتراف به كرئيس لدى "الاتحاد الأفريقي" الذي لا يعترف بالانقلابات العسكرية، ثم يجيء بعد ذلك في "مؤتمر الشباب" ليبرر فشل المفاوضات مع إثيوبيا واستكمال بناء "سد النهضة" ويعزوهما إلى "أحداث" 25 يناير، كما يطلق عليها، فلا يقول عنها ثورة، وهذا موضوع آخر ربما نتكلم عنه بالتفصيل في مقال آخر..

كل هذا وأكثر كان يعرفه الشعب المصري، ومع ذلك لم يتحرك ضد السيسي ويثور ويخرج إلى الميادين، خوفاً من البطش والتنكيل به من نظام فاشي لا يعرف غير لغة القتل أو الحبس، ولكن هذا الشعب، بفضل فيديوهات "محمد علي"، استطاع أن يكسر حاجز الخوف، فكانت هذه الفيديوهات بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، أو كما وصفتها جريدة "هآرتس" الصهيونية بـ"القنبلة العنقودية" التي لم يعد بوسع السيسي تجاهل شظاياها القاتلة.

فقد استطاع "محمد علي" أن ينال من هيبة السيسي ويحقر من شأنه، مما صغره في عيون المصريين، فاستطاع أن يغتاله معنوياً، ويكسر هذا التابوه، ويُحطم هذا الإله المزيف الذي صُنع على أعين قوى الشر في الغرف المظلمة، في دولة المؤامرات العبرية، مركز الثورات المضادة، وبأيد صهيونية.. صنعوه لأنفسهم، وأنفقوا عليه مئات المليارات من الدولارات، وأريقت من أجله أنهار من الدماء الزكية. ومما يؤكد هذا الكلام، ما قاله رئيس الموساد الأسبق "شفطاي شفيط" في لقاء تلفزيوني على القناة العاشرة الإسرائيلية: "في حال حطم المصريون مجددا حاجز الخوف، فإنهم سيحطمون عندها النظام الإقليمي برمته، وسيحدثون تحولات بالغة السوء والتعقيد على بيئة إسرائيل الاستراتيجية؛ بشكل يهدد كل الإنجازات التي راكمتها تل أبيب منذ صعود السيسي"..

 

في حال حطم المصريون مجددا حاجز الخوف، فإنهم سيحطمون عندها النظام الإقليمي برمته، وسيحدثون تحولات بالغة السوء والتعقيد على بيئة إسرائيل الاستراتيجية

إن تحطيم هذا الإله المزيف بيد "محمد علي" هو ما شجع الجماهير على تلبية دعوته بالخروج إلى الشوارع والميادين في محافظات عدة، وفي القاهرة وصل المتظاهرون إلى ميدان التحرير (ميدان الحرية) الذي شهد ثورة 25 يناير عام 2011، ومزقوا اللافتات التي تحمل اسم السيسي، وداسوا بالأحذية على صوره وأشعلوا فيها النيران، وهتفوا ضده منددين به ومطالبين إياه بالرحيل. وتعالت صيحات المتظاهرين التي هزت أرجاء الأرض: "الشعب يريد إسقاط النظام"، في مشهد أسطوري يعيدنا للأيام الخوالي في ثورة 25 يناير، وكأننا في الموجة الثانية منها نستنشق رحيق عبيرها، ونعيش في نسيم أجوائها المنعشة للروح والتي ظننا أنها غادرتنا، وظلمنا هذا الشعب العظيم، الذي قلنا إنه مات، فإذا بالروح تعود له من جديد، وتدب فيه الحياه مرة أخرى، ويعلن عن نفسه: أنا المارد الذي لا يموت قبل أن يسلم الشعلة لأبنائه.. إذ لوحظ أن الذين نزلوا للميادين لم يكونوا قد شاركوا في 25 يناير.. إنهم جيل جديد، ولد من رحم ثورة يناير العظيمة..

إن تظاهرات يوم الجمعة الماضية كانت بحق إنجازاً للشعب المصري، بعد سنوات من الركود والخنوع والإستسلام للطاغية، وهذا يُحسب "لمحمد علي" الذي أيقظه من نوم عميق دام سنوات، فحطم حاجز الخوف وأخرج المارد من محبسه، في أكبر انتفاضة شعبية ضد السيسي منذ أن تولى الحكم..

ولكن السؤال: كيف نستثمر هذا الحراك الشعبي لتحويله إلى ثورة شعبية واسعة تقتلع النظام من جذوره، وليس رأس النظام فقط؟ أي ليس كما حدث في ثورة يناير وأدى إلى انتصار الثورة المضادة فيما بعد، وهو ما نعاني منه الآن، وخاصة أنه تمت الدعوة إلى مليونية يوم الجمعة المقبل؛ تبدو فيها كل الخيارات مفتوحة، بدءاً من تحويلها إلى ثورة شعبية واسعة في كل محافظات مصر. فلا نغفل أن تصرفات رجل الشارع العفوية غير المحسوبة، هي التي ستحدد مسار الأحداث في قابل الأيام، أو لا قدر الله يدخل النظام وأعوانه في صراع مع الشعب ويخمد التظاهرات ويقضى عليها بالدبابة والرصاص، وخاصة بعد استقبال "ترامب" رأس النظام والثناء عليه، ما يوحي بدعمه له وإعطائه القوة التي يواجه بها الشعب.. 

هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.. المهم أن المارد قد خرج من القمقم ولن يعود إليه مرة أخرى بإذن الله، فقد أعلن عن نفسه وأثار الفزع والرعب في نفس الطاغية. ولن يعود الإمبراطور كما كان من قبل، حتى لو استطاع أن يكسب هذه الجولة، ويخمد الثورة، فلن يستطيع أن يئدها في صدور المصريين، بل ستظل مشتعلة، لحين إشعالها على الأرض مرة أخرى. إن ما بعد "محمد علي" ليس كما كان قبل "محمد علي"، رُفعت الأقلام وجفت الصحف..

التعليقات (0)